كم على المثقف أن يقترب من السلطة
عباس بيضون
إلى أي مدى ينبغي أن يقترب المثقفون من السلطة. في أزمنة التغيير السياسي يقتربون كثيراً. الحاجة الى هيمنة وشرعية جديدة تتطلب حضورهم. مع صعود أحزاب المثقفين وتأميم الثقافة يغدون اقرب الى السلطة ولكن أيضاً اقرب الى عسفها، تجارب مصر وسوريا والعراق والجزائر وفلسطين متقاربة من هذه الناحية. الثقافة المؤممة هي ايضاً سلطة، ولكن الحاجة الى هيمنة ترفع مثقفين الى الحكم او تهلكهم في الزنازين. في لبنان الحاجة الى برستيج ثقافي مجرد طلاء وسرعان ما يتم نسيانها، وزارة الثقافة التي لم تُقلْع الى الآن مثل.
ما يدعوني الى هذا التأمل رحلة الى المغرب بمناسبة معرض الكتاب. قبل ذلك راجعت السجال الذي دار بين محمد بنيس وزملائه القدامى في بيت الشعر. يأخذ بنيس على زملائه انهم استتبعوا الشعر للسياسة وقدموا المعايير السياسية على الشعرية في اختيار إدارة البيت. لم يبق بيان بنيس بلا رد. تلقى واحداً من زميل قديم هو صلاح ابو سريف وآخر من الإدارة الحالية لبيت الشعر. الردان يتهمان بنيس باحتراف التشكي ودعوى الاضطهاد وكلاهما يرى في تولي بنيس الرئاسة ثلاث دورات متتابعة تعلقا بالسلطة لا يستقيم مع اتهامه للآخرين بذلك. يهمنا ان نعرف ان «بيت الشعر» غدا مع صعود كاتبين الى وزارة الثقافة سلطة على نحو ما، الصراع على «بيت الشعر» لن يبتعد منذ الآن عن ذلك.
وصلنا الى كازابلانكا، لا اعرف لماذا اختلفت كازابلانكا اليوم عن تلك التي عرفتها منذ سنين طويلة، وكنت زرتها بدعوة من بيت الشعر عهد رئاسة بنيس، اعرف ان كارا مدينة حديثة لكنها ذات طراز، المعمار المتوج بالأخضر وسط الحدائق هو ما بقي في ذاكرتي، اما الآن فمعمار عالمي سائب بلا أي طابع. يمكن ملاحظة الشوارع المستقيمة والمربعات الناتجة عن تقاطعها ولا نستغرب حين يقال إن كازا بنيت لتكون توأماً لنيويورك، حتى جامع الحسن الثاني الذي هو قبلتك اني توجهت لا يبدو الآن مسيطراً شأنه في الزيارة الأولى. لم تتغير المدينة بالتأكيد الى هذه الدرجة منذ ذلك الحين. تغيرت الناحية فقط وكازابلانكا مدينة لـ7 ملايين. مع ذلك للمدينة أسطورتها، في هذا المقهى الذي قادنا إليه محمد بنيس في القلعة القديمة قيل ان البحر كان يلامس جدران القلعة آنذاك. تذكّرت مدينة الجزائر، من بحر وقلعة يمكن ان تولد أسطورة فكيف إذا اضيف إليها قبر ولي، وحكاية تعليمية عن بنت الولي البيضاء التي سميت المدينة باسم دارها (دار البيضاء). للمدن الحديثة ايضاً أسطورة اقدم منها بكثير.
ساعتان بيننا وبين الدار البيضاء، بعد في الزمان وبعد في المكان، الأمر معقد فعلاً. حين وصلنا الى لقاء السيد الوزير كان الوقت قفز ساعتين اضافيتين وصرنا في الحادية عشرة ليلاً، ليس هذا اول الالتباسات خلطت بين جان دانيال (رئيس تحرير النوفيل اوبسرفاتور) والناقد توفيق بكار، الوزير بنسالم حميش روائي معروف من رواياته «زهرة الجاهلية» و«مجنون الحكم»، روايتان اثنتان كما يدل اسمهما، وبدلاً من المؤلف التراثي وجدنا محدثا مرحا، راوية قصص يحفظ الشعر كما قال. بأربع لغات، العربية والفرنسية والانكليزية والاسبانية.
كان تطاير لنا ان ثمة مقاطعة للمعرض قبل الأدب المقاربة، والسبب مالي. اتضح بعد ذلك ان الوزير الذي يتباهى بأنه اعاد الى الخزينة مئات الألوف حجب هذا العام عن المشاركين، مغاربة وغير مغاربة في المعرض مكافآتهم التي لا تزيد عن 1200 درهم تعادل مئة يورو عداً ونقداً. أراد الوزير هنا ان يتفوق على أسلافه في الوزارة الذين تركوا صندوقها خالياً مع ديون مستحقة.
لقد أبدى هكذا حرصه على المال العام، لكن على حساب كتاب فقراء يقصدون كازابلانكا من اقاصي المغرب مستقلين قطارات تكلّف ما تكلّف، نازلين ضيوفاً على أهل واصحاب في كازابلانكا، لا يكلفون الوزارة سوى هذه الأعطيات الزهيدة، مئة يورو فقط لا غير. الأدباء المغاربة قاطعوا من أجل مئة يورو والوزير سلف الخزينة عن كل واحد مئة يورو، يا للبؤس من هنا وهناك. انه اقتصاد الأدباء، لو حسبنا كل ما وفره الوزير فلن يزيد عن عشرة آلاف يورو، 15 ألف دولار، مبلغ لا بأس به كمنحة لتلميذ او تعويض سفر لواحد، أما بالنسبة للخزينة فهو لا يساوي بالطبع كلفة عشاء رسمي. مبلغ كهذا يضيع مثله كل يوم اضعاف مضاعفة ولا ينتبه احد، أراد الوزير الذي لا يبدو عليه الزهد ان يرد دريهمات الى الخزانة. لكنه بدون تبصر، اثار عليه مئات الأدباء، وفتح عليه عاصفة حقيقية.
بنسالم حميش وزير الثقافة من الاتحاد الاشتراكي حزب بن بركة الذي تدهورت أحواله من الحزب الاول في البلد الى الحزب الخامس ولا يبدو انه يستعيد حظوته، مع ذلك لا يزال وزير الثقافة منه ولا يزال اتحاد الأدباء بإدارته ولا يزال حزب المثقفين الاول. الملكية في المغرب ملكية بحق والمخزن (أي العرش) مؤسسة مكينة تقوم على تقاليد مئوية والسلطة، أيا كان موقعها، تندرج في نظام هرمي معقد. من المفارقة ان يصعد الى هذا النظام بحكم المحاصصة الحزبية أديب يجد نفسه، وهو الهامشي في قلب الهرم وقلب النظام. كانت هذه حال محمد الأشعري الشاعر وثريا جبران الممثلة واليوم بنسالم حميش. والثلاثة من الاتحاد الاشتراكي. وجد الثلاثة أنفسهم في القصر ولا نعرف ماذا صنع القصر لهم. لكننا نفهم ان بنسالم حميش في حرصه المالي كان يريد من هذه الناحية ان يتفوق على رفيقيه. وان الذين قاطعوا المعرض بسبب ذلك، كان كثيرون بينهم من الاتحاد الاشتراكي. وان صحافة الحزب ناوأت الوزير، وزملاؤه في الوزارة من الحزب ناوؤه، وان المعركة كانت تقريباً في قلب الحزب. فأحد «الرفاق» وصف الوزير بأنه هو «مجنون الحكم» الاسم الذي كان عنوان رواية لحميش نال في الاغلب جائزة عليها فهو محظوظ في الجوائز. يمكن القول ان الوزير ضرب من بيت أبيه، لكنه جنى على نفسه واستحق لذلك ما اصابه. لقد وضع نفسه في وجه الأدباء والمثقفين، أي جمهور وزارته ورعاياها، لحساب فكرة دوانيقية او دكاكينية عن الاقتصاد وعن الدولة. لن يطول الأمد بحميش وزيراً على الأغلب لكن سلفه سيكون من حزبه ويمكن ان نفكر من الآن بالشاعر حسن نجمي. مع ذلك فإن السؤال يبقى قائما، ماذا فعلت السلطة بالحزب ولأي درجة ينبغي ان يقترب المثقف من السلطة، اخطأ حميش ضد جمهور حــزبه وجاءه الرد من حزبه فأين صار الحزب بالنسبة الى السلطة؟ واين صارت السلطة بالنسبة الى الحزب؟
تفصيل بسيط. يوم الأمسية اجتمعنا شوقي بزيع ومنصف الوهابي ومحمد حلمي ريشة وأنا في بهو الفندق بانتظار الباص. لكن الباص لم يأت. لم يكن حدث اختلال مماثل قبل هذه الساعة. اتصلنا بالسيدة التي استقبلتنا، لكنها قالت انها تتسوق والأمر ليس في عهدتها. بعد ساعة وعشر دقائق ارسلوا باصا لنقلنا لكننا لم نقبل، ضاعت الامسية رغم ان الحضور، كما علمنا فيما بعد، انتظر طويلاً. تأخرت الندوة التي سبقتنا نصف ساعة فكان هناك وقت كاف لتدارك كل شيء لكن أحداً لم يفعل. هل كان ذلك عفوا ام ان ثمة تدبيراً ما من قبل جهة قد تكون نحن. لا أنكر اننا كنا في حرج فالشعراء المغاربة مقاطعون وما جاء كان على قدر تمنيّنا اقصد تمنيّ أنا على الأقل بدونا كمقاطعين، لكن ليس للأمر أهمية، الوزير ومقاطعوه هم في غمار لعــبة المئــة يـورو المفقــودة. ليس هناك مزيد من الشرشحة، أيا كان المصيب والمخــطئ فالنزاع على لا شيء. انه تمرين سيئ على السلطة يغرق فيه المثقفون والحزب والوزير معاً، أمس استقبل الوزير وحسن نجمي معا ولي العهد البالغ خمس سنوات في المعرض، كــان هنــا النظام الفعلي حيث لا يسمح بأي هفوة. حيــث التقــاليد والنــظام ولا مجال للخفة او المزاج او اللعب.
السفير الثقافي