صفحات ثقافية

الذهاب إلى الموت احتجاجاً على مصلحة الضرائب

null
لوس أنجلس ـ بلال خبيز
رجل غاضب يقود طائرته الصغيرة ويتعمد الاصطدام بمبنى مصلحة الضرائب في ولاية تكساس الأميركية. البعض يقول ان الرجل فقد رشده. وهذا منطقي بالنسبة لقارئ يقرأ صحيفة الصباح ويستعد لنهار من العطلة الاسبوعية بعد اسبوع طويل من العمل. إذ ما الذي يجعل المرء يقرر ان الدنيا ضاقت إلى حد لم تعد تتسع له؟ طيب لنطو صفحة الرجل الذي غاب عن رشده وقرر الانتحار، لا لوم علينا ولا عتب. الرجل فقد رشده ولم نكن نحن من مسببي فقدانه الرشد. كثيرون رأوا في الاحتجاج الطائر على مبنى مصلحة الضرائب إشارة عميقة الدلالة تستوجب من الأميركيين شعباً ومسؤولين إعادة التفكير في نظام الضرائب الجائر المعتمد. وهو نظام جائر لأن الجميع يحاولون التملص من عقابيله والتحايل عليه. لكنها دعوة تذهب قبض ريح. إنها أشبه بدعوة شعوب العالم كله البريطانيين حكومة وشعباً الى تغيير نظام السير لديهم. لماذا يصرون على نظام يخالف النظام العام المتبع في العالم أجمع؟ ليس ثمة منطق وراء هذا كله. إنما أيضاً لن يكون منطقياً ان تقرر بريطانيا اليوم ان تغير نظام السير لديها. لقد سبق السيف العذل ولم يعد مجدياً التمسك بأهداب المنطق في هذه المسألة. فلننظر إلى الأمر من زاوية قبوله وتفهمه.
هذه مجرد ضربة للمنطق في عقر داره. لن يرد عليها، ولا أحد يستطيع ان يقوم الاعوجاج البريطاني في هذا المقام. فلنفكر باعتماد منطق آخر غير المنطق المعروف. لنقل ان حادثة الرجل الذي صدم مبنى مصلحة الضرائب بطائرته تحثنا على هذا الضرب من التفكير. في رواية “ثلج” لأورهان باموك، ثمة رجل يريد اكتشاف لغز الفتيات المنتحرات. اللغز يبدأ من نقطة عميقة تتعلق بأن الفتيات المنتحرات هن من اللواتي يرتدين الحجاب الذي ينص عليه الشرع الإسلامي. وهذا يحصل في مواجهة سلطة علمانية شديدة العنف، وتحض بلا وازع او رادع على تطبيق المبادئ العلمانية واعتماد الازياء الأوروبية. بل وتعاقب الفتيات اللواتي يجرؤن على ارتداء الحجاب بحرمانهن من حضور صفوفهن الدراسية. الفتيات على ما يرد في أكثر من مكان من الرواية، يقررن الانتحار لأنهن لم يستطعن احتمال الضغوط. لكن الفتيات مسلمات مؤمنات والشرع يحرم الانتحار وقتل النفس. إذاً كيف يصير التذرع بالإيمان سبباً من أسباب الكفر؟ وبكلام أقل تعقيداً، ما دامت الفتاة التي ترتدي حجاباً استجابة لما ينص عليه الشرع، تقرر الانتحار على ان لا تخلع حجابها، وتالياً تعصى الله والشرع في فعلتها كمنتحرة فلم لم تعص الله وتخلع حجابها؟ الإجابة ترد أيضاً في أكثر من مكان: الفتيات لم يستطعن تخيل انفسهن من دون حجاب. فضّلن الموت عاصيات على العيش بما لا يوافق صورتهن عن انفسهن شكلاً ومضموناً. الخلاصة: اتخاذ القرار بتمويت النفس اسهل من تغيير نمط العيش. نتحدث هنا عن رواية، والروايات ليست من الثقات. لكننا ايضاً نستطيع ان نستجلب حوادث كثيرة مشابهة. ما اسهل ان يقرر المرء موته. الامر ليس بسهولة ما يقوله رولان بارت، الذي يرى ان فكرة الانتحار تراود المرء كل لحظة. العبرة في التنفيذ. الأرجح اننا نستطيع ان نقلب المعادلة: فكرة الاستمرار في العيش تراود المرء كل لحظة، العبرة في التمسك برغبة العيش.
حادثة انتحار قائد الطائرة في تكساس كانت لتمر من دون كثير ضجيج لولا أنها أحالت الاميركيين والعالم أجمع إلى حوادث 11 ايلول من العام 2001. الرجل اختار انتحاراً أشبه بماركة مسجلة باسم تنظيم القاعدة. وتالياً أعادت إلى الأذهان بعض النقاشات المستغربة التي حفلت بها اوساط الغربيين والمستشرقين استناداً إلى سؤال معبر: لماذا يستسهل الإسلاميون الانتحار، او الاستشهاد؟ والأجوبة الانتروبولوجية والسوسيولوجية ذهبت بعيداً في استقراء الاحوال الإجتماعية. جيل كيبل رأى ان الإسلاميين اليوم يعيشون في أحزمة البؤس التي تحيط بالمدن الكبرى كالقاهرة واسطنبول، وتالياً استسهل التقرير ان هؤلاء يعيشون في ظل ظروف صعبة ومرهقة، مما يسهل عليهم اختيار الموت. انها حياة بلا لذائذ ولا مغريات. إذاً يمكننا القول ان فكرة الانتحار ترد لديهم أكثر مما ترد لدى من ينعمون بحياة رخية وسهلة. لم يلبث أوليفيه روا ان اكتشف ان هذه المقاييس لا تنطبق على الحركة الإسلامية التركية. لكن ذلك لم يفتّ في عضد السياسيين ومؤسسات المجتمع المدني. ما زالت القناعة التي تحرك الجميع في هذا المضمار هي نفسها: فلنحسّن الشروط المعيشية للناس، وبهذا نكون قد قضينا على الحاضنة التي تولد الافكار المتطرفة. لكن الانتحار ما زال يحدث في كل مكان. الأميركيون الصالحون كما يصفهم رايموند كارفر هم الاميركيون الذين يعملون طوال الأسبوع بجد واجتهاد، ويدفعون الضرائب والفواتير بانتظام. الأميركيون الصالحون هم من طينة أخرى غير طينة ناش في رواية بول اوستر “موسيقى الحظ”، الذي يقرر الموت مرتين: مرة حين يخرج من نظام الحياة الأميركي نحو الطرقات السريعة، فلا يفعل غير التجوال في سيارته بين الولايات، ومرة أخرى حين يقرر في اللحظة الاخيرة ان يصدم سيارته بالشاحنة التي تسير في مواجهته. هل في وسع المرء ان يفهم دوافع ناش في الرواية. طبعاً نستطيع، كذلك نستطيع ان نفهم دوافع الفتيات المسلمات في رواية باموك. ذلك اننا حين نقرأ نستسقي الموت وحوادثه. حين نقرأ نبتعد كثيراً عن العيش وندخل في مواجهة الموت. ليس في وسع المرء التقرير بسهولة ان القراءة هي نشاط موتى. لكنها تقترب من هذا المزلق الخطر كثيراً. إنما ماذا عن الكتابة؟ اليست هي في معنى من المعاني فعل موت؟
على مستوى أكثر تحديداً، يمكننا أن نتذكر معنى الموت عند ساراماغو. المرء لا يموت في اعتقاد ساراماغو لأنه يبقى في ذاكرة الأحياء. الكاتب الذي يكتب، يكتب لأنه يريد ان يبقى منه أثر بعد موته. هذا أمر لا جدال فيه. مع ان بعض الكتاب الذين أحبهم يعلنون بلا كلل انهم لا يهتمون بما سيجري بعد رحيلهم. لكن الكتابة في حد ذاتها هي أثر، اثر الرجل الذي كان حياً ذات يوم. كل كتاب بهذا المعنى هو قطعة ماتت من رجل كان حياً. عباس بيضون كان يريد دائماً ان يتجاوز نفسه، يتجاوز ما كتبه. هل يعني هذا أنه كان دائماً يشعر مع كل قصيدة ان قطعة منه دفنت فيها؟ ثمة قمة نحاول تجاوزها دائماً. ليس الكتّاب فقط، بل جميع الناس. حين يعجز المرء عن تجاوز نفسه، يصل إلى قمة عطائه. لا قمة يستطيع تجاوزها بعد ذلك. ومنذ ذلك الوقت يبدأ رحلة البحث عن موت ما. الراشد على ما يقول جان بودريارد ساع نحو الموت. ليس ثمة ما يؤخره عنه غير شعوره ان ثمة ما لم ينجز بعد. هكذا يبدو الانتحار بالنسبة للمنتحرين كما لو أنه عصا البدل في السباق. يريدون تسليم الراية لآخرين لأنهم تعبوا. بذلوا من مستقبلهم ودفعوا ما تبقى لهم من أيام من أجل ذكرى. نحن نعرف ان الميت لا يهتم بما سيجري ويحصل بعد موته. لكننا نعرف ان من يقرر الانتحار هو الشخص الذي يعلن سبب قراره قبل إقدامه على الانتحار، الموت حدث جلل قبل ان يحصل، لهذا يموت الميت، ويبكي الأحياء. الموت هائل وعميق وفج حين لا يصيبنا، وحين نكون شهوداً عليه. أما الموتى فهم الذين ينجون من استشعار هوله. والمنتحر بهذا المعنى، أكان مصروعاً بسبب العشق او بسبب حب المخاطرة، ام كان مناضلاً مقاتلاً من أجل قضية يؤمن بها، ام معترضاً على سياسات وسوء إدارة، هو شخص قرر قيادة سيارته على الطرقات السريعة من دون هدف محدد. لقد أنهى واجباته، ولم يعد ثمة ما يحمله على التمسك بالحياة، على نحو ما فعل ناش في رواية بول أوستر الآنفة الذكر.
ماذا لو عدنا إلى السؤال المستغرب: لماذا يستسهل المناضلون المسلمون الموت؟ وسألنا سؤالاً آخر، لماذا يستسهل الأفراد في الغرب الموت؟ في السؤال الأول ثمة تعميم: كل المناضلين المسلمين يرغبون بالموت. في السؤال الثاني ثمة تخصيص: من يقرر الانتحار هو شخص خرج على الإجماع، ولم يعد مواطناً أميركياً صالحاً. والحال، يمكن الذهاب أبعد. ما يمنع الأميركي من الموت واقع أنه لا يملك وقتاً للتفكير بالموت. ما يتيح للإسلاميين التفكير بالموت واقع أنهم أقل انشغالاً بالحياة الدنيا. لكن الإسلام يرفض التمويت والانتحار: الحياة الدنيا بالنسبة للمسلمين هي حياة من اللذائذ والمتع، ويجهد هؤلاء على ان لا ينشغلوا بمتع الدنيا الزائلة عن متع الآخرة الخالدة، وتالياً يمكن التقرير ان ما يخسره الإسلاميون ليس أقل من حياة ويجدر بالمرء ان لا يخسرها لسبب غير وجيه. الحياة بالنسبة للأميركيين هي المواعيد: وقت العيادة ووقت الرياضة ووقت الجنس ووقت العمل. الأميركي لا يجهد في إطالة عمره لأن الحياة رخية وبديعة، بل لأنه يخوض سباقاً قاتلاً مع الوقت، وعليه ان يكون في أتم صحته ليستمر وقتاً أطول في السباق. أما الذين لسبب او لآخر يخرجون من السباق، فهم هؤلاء الذين لا يذكرهم أحد، مهمشين ومتشردين ومعزولين في زوايا الطرقات، او هؤلاء الذين يعلنون موتاً صاخباً لأنهم تذكروا فجأة ان الحياة كان يمكن ان تكون ممتعة ولذيذة، وكان يجدر بهم ان يعيشوها ويسعون إليها بدلاً من السعي القاتل الى كسب الوقت.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى