بطالة سرية
خيري منصور
البطالات عديدة، منها المقنعة، والسرية ومدفوعة الأجر وإذا كانت البطالتان المقنعة ومدفوعة الأجر معروفتين، وتم تداولهما في عدة سجالات، فإن البطالة الأخطر هي السرية لأن ظاهرها ينبئ عن عكس باطنها، وهي تخص المثقفين أكثر من أية شريحة أخرى، خصوصاً في عالمنا العربي الذي يشكو منذ زمن من استنقاع مزمن، وقد يتوهم المثقفون بأنهم إذا قالوا كلماتهم ومشوا تبعاً لوصية الراحل كامل مروة فإن الأمر يكتمل، والدور يؤدى.
وقد تصح مثل هذه الوصايا في زمن ما، لكن زمننا يتطلب من المثقف أن يقول كلمته ويقف كي يتأكد من أنها ممنوعة من الصرف ومنزوعة الدسم، وأنها مجرد طقس، ما أن تسدل الستارة عليه حتى ينتهي كل شيء.
إن من يكتبون ويرسمون ويعزفون ليسوا علماء عاكفين في مختبراتهم السرية والبعيدة عن أعين الناس، لأن مادتهم وبضاعتهم هي مشاعر البشر وأحزانهم ومجمل شجونهم وأشواقهم المكظومة، وشيئاً فشيئاً أدى الاستسلام إلى هذه القاعدة الطقوسية إلى إفراغ المثقف من دوره التاريخي، وبالتالي الاجتماعي الذي لا بد أن يفضي إلى موقف سياسي، وقد يكون الاسراف النقدي في الحديث عن مصطلح الالتزام كما شاع في خمسينات القرن الماضي هو الفزاعة التي دفعت المثقفين إلى التشرنق والانكفاء، لأن سوء فهم أصاب ذلك المصطلح شأن سواه من المصطلحات القابلة للتأويل، بحيث اختلط الأمر على البعض فتصوروا الالتزام إلزاماً، وهكذا اندلعت لديهم هواجس الحرية والدفاع عن حق الذات في التعبير عن نفسها.
وعدد المشتغلين في مهنة الكتابة على امتداد خطوط الطول والعرض في التضاريس العربية يدعو إلى الدهشة، لأن ربعهم يكفي قارة أو شبه قارة، وتلك حكاية أخرى ليس هذا مقامها، والأهم الآن هو البطالة السرية التي يعيشها هؤلاء.. رغم أن الطنين يوهم السامع أو المشاهد بأن هناك خلايا نحل لا تكف عن البحث عن الرحيق، وأن جرار العسل قادمة ومواسمها غزيرة.
إن مثقفاً تعاني أمته من هذه الأمية الوبائية وهذا الحصار والاندحار والتهميش الكوني وبها كل هذا العدد من المرضى وأطفال الشوارع والتائهون الذين لا بوصلة لهم، لن يكون حاله كحال مثقف سويدي أو فنلندي أو حتى بريطاني، فالأرض تحت قدميه رخوة وأحياناً تتحول إلى دوامات كالأفخاخ التي تهدده بالغرق، إنه لا يملك من فائض الرفاهية ما يجعله منكفئاً وعاكفاً على تأليف كتاب أو رسم لوحة أو عزف مقطوعة موسيقية، لأن البيئة من حوله تعاني من عدة تلوثات دفعة واحدة، تلوث يشمل الحواس كلها بدءاً من السمع حتى البصر، وضجيج مبهم يفرزه واقع أشبه بالمحيط الذي قد يكون سطحه الأزرق هادئاً، لكن حروباً بالغة الضراوة تدور في أعماقه.
وهذا ما يفسر لنا ظاهرة بدت لبعض الوقت غامضة وعصية على التفكيك، هي فقر الثقافة بمعناها المعرفي الشامل لدى من تقتصر اهتماماتهم على الأدب فقط أو الرسم والموسيقا.
لقد رسم بيكاسو ودالي وغيرهم من السورياليين والدادائيين تجريدات لا علاقة لها بما يجري في الواقع، لكن ما أن ضغط الواقع على أنوفهم حتى أصبحوا أطرافاً فاعلة في حروب أهلية ودفاعات باسلة عن الحرية، لهذا توشك لوحة جورنيكا لبيكاسو أن تكون أشهر منه، وذات يوم اتجه ابرز المثقفين الوجوديين في فرنسا إلى باطن الأرض ومنهم من استبدلوا النايات بالبنادق لأن وطنهم في خطر.. هذه البطالة السرية.. إلى متى؟.
الخليج