صفحات مختارة

اليونيسكو ما بعد انتخابات مديرها العام

محمد الحدّاد *
من مميزات المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) أنها تستقطب الاهتمام مرة كلّ خمس سنوات عند تجديد مديرها العام، ثم يخفت ذكرها بعد ذلك. وهذا ما سيحصل على الأرجح بعد أن تجفّ الأقلام وتنتهي التعليقات حول مفاجأة الانتخابات الأخيرة وظروف التخلص من المرشح المصري الذي كان يبدو الأكثر حظاً.
وهناك أسباب كثيرة تفسر هذه الظاهرة، منها أن المنظمة تبدو لدى أكثر الناس منظمة ثقافية، وينسى كثيرون أنها منظمة تهتم أيضاً بشأن التعليم الذي يحدّد مصائر أبنائنا ومجتمعاتنا ولا يمثل مادة تكميلية في حياتنا، بل هو من أوكد الاهتمامات لدى كل فرد وأسرة، ومنها أن عمل المنظمة في مجال التعليم هو عمل تقني لا يتابعه غير المتخصصين في الميدان. ومن الخطأ الجسيم أن نظن أن دور اليونيسكو في هذا الميدان هين، فهي قد عملت في السنوات العشر الأخيرة تحت ولاية الياباني ماتسورا على عولمة الأفكار الليبرالية في مجال التعليم، بما في ذلك من إيجابيات وسلبيات.
واعتبر بادئ ذي بدء أنه بصرف النظر عن نتائج الانتخابات الأخيرة، فإن نهاية عهد ماتسورا يمثل في ذاته خبراً ساراً، لأن هذا العهد قد اتسم بدور سلبي اضطلعت به المنظمة في مجال تنسيق السياسات التعليمية للدول المنضوية تحتها. ويكفي أن هذا العهد سيبقى مقترناً بالفضيحة المشهورة لتعيين بيتر سميث مديراً مساعداً لإدارة التعليم، هذا الأميركي من الحزب الجمهوري القريب من الرئيس جورج بوش الابن الذي اضطر للاستقالة عام 2007 عندما كشف أنه عهد لمؤسسة خاصة من شيكاغو بمهمة رسم الخطة التعليمية للمنظمة في مقابل يفوق المليوني دولار، تاركاً وراءه خبراء اليونيسكو ومعتمداً مؤسسة لا شأن لها من قريب ولا من بعيد بالتعليم وسياساته. لقد بدت المنظمة في عهد ماتسورا مهووسة بتشجيع سياسات خصخصة التعليم ومنح المشروعية الرمزية لهذا التوجه أكثر من اهتمامها بتجسيد الأهداف النبيلة التي قامت على أساسها.
ينبغي ألا ننكر مع ذلك أن السياسات التعليمية في الكثير من بلدان العالم تحتاج إلى مراجعات مهمة وربما جذرية، وأن إحدى الوظائف التي ينبغي لليونيسكو أن تضطلع بها تتمثل في تنسيق الأفكار والمقترحات في هذا الشأن. من هنا كان طبيعياً أن تبادر اليونسكو عام 1998 (قبل انتخاب ماتسورا) بعقد الندوة الدولية الأولى حول التعليم العالي، وكان يؤمل أن تفتح المجال لتفكير عالمي متزن حول الموضوع، وفعلاً فقد تواصلت أعمال الندوة العالمية عبر ست ندوات إقليمية عقدت في ست مدن أساسية من العالم، إلا أن أقل ما يمكن قوله إن اتجاهات المناقشات العالمية التي تواصلت عشر سنــوات لم تنعكس بصفة دقيقة ووفية في أعمال المديرية العامة ومبادرتها، بل لعلها لم تنعكس إلا قليلاً، بينما ضاعت العشرات من المقترحات الجيدة لأنها لم تلق المتابعة الكافية، ثم بخاصة لم تجد موارد التمويل، على رغم المبالغ الطائلة التي صرفت في برامج أقل جدوى.
إصلاح أنظمة التعليم العالي ضرورة تقتضيهـــا ثلاثة تطورات رئيسة، أولها واقع العولمة الذي يكثف تنقل الطلبة والأساتذة والباحثين ويدفع إلى إيجاد طرق متقاربة إن لم تكن موحدة في تقويم الشهادات ومسالك التكوين وتثمينها. وثانيها تنامي عدد المؤهلين للدخول إلى التعليم والحاصلين على شهاداته تطبيقاً لمبدأ المساواة ورفعاً لكل أشكال التمييز (ضد النساء والأقليات العرقية والدينية وأبناء الفقراء، الخ). وثالثها ظهور تكنولوجيات الاتصال الحديثة التي يمكن أن تبرّر ظهور أشكال جديدة في التعليم، مثل التعليم عن بعد والتعليم على شبكة الانترنت، الخ، شرط أن تحدد ضوابط صارمة لنيل الشهادات في هذا التعليم الافتراضي، كي لا تصبح شهاداته «افتراضية» أيضاً!
فلئن كانت هذه التطورات الثلاثة حقيقية ومهمة وعميقة، وهي تدفع إلى مراجعة النمط التعليمي القديم الموروث عن أوروبا القرن التاسع عشر، فإنها لا تبرر بأي حال أن تسكت اليونسكو، فضلاً على أن تشجع شكلاً من خصخصة التعليم استفحل في السنوات الأخيرة بخطورة فائقة. فالتعليم ليس بضاعة من البضائع تحددها قوانين السوق وقواعد العرض والطلب، ومهمة اليونسكو تتمثل في جعل التعليم والثقافة وسيلتين لنشر السلام بين البشر، كما يشير ميثاقها، وليس لنشر الأرباح بين المضاربين على ما أصبح يدعى «الصناعات التعليمية».
ولعل موعد انتهاء ولاية ماتسورا قد ساعد الندوة العالمية الثانية للتعليم العالي المنعقدة في الصائفة الماضية على تعديل الكفة نسبياً، فلم يتردد بيانها الختامي في تأكيد أن المسؤولية الأولى في السياسات التعليمية تعود إلى الحكومات وليس إلى القطاع الخاص، مع الإقرار بدور الأخير في ظل الأهداف التي تحددها الحكومات، ثم بخاصة، وهذا أمر لافت للانتباه، حديثه الصريح عن «تجارة الشهادات» و «أصحاب الخدمات التربوية المريبة» وتخصيصه إحدى التوصيات لـ «مقاومة مصانع إنتاج الشهادات».
بقي أن نعلم إلى أي مدى ستعمل المديرة الجديدة للمنظمة على تكريس هذه التوجهات والدفع بالمنظمة إلى الاضطلاع بدور أكبر في المحافظة على تعليم مستقل عن البورصات والمضاربات وإعادة تفعيل دور التعليم في الدفاع عن قيم الأنسنة والسلام، وإلى أي مدى ستتفادى الخلط الحاصل في عهد سلفها بين إشراك القطاع الخاص في التعليم، وهذا أمر أراه مشروعاً، وتفويت التعليم إلى رؤوس الأموال المضاربة، وهذا أمر خطير وغير مقبول. فبالنظر إلى أهمية الرهان نقول إن من الخطأ أن يقتصر الاهتمام باليونيسكو على انتخابات مديرها العام، فهي منظمة تؤثر بصفة غير مباشرة في السياسات التعليمية للعالم وتؤثر في مستقبل أبنائنا ومجتمعاتنا.
* كاتب وجامعي تونسي وصاحب أحد الكراسي التعليمية لليونسكو
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى