صفحات ثقافية

أَرَاضِي الشِّعـر

null
صلاح بوسريف
في الرواية، كما في القصة، لا أحد يَسْتَنْكِرُ ما جرى فيهما من تجريب. لم تَعُد خَطِّيَةُ السَّرد هي نفسها، ولا حتى المفهوم الكلاسيكي للزمن، الذي كان يسير بنفس وَتِيرَة السَّرد، يَحْظَى بنفس المعنى. البِناءُ كاملاً، في الخطابات السَّرْدِيَة، عَرَفَ انْزِياحَاتٍ كبيرة، قياساً إلى ما كُنَّا قَرَأْنَاهُ في الروايات الكلاسيكية. وهو ما انعكس علـى النَّظريات النقدية المُحَايِثِة لهذه الخطابات. تَعَدَّدَتِ المفاهيم، وتَنَوَّعَت، وأصبحت أكثر مُرُونَةً في وصف طبيعة التَّحَوُّلات، وأشكال التجريب في هذه الكتابات.

[2]
في الشِّعر، وأنا هنا أَتَحَدَّثُ عن الكَثْرَةِ أي عن المُقْتَرَحَات الشِّعرية المُخْتَلِفَةِ، ظَلَّ النَّقدُ، وأُشِيرُ إلى النقد العَربيِّ بشكل خاصٍّ، خارجَ ما يجري في هذه الأراضِي. نفس المفاهيم التي بها قُرِئَ شِعْرُ الماضِي، بها نَقْرَأُ اليوم الشِّعرَ المُعاصِرَ، ونفس ما فُسّـِرَتْ به ‘ حداثة القصيدة’، كما أُسَمِّيها، عند ‘ الرواد ‘، مثل السياب، وغيره مِمَّن عَاصَرُوهُ، هو ما تُفَسَّر( !) به التَّجارب الشِّعرية الرَّاهِنَة. لا أحد من هؤلاء الذين قَرَأوا بعض هذه التَّجارب، اسْتَطاعَ أن يُراعي فَرْقَ الهَواء بين مفهوميْ المُعاصَرَة، ولا أن يُعطي للحداثة ذاتِها، معناها البعيد، أقصدُ حَرَكِيَتَها وصَيْرُورَتَها.
ما أعنيه بالمُعَاصَرَة، ليس الحُضور في الزَّمن ذاتِه، وأَسْتَعِيرُ المفهومَ، الذي أَقْصِدُهُ، من عبد الكبير الخطيبي؛ المُعاصَرة باعتبارها ‘ حاضِراً خاضعاً للتَّأجيل باستمرار’. الزَّمَنُ، هُنا، صيرورة دائمة، أنْفَاسٌ تَتَوَالَى من دون انقطاع، واسْتِمْرارٌ لا يَعْرِفُ الانْكِفَاء، ما يعني أنَّ المُعاصَرَةَ، هي حَرَكَةٌ تَتِمُّ في الزَّمَنِ، فيما هـي تَتَجَـاوَزُهُ
وتَتَخَطَّاهُ باستمرار. هـي اسْتِئْنَافٌ وتَرَحُّـلٌ، وليست إقامةً أو اسْتِقراراً. إنَّها قَلَقٌ وليست طُمَأْنِينَةً.
تَكْتَسِبُ الحداثة معناها البعيد، من صيرورة هذا المفهوم. فثمَّة مَا يَأْتي مِنْ ماضي الشِّعـر، أي من القصيدة، بِمُقْتَرَحِها القديم، أو ‘ العمودي’، وحتـى ‘ الحُرّ’، وكَأَنهُ جاء من زَمَنِنا. النَّصُّ، في مثل هذه الحالة، رغم ما يَفْصِلُنا عنه زَمَنِياً، كان يَأْتي من المُسْتَقْبَل، وليس من الزَّمَن الذي كُتِبَ، أو قيل فيه، وهذا هو المعنى الذَّائِب للحداثة، الذي يَتَشَرَّب ذَوَبان المفهوم المُتَصَيِّر للمُعاصَرَة، دون أن يَحْصُرَها في سياق زَمَنِيٍّ، أو جمالي مُغْلَقٍ.

[3]
في تَصَوُّرِي، أنَّ هذا الخَلْطَ، في حَصْر الشِّعر، أولاً، في ‘ القصيدة’ وحْدَها، دون النظر في ما جرى في الشِّعر العربي، عبر مُختَلف أَعْصُرِه، من اقتراحات تَمَّ السُّكُوتُ عنها وَطَمْسُها، دون أن أعودَ لذكر الأسباب، واختزال المفهوم الأوسع للِشِّعر، ثانياً، في الوزن أو العروض، على حساب مُكَوِّنَاته الأخرى، أي باعتبار الوزن، الدَّال الأكبر في الشِّعر الذي من دونه لا يَحْدُثُ الشِّعر أو يكون؛ هو من الأسباب التـي أدَّت إلـى تَعْطِيلِ صيـرورة النقد، وإلى فَهْمِه المُسْتَقِر لِمَعنَيَيْ الحداثة والمُعَاصَرَة. كما أنَّ النظرية النقدية، عندنا، لم تَمْتَلِك جُـرْأَةَ الشِّعر، ولم تَسْتَطِع أن تكون وَصْفِيَةً، فالناقد المُنْشَغِل بالشِّعر، لا يَسْتَمِدُّ مَفْهُومَاتِه مِمّا يَجري في النُّصُوص والتَّجارب، فهو يكْتَفِي بِتَشْيِيدَات هذه المفاهيم التي هي، في أصْلِها، وَصْف لِمُقْتَرَحٍ شِعْرِيٍ، لهُ سِيَاقَاتُه المعرفية والجمالية المختلفة، وهو آتٍ من زمنٍ غير مَحْكُوم بما يطالُ زَمَنَنا من انْقِلابات في المفاهيم والتَّصَوُّرات، وفي مُقْتَرَحات الكتابة نفسها.

[4]
هذا ما لم يَحْدُث في الرواية. للتاريخ والمكان، أي زمن الرواية، والجِهَة التي منها جاءت، دور في قَبُول التَّجريب وتَبْريره. عكس ما جرى في الشِّعر، الذي نَظَـرْنا إليه باعتباره تَرِكَةً جاءت من ماضي الثقافـة العربية، وكُلّ ما أتى من السَّلَف نَظَرْنا إليه بتبجيلٍ وتَمْجِيدٍ، واعتبرناه من مُسَلَّمات المعرفة عندنا.
ذَهَبْنا بعيداً في هذا التَّمْجِيد، باعتبار الشِّعر، وتحديداً ‘ القصيدة’، مكاناً لِلْعَرَبية، أعني لِلُّغَةِ، ما تَرَتَّبَ عنه تَكريس القصيدة، ليس كنَمَطٍ في الشِّعر فقط، بل وفي تفسير الكَلام المُشْكِلِ في اللِّسان.
العربية التي عَنَاهَا ‘ التدوين’، هي عربية ما قبل النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة. نفس النظام حَكَم باقي التَّشْيِيدات الثقافية والمعرفية الأخرى.
زَمَنٌ مُغْلَقٌ لِمُمارَسَة كِتَابِيَة مفتوحة. إحْكامُ البناء، وتَثْبِيتُ التَّشْيِيدات.

[5]
عندما خَرَجَ الشِّعرُ عن بعض ‘ أُسُسِ’ هذه التَّشْيِيداتِ، في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، جاءت رُدُود الفعل قَوِيَّةً، وكانت كتابات بعض الذين هَاجَموا التقليد، وليس التقليديين فقط، عنيفةً، وذَهَبَت إلى حَدِّ اعتبار ما يجري في الشِّعر، تَهْديداً لـ ‘ الهوية القومية’، ولـ ‘ اللُّغة العربية’.
أليست هذه هي ‘ الأساسات’ التي قامت عليها تَشْييِدَات ‘ التدوين’..
الشِّعر، إذن، ظَلَّ الأرضَ الحَرَامَ التي لا تَقْبَلُ التَّحديث والابْتِدَاعَ، فالثَّوَابِتُ أكثـر من المُتَغَيِّرَات، و’ القصيدة’، هـي النِّظام التَّامُّ والمُكْتَمِلُ، وهي البناء الذي صِيغَ مِعْمارُهُ وفقَ نَمُوذَجٍ مِثَالِيٍّ، لا يقبلُ التَّغْيير.
ما جرى في أواخر الأربعينيات، كان، في ظاهره، مَسّاً، بهذا النموذج، لهذا لم يَنْظُر إليه النقد، باعتباره مُقْتَرَحاً شِعْرِياً آخـرَ، بل نَظَرَ إليه كَخَـرْقٍ للنَّمُوذج، وهذا ما أَفْضَى إلى المُجابهَات التي حَدَثَتْ بين مَنْ سَعَوْا للتَّحْدِيث، ومَنْ رَأَوْا فيه تَهْديداً لِـ ‘ الأُسُسِ’، وهَدْماً لها.
قَلِيلُونَ مَنْ أدْرَكُوا أنَّ ‘ حداثة القصيدة’ بدورها، لم تَخْرُج عن الأُسُسِ، وأنَّها، كانت نوعاً من ‘ المُسَاوَمَة’. الوزنُ هو نفسُه، فإذا كان الشَّكْل العمودي لتوزيع البيت الشِّعري عَرَفَ انتقالاً من نظام التَّوَازي، وتقابُل الأبيات، إلى توزيع ‘ حُرٍّ’، فالبنية العَرُوضِيَة بَقِيَتْ هي نفسها، ولم يَطَلْها تغيير في الأساسات. هذا ما جعل نازك الملائكة تنتبه إلى أنَّ ‘ الشِّعر الحُرّ’، ليس حُرّاً تماماً، ولا يمكنه أن يكونَ كذلك، والوزن، أو العـروض، سيكون هو صِلَةَ الوَصْلِ التي تَشُدُّ هذا المُقْتَرَحَ إلى ماضيهِ، لهذا اعْتَبَرَت الشعر الحر ‘ ظاهرة عروضية’.
لم تَحْدُث المُسَاوَمة فـي هذا المُكَـوِّن فقط، فنظام البيت، ومفهومُه، لم يتغيَّرا إلاَّ جُزْئِياً، وبقيت ظِلالُ البيت القديم قائمةً، كما كان لِلُغَةِ الماضي حُضورُها، مُعْجَماً وتركيباً.
ما يَسَّرَ قَبُول هذا المُقترح، هو هذه العلاقة التي بها بَرَّرَت الملائكة صِلَة التَّجَاسُر بين قديمِ الشِّعر وجَدِيدِهِ، وفي هذا بالذَّات حَدَثَتِ ‘ المساومة’.

[6]
سينتقلُ النِّقاشُ من شَرْعِيَة ‘ الشِّعر الحُـرّ’، أو حداثة القصيدة، إلى ما سُمِّيَ بـ ‘ قصيدة النثر’. هذا المُقْتَرَح الطَّارئُ الذي لم يَعْبَأْ بالخُطاطَة العروضية، وألْقَى بها جانباً لِيَسْتَمِدّ إيقاعاته من النَّصِّ ذاتِهِ، أي من العلاقات التي تَحْدُثُ في بنية اللغة ذاتها، وليس من نظامٍ مُسبق. كانت المسافة التي أَحْدَثَها هذا المقتَرح مُهِمَّة جدّاً، وهي مسافة وَضَعَت النص في مُوَاجَهَة احتمالاته.
التَّخَلِّي عن الخُطاطة العروضية، كدالٍّ بَانٍ لشعرية النص، تَمَّ تعويضُه بالإيقـاع. فإذا كان العروض مُسْتَمَدّاً من علاقـات التَّنَـاوُب، بين أَنْوِيَتِـهِ، وما تَتَّسِمُ به التفعيلات من تكرار في وَحَدَاتِها، وهي سابقة في وُجُودها للنص، فالإيقاع هو مجهول الشِّعر، هو ما يَحْدُثُ في النَّصِ، في لحظة كتابته.
كما أنَّ الإيقاع ليس نموذجاً، ولا خُطاطةً، إنَّهُ النَّصُّ وهو يَبْتَنِي شعريته، دون معيار، ولا يقبل بنظام الأَنْوِيَةِ العروضية، لأنه يأتـي من أكثر من مكان في النّصّ.
بهذا المعنى أعْتَبِرُ شخصياً، مفهومَ ‘ قصيدة النثر’، لا يُوَفِّرُ لرحابة هذا المُقْتَرَح، ما يكفي من انْشِرَاح. فهو في تَصَوُّري كتابةً [en gras]*، لأنَّ مفهوم الإيقاع في هذا المقترح، مُضَاعَف، يأتي من الكتابة، بمعناها الخَطَّيِ أوَّلاً، أي أنَّها لم تعُد ذات صِلَة بالبُعد الشَّفاهي، الذي منه اسْتَمَدّت ‘ القصيدة’ إيقاعاتها، أو أوزانَها بالأحرى. وهذا، من مُساوَمات ‘ قصيدة النثر’ التي حَرِصَت على تَبَنِّي مَفْهُومٍ لا تَمْتَثِلُ لِمَعْناه. كما يأتي مفهوم الكتابة بمعناه الدينامِيِّ المفتوح، الذي يَسَعُ أشكالا ً وأنواعاً كتابيةً لم تَعُد تَحْصُر الشِّعْرَ في مفهوم الصَّفاء الأجناسي، ولا في مفهوم اللُّغة الشِّعرية التي هي غير ذات صِلَة بالنثر.
في الكتابة، حتى الوزن، بمعناه التقليدي، يمكن استثمارُه، كما يمكن استثمار كُل الأراضي التـي تُتِيحُ للنص أن يذهبَ إلـى أقصى جِهات الرِّيح. وهذا ما نجـده عند أكثـر من شاعـر ممن يكتبـون بهذه الديناميـة المفتوحـة، ولا يَرْهَنُون النص بشرطٍ ما، أو بشرعيةٍ تَأتي من خارج النص.

[7]
ما زلنا لمْ نَجْرُؤْ بَعْدُ على خَوْضِ التَّسْمِيات. الماضي هو مَنْ سَمَّى، ونحن نَقْبَلُ بِتَسْمِياته، ونُبَرِّرُها، دون أن ننتبه لتاريخ التَّسْمِيَةِ، ولا لِما تَحْمِلُه في طَيَّاتِها من معان ٍ، لها صِلَة بَمَعْنى المعرفة الذي منه جاءتْ.
تَسْمِيتَانِ لا تَدُلانِ على النَّصِّ: ‘ قصيدة’ و’ نثر’!؟

[8]
لَعَلَّ في اقْتِرَاضِ مفهوم ‘ قصيدة’ ما يجعل من ردود الفعل، تجاه هذا المقترح، قويَّةً. وهو ما دفع أكثر من طرفٍ لنفي الشِّعريَة عنه، واعتباره كُل شيء إلاَّ أن يكون شِعراً، بمعنى ‘ قصيدة’.
‘ قصيدة النثر’، وأنا أستعمل المفهوم المُتَدَاوَل، وأقصد به الكتابةَ، هي شِعرٌ، لأنَّ الشِّعـر في مفهومه البعيد في الثقافة العربية، أوسع من القصيدة، والقصيدة، كما أُؤكِّد دائماً، هي مُقْتَرَح شِعْرِيٌّ، وليست هي كُل الشِّعر، كما يذهب إلى ذلك بعض الذين لم يتأمَّلُوا المفهوم في الثرات النقدي العربي، أي في المدوَّنات النقدية التي صاحَبَت الشِّعرَ.
ما نقرأُه من كتابـاتٍ، بمعنـى ‘ النثر'( !) لم تَعُد ذات علاقة بـ ‘ القصيدة’، لا شيءَ يجمع بينهُما، إلاَّ الانتساب المُشْتَرَك للشِّعر، بالمعنى المُتَكَثِّر. مَنْ يكْتُب القصيدة، فهو يَحـْرِص على كتابتها وفق شُروطها التي عَمِلَت ‘ قصيدة الحداثة’ على تَثْبِيتِها، بدايةً من أواخر الأربعينيات، وهو ما كانت الملائكة كَتَبَتْ قوانينه، ووَضَعت الحدود التي لا يمكن تَجَاوُزُها.
في الكتابة، لا شَرْطَ يسبق الكتابةَ. يَتَخَلَّقُ النَّصُّ، في لحْظَةِ انْكِتَابِه، وفي هذه اللَّحظة بالذات يَبْتَنِـي النَّصُّ قوانينَـه الخاصة به، التـي تَعْنِيـه هو كَنَصٍّ، ولا تعني غيره مِمَّا قد يُكْتَبُ بنفس التَّسْمِيَة. لا ينفي هذا أنَّ ‘ قصيدة النثر’! لها مُشْتَرَكاتٌ، ولها ما يمكن أنْ يكون قوانين تَجري على تَسْمِيَتِها، لكنها قوانين تأتـي ممَّا يمكن أنْ نَصِلَ إليه من خلال مقاربـة التَّجربة وَوَصْفِها، وليس بافتراض قوانين سابقة.
ما يَحْدُثُ، لمن ما زالُوا يَتَنّطَّعُون، في مُحَاكَمَة ‘ قصيدة النثر’، وعلى رأسهم، عبد المعطي حجازي، أنَّهُم لا يُقْبِلُون على قراءة هذا المُقْتَرَح باعتبار ما يَقْتْرِحُه شِعْـرِياً، بل يَأْتُـونَ إليه من مُقْتَرحٍ آخر، هو ما اعْتَقَدُوا أنَّ الشِّعر لا يَتَحَقَّقُ إلاَّ وفق شُرُوطِه، وحَصَروا الشِّعر في الوزن، اقتضاءً بما قَرَّرَتْهُ نازك الملائكة، أنَّ ‘ الشِّعرَ الحُرَّ ظاهرةٌ عروضية’؛ الجسر الذي يَعْقِدُ قِرَانَ الحديث، أو المُعاصر، بالقديم. لا يعني القديم هُنا، إلاَّ القصيدةَ، دون غيرها.

[9]
الوَاقع الشِّعْرِيُّ، في مستوى الممارسة النَّصِّيَة، أعني إنتاجَ وتَدَاوُلَ النصوص، يسير بوتيرةٍ تَجَاوَزت بكثير، النقاشات النظرية. يفرضُ هذا أن نَذْهَبَ للنَّصِّ ذاتِه، ونَخْتَبِر شِعْرِيَتَه، في ضَوْءِ المُتَغَيِّرات التي جَرَتْ، في المفاهيم، وفي الاختراقات الكُبْرَى التي طالت السَّرْدِيات التقليدية. كما يفترض أن ننتبه للتَّّوْقيعات الفرديةِ التي تعني كُلَّ شاعر بذاِته، ففي هذا النَّوع من الخُصُوصيات، أو الفرادات، ثمّةَ دائماً ما يمكن أن يَشِي بِخُصُوصيات هذا المُقْتـَرَح، وما يجعل من برنامجه الشِّعري يَتَمَيَّز بِتَعَدُّد أصواته وأراضيه. ما يعني، هنا، في مثل كتابةٍ كهذه، أنَّ الشِّعرَ، هو أرضٌ واحدةٌ، لكنها تَتَّسِعُ لأرَاضٍ، زُرُوعُها قابلةٌ للاختلاف، ولِتَنَوُّع مَحْصُولاتِها.
حين اختار ‘ الرواد’ أن يَقِيسُوا بِحَذَرٍ المسافةَ التـي تَفْصِلُ بين قديم الشِّعر وحديثه، كانوا قد جاؤوا من هذا الماضي، الذي هو أحد مرجعيات تكوينهم الشِّعـري. فالغنائية الإنشاديةُ، كانت إحـدى تَشْييدات هذا التكوين الشِّعري، أو المعرفـي، وهو ما جعل من الوزن، بطريقة الخليل أو بما اقترَحَهُ غيره، يبقى أحد هذه التَّشْييدات، رغم ما طالَهُ من تغيير، في السَّطْح، وليس في الأُسُس، التي قام عليها نظام هذه ‘ القصيدة ‘ التي كانت جُرْأَةُ التغيير فيها، بغير ما كان ينبغي أن تَحْدُثَ به، قياساً برغبة الشُّعراء أنفُسِهم في هذا التَّغيير.
اليوم، أصبحت المسافة أكبر مما كانت عليه من قبل، والاختراقات صارت أَوْسَع، ومُدَوَّنات الكتابة الشِّعرية، أعني الممارسة النَّصِّيَة، أنْجَزَتْ ما يكفي من النماذج التي يمكن اختبارُها، والإنصاتُ لبرامجها، ولِمَا تقترحُه من أشكال، وهذا هو المدخل الممكن لوضع اليد على ما يمكن اعتباره كتابة تَقُوم على رُؤْيَةٍ، أو على خُطاطةٍ نظريةٍ مُمْكِنَة.
الإقبال على هذه النماذج النَّصِّيَة، بِعَرَاء، ودون أي نموذج مُسْبَق، بأرْضِ الشِّعر، بما هو كَثْرَة وتنوُّع، لا بتشييدات القصيدة، أو بخُطاطَاتها العَروضية، هذا وَحْده هو ما سيُسَاعِدُنا على وَضْع اليد على مُشْتَرَكات هذه الكتابات، وعلى مُفارقَاتِها.

[10]
ما يأتي من الكتابات النقدية المُتَدَاوَلَة، وأيضاً من الجامعة، مع بعض الاستثناءات النادرة، لا علاقةَ له بما ذَهَبْنا إليه. هذه الكتابات، ما تزال تعيش على التشييدات التي جاءت من ‘ حداثة القصيدة’. كُلُّ النماذج التي أنْجَزَتْ اختراقات، في الأُسُس، أو خَرَجَت عن تَشْييدَات القصيدة، لتذهب إلى الشِّعر، نَقْدٌ من هذا النوع، لا تَعْنِيهِ في شيءٍ، لأنَّها تَرْمِي به في المجهول، وتَعْصِفُ بمفهوماته، وبما تَعَوَّدَ عليه من مَدَاخِل لقراءة تجارب سابقة. نَقْدٌ ليس في مستوى النص، أو هو، وهذه من مثالب هذا النقد، يَسْتَعير مفاهيم من ممارسات نَصِيَّة مُتَقَدِّمَةٍ، لها أراضيها الخاصَّة بها، وبها يقرأ نَصّاً، الأداةُ أوْسَع منه، أو تَفِيضُ عن أرْضِه التي لا تقبل إلاَّ نَفْسَ الزَّرْع. دَوْرَةٌ تُعيدُ إنتاج ذاتِها، حَلَقَةٌ مُغْلَقَةٌ، لا تَتَّسِعُ إلاَّ لِدَوَرَانِها، لا انْفِتاحَ، ولا انْشِراح، المُغْلَقُ والمُتَنَاهي، هذا هو قانون كتابةٍ هذا اختيارُها، وهو نفس دَوَرَان نَقْدٍ، ما زال يعيش على مفاهيم ومُسَلَّمَاتٍ لا تَتَّسِع إلاَّ لِما وُضِعَتْ لَهُ، وهي نوع من الآلة التي لاَ تُنْتِجُ سوى نفس المعنى.
‘ قصيدة النثر’، إذن، ودون العودة لما نَبَّهْتُ إليه بصدد المفهوم، هي كتابة، اختارت العَراء كطريقة في فَهْم الوُجود أو قَوْلِهِ بالأحرى. واللُّغَة، باعتبارها مِنْ نِعَم التعبير عن هذا الوُجود، ستصير هـي مكان اختبار هذه التجربـة، والمكان الذي منه يُشْرِفُ النصُّ على هذا الوُجـود، ليس باعتباره شيئاً تامّاً، ونِهَائياً، بل باعتباره، تَشُكُّـلاً دائماً، وصيـرورةً لا تفتأُ تعيـد تَصَيّـُرَها، والتأسيسُ، فـي هذا الاختيار الشِّعري، هو ما يحْدُثُ إبَّانَ الكتابـة، وليس ما يأتي إليها من خارجها، مِمّا جاء من وُجود، ليس هو لحظة وُجُود النصِّ، أو تَخَلُّقِه.
اللُّغةُ في هذا الاختيار، هي لُغَةٌ لا تَنْتَمِي للمعايير البلاغية التقليدية، ولا إلى التقسيم المُعْجَمِي الذي يضع الحُدود بين النثر والشِّعر، فهي لُغَةٌ شِعْرِيَتُها تَحْدُثُ خارج المِعْيَار، وتَتَخَلَّقُ في حينِها.
في هذا الاختيار الشِّعري، مساحَةُ التَّذَكُّر تَتَقَلَّصُ، ولا تحظى الذاكرة، بدورٍ كبير، لأنَّ المُواجَهَةَ تكون بين اللُّغَة، لحظة تَخَلُّقِها، والوُجود، باعتباره بِدَايَةً.
في هذا المفصل، بالذات، تتكَشَّف طبيعة المُواجهة بين الدِّينِ والشِّعر: الدين كتأسيس واكتمال، أو كشرائع، وأيضاً كَلُغَةٍ مُمْتَلِئَةٍ بالمعنى، لا تكتَسِي طابَعَها الذي به تَتَسَمَّى إلاَّ من خلال هذا المعنى ذاتِه، والشِّعر، الذي كان دائماً تَخَلُّقاً، وإبْداعاً، وليس استعادةً لِمَا تَمَّ واكْتَمَلَ.
في الكتابة، ثَمَّةَ دائماً، شُرُوعٌ وبِدايةٌ، والمعنى، هو هنا، بناءٌ، وهو ما يَسْرِي على الإيقاع، وعلى القيمة الجمالية للنص الشِّعْرِيّ. وهذا ما يجعل من طبيعة المُُوَاجَهَة، بيـن هذا الاختيار وبيـن غيره من الأنماط القـارَّة، أو التقليدية، أن تكون مُوَاجَهَةً بين نظامين لإنتاج المعرفة، وليس بين شكلين شِعريين فقط.
دون وَعْيِ هذه العلاقة أو المُوَاجَهَة، والانطلاق منها في النَّظر لِمَا يَتِمُّ اقتراحُـه من اختياراتٍ شِعْرِيَةٍ، وغيـر شعـريةٍ، ستبقـى مشكلة العلاقة بـ ‘ قصيدة النثر’، أو بالكتابة، بمعناه الدينامِيِّ المفتوح، سطْحِيَةً، تكتفي بظاهر الأشياء، دون العودة إلى الأُسُس، وإلى التَّشْيِيدَات التي تقوم عليها هذه الاختيارت النَّصِّيّة، في مقابل غيرها من الاختيارات الأخرى.

‘ شاعر وكاتب من المغرب

ـ مفهوم الكتابة، كما نذهب إليه، هو من نـوع المفاهيم المزدوجة، كما يُسَمِّيها لاكانlacan بصدد حديثه عن نوع العناوين ذات ‘الاسم المُزْدَوَج’ titre a double nom فبقدر ما تُشير الكتابة إلى الخَطِّيِّ، أو الكتابة باعتبارها إملاء، تُشير إلى ممارسةٍ نَصِّيَةٍ ذات أوضاع شعرية تخرج بالنص من وضع القصيدة كَمُقْتَرَحٍ تاريخي، إلى الكتابة كنص ديناميٍّ مفتوح.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى