طيور سورية جديدة تحفر أعشاشها في جدار الخوف
نقولا الزهر
أتصور أنها ذهبت معهم بهدوء… فلم يتغير محياها الذي يقطر سماحة… ولا ابتسامتها التي تتفجر عذوبة…وعيونها كانت تشيِّع العاصي ونواعيره الشامخة بمزيد من الأمل… تدير رأسها لتودع مرضاها وممرضاتها وزملائها… ولم تنسَ عيونها أن ترمق عاملات مشغل الخير بوارف من حنانها… لا أعرف كيف نظرت عيونها إلى الذين اقتادوها إلى السجن … لكن ما أرجحه أنها تصرفت معهم مثل كل الكبار، بصمود خالٍ من الحقد، مثل سقراط، ويوحنا المعمدان، وعبد الخالق محجوب….. لأنها تعرف أن السجانين أصغر من أن يحددوا موقفاً سياسياً في بلدٍ ساحته العامة مغلقة أمام المتكلمين……
حين تتكلم بصوتها الهادئ الخفيض قليلاً، ينصت رواد القاعة ليصغوا، ويذهب كلامها المتسق إلى قصده كالجدول العارف طريقه… هي تؤمن بالحرية لذلك تقول: ” لنكن ديموقراطيين ولنعرف كيف نختلف”. فداء الحوراني ديموقراطية وطنية، ونصيرة للعدالة الاجتماعية وظهيرة للمعذبين على الأرض بامتياز….ومن يقول غير ذلك، فهو شاهد زور وما أكثرهم هذه الأيام….
لم تكن فداء حوراني وحدها التي انطلقت لتحفر حفرة في جدار الخوف بل إلى جانبها شجعان ميامين مثلها؛ أحمد وأكرم وعلي ووليد وياسر وعارف وميشيل وأنور وفائق ورياض وعمر ورفاقه بريعان شبابهم وآخرون..
جديد سورية هذه الأيام يرقى إلى مرتبة المنعطف التاريخي، إذ تضع المعارضة أحجار زوايا بيتها من أجل الانتقال السلمي في سورية من الاستبداد إلى الديموقراطية، وحماية ااستقلالها الوطني وتحرير الأرض المحتلة. وأيضاً ما هو استثنائي هو أن تصعد امرأة، لأول مرة في تاريخ سورية، لترأس أعلى هيئة لدى المعارضة عبر انتخابات ديموقراطية وشفافة. وهذا من أهم ملامح الممارسة الديموقراطية التي تؤشر إلى إمكانية انهيار طغيان العهد الذكوري في العالم العربي.
إن بعض المثقفين اليسراويين والقومجيين راح يتكلم كثيراً في الفترة الأخيرة حول انتصار التيار الليبرالي في إعلان دمشق ويتهمونه باللاوطنية؛ يبدو أن هؤلاء الكتاب إما أنهم، لم يقرأوا البيان الختامي، أو أنهم تعاملوا معه بانتقائية مفرطة ليقوموا بمهمتهم وكيل اتهاماتهم وعرض شماتاتهم.
والغريب أن هؤلاء المثقفين يتعاملون مع المفاهيم الفكرية وكأنها جواهر مقدسة في الوقت الذي هي مفاهيم تاريخية، طرحها له علاقة بالزمان والمكان وباللحظة السياسية القائمة. إذ يتعاملون مع مفاهيم الليبرالية والديموقراطية والعلمانية وكأنها جزر منقطعة السبل عن بعضها البعض؛ في الوقت الذي هي مستويات أو بالأحرى دوائر متداخلة تاريخياً وموضوعياً. فمفاهيم الديموقراطية والحرية والمساواة وسيادة القانون والمجتمع المدني والحقوق المدنية تكرست تاريخياً في الحاضنة الليبرالية. وينسى هؤلاء المثقفون الماركسيون جداً أن المطالبة بالحريات الديموقرطية بقيت الشعار الأساس لدى معظم الحركات العمالية والأحزاب الأشتراكية في القرن التاسع عشر، وحتى الحزب الشيوعي السوري طوال تاريخه، وقبل أن يصبح في عداد الجبهة الوطنية التقدمية عام 1970 ، كان شعار الحريات الديموقراطية هو الطاغي على أدبياته (أنظرمذكرات يوسف قيصل)، ولنتذكر تحالف الحزب مع خالد العظم الليبرالي والرأسمالي المعروف قبل قيام الوحدة السورية المصرية..أما حول (الليبراالية الجديدة والعولمة) فنرجو من هؤلاء المتيمين بمكافحة العولمة ولم يحصلوا بعد على أبسط الحقوق المدنية في بلدانهم ولم ينجوا من الاكتواء بنار الاستبداد سنين طويلة أن يبينوا لنا أين التجليات الواقعية لهذه المفاهيم في تركيبة إعلان دمشق وتوجهانه وبيانه الختامي ولماذا لا ينظرون إلى شعوب أوربا الشرقية حينما اتجهت زرافات ووحدان لتنضم إلى الاتحاد الأوربي تتتنسم طعم الحرية والحقوق المدنية والعيش اللائق. لماذا يتباكون على الأندلس السوفييتية التي وقفت مثل أميركا إلى جانب أنظمة المنطقة الشمولية المستبدة وليس إلى جانب شعوبها؟ ليرجعوا إلى بليخانوف الذي كان معلماً للشيوعية في روسيا القيصرية حينما نصح لينين بعدم تجاوز مرحلة الثورة البرجوازية، وكذلك أن يرجعوا إلى دنغ سياو بنغ الأمين العام الراحل للحزب الشيوعي الصيني، حينما رفع بعد انهيار الثورة الثقافية شعار: “لا يهمنا ما هو لون الفأر إنما المهم هو أن نعرف كيف نصطاده”. فالحزب الشيوعي الصيني يبني الرأسمالية الليبرالية الآن ولو كره الذين يمارسون السياسة طقوساً وإشارات.
وكذلك الحال بالنسبة إلى الوحدة العربية، فهي شعار يمكن تحقيقه في المستقبل بين دولتين أو أكثر لكن ضمن شروط يجب توفرها، سياسية واقتصادية واجتماعية هي غير موجودة في المرحلة الراهنة. لذلك اعتقد أن ما قاله الصديق جورج كتن في مقاله عن إعلان دمشق هو عقلاني: فاالمسألة بالنسبة إلى إعلان دمشق تتعلق بالواقع واحتياجاته أكثر مما تتعلق بتهويمات وفزلكات فكرية حول المفاهيم… في سوريا الآن الديموقراطية هي قاعدة دولة المواطنة والوطن والوطنية.