الفساد ومنطق الإحتشاد
ما هو منطق الإحتشاد؟
منطق الإحتشاد باختصار هو وليد الكثرة والغزارة وآليته هي تظافر مجموعة كبيرة من العناصر غير الذكية لتوليد سلوك ذكي يفوق أضعافا مضاعفة ذكاء عناصره منفردة.
والمثال النمطي عليه مملكة النمل، حيث أن النملة مخلوق صغير وضعيف فضلا عن كونه غبي، وكل نملة تتعامل مع عدد محدود جدا من النملات في محيطها الضيق من خلال لغة الكيمياء لينتج بالنهاية تنظيم متقن ورائع في مملكة النمل وكل هذا يتم بشكل لا مركزي. المثال الآخر، الخلايا العصبية في المخ، كل خلية عصبية تضطلع بمهمة محددة وبسيطة لكن أحتشاد وتآزر العدد الهائل من الخلايا العصبية في المخ ينجم عنه كل الذكاء والوعي والقدرة على حل المشاكل التي يتمتع بها الإنسان.
ما الفارق بين منطق الإحتشاد والمنطق التقليدي؟
يقول المختصون أن المنطق التقليدي وضع قوانين الفكر لعقل الإنسان الفرد وذكائه المركزي، أما منطق الإحتشاد فقد “ مهد “ لوضع قوانين الفكر للعقل الجمعي وذكائه اللامركزي الموزع بين عناصره الفردية.
شخصيا أتصور أن العصر الحالي والقادم هو عصر منطق الإحتشاد واستخداماته المتنوعة بلا منازع، بعد أن ساد المنطق التقليدي لقرون طويلة . . حسنا السؤال الذي يبطح نفسه الآن: ماهي العلاقة بين الفساد ومنطق الإحتشاد ؟
معظم الناس يكرهون الفساد ويكرهون الرشوة بمنطق متجرد، ومع ذلك يجد المرء نفسه مضطرا لرشوة الموظف لتسهيل معاملته والموظف يرشي مديره والمدير يرشي أشخاص خارج الدائرة لتقوية نفوذه أو تسهيل معاملات أصحابه في الدوائر الأخرى، وهكذا دواليك تكبر الشبكة وتتعقد وفق خاصية التداخل الحلقي والجميع يتحدث عن الفساد وكرهه له . . بالنهاية نجد أن تآزر هذه الأفعال الفردية والبسيطة أدى الى خلق سلوك ذكي واعي وممنهج بشكل لامركزي وهو الفساد وتأثيره يفوق تأثير ذلك الفعل البسيط الممثل برشوة موظف لتسهيل مرور معاملة آلاف وربما ملايين المرات، وتلقي تآزرية واحتشاد هذه الأفعال الفردية بثقلها على المجتمع والدولة مخلفة ورائها حطاما وخرابا كفيل بشل أي حركة وأي إمكانية لنجاح لما تسمى دعوات التطوير أو التحديث، فالفساد أصبح ثقافة تحكم العقل والسلوك الجمعي للمجتمع. وأصبحت معها الدعوات للقضاء عليه أقرب ما تكون إلى الزراعة في أرض مالحة.
كيف يمكن كسر هذا المنطق ؟ وكيف يمكن لنا تفكيك وتثبيط قوته التآزرية الهائلة التي تدفع بالمجتمع والدولة إلى الوراء ؟
سرقة المال العام
حقيقة إن الحلول التي تأتي من قمة الهرم إلى أسفله في مثل هكذا حالات غالبا لا يكون لها أثر ملموس وفعال دون أن يعني ذلك أنها حلول مرفوضة أو غير مطلوبة، بل على العكس هي مطلوبة لفعاليتها وقدرتها على وضع إطار تنظيمي وخطة ممنهجة تتظافر مع الحل الأكثر نجوعا وهو البدء من قاعدة الهرم.
وكتصور شخصي لكيفية القضاء على الفساد مع الوضع بعين الإعتبار وجود النوايا الحقيقية والصادقة لدى المسؤولين عن الأمر، أظن أنه يبدأ:
أولا: من خلال فصل القضاء عن بقية السلطات ومنح القضاة امتيازات مادية كبيرة، راتب مفتوح السقف على سبيل المثال – على الطريقة الإنكليزية- مع ميزات عينية ومعنوية ذات قيمة تقيهم شر الإنزلاق تحت إغراء الطمع.
ثانيا: تشكيل لجنة في كل محافظة ولتكن عشرة أفراد أو أيا كان العدد، مهمتها رقابية بحتة مع جعل رواتبهم مفتوحة السقف أيضا – لنفس السبب في أولا- وتعزيزهم بامتيازات نوعية على مستوى السلطة بحيث لا يخضعون لسلطة المحافظ أو لسلطة الفروع الأمنية وبالتالي يمكنهم مسائلة هؤلاء فيما لو قدمت بحقهم شكوى وسوقهم إلى القضاء إذا ما اقتضى الأمر. مع تخصيص مقسم للشكاوي يستطيع من خلاله المواطنين الإتصال وتقديم شكاويهم إذا ما تعرضوا للإبتزاز بقصد الرشوة، أو عن أي أمر من شأنه الإضرار بالمصلحة العامة فتتولى اللجنة التحقيق والتثبت من صدق ما يرد إليها، فضلا عن جولاتها التفتيشية على كافة المرافق في كل محافظة. (تنسيق هذه الفقرة قانونيا ليس غايتي بالطبع لكن الفكرة هي ضرورة وجود مثل هكذا لجنة مع تفعيل مبدأ: من أين لك هذا؟ . . هذا من فضل ربي!).
ثالثا: تغليظ وتشديد العقوبات بحق أي شخص يثبت تورطه بعمليات فساد بشكل يتناسب طردا مع حجم الفساد الذي تورط فبه شريطة أن يكون الحد الأدنى من العقوبة كافيا ليجعل منه عبرة للناس، ويجعله يندم على ما اقترفت يداه. مع ضرورة البدء بالرؤوس الكبيرة.
رابعا: تنشيط حملات الدعاية والتوعية بمخاطر الرشوة ونهب المال العام وإيثار المصلحة الخاصة على العامة على غرار حملات التوعية من مخاطر التدخين. ونشر تقارير إحصائية تبين مدى الخسارة التي تلحق بالمواطن من جراء السرقة والفساد.
خامسا: تفعيل دور الإعلام باتجاه محاربة الفساد سواء بالتقارير الصحفية أو البرامج التلفزيونية أو عن طريق الأعمال الدرامية والسينمائية.
سادسا: تكثيف مفاهيم النزاهة والأمانة والإخلاص في المناهج الدراسية في المرحلة الإبتدائية وجميع المراحل الدراسية بالتوازي مع ازدراء مفاهيم الفساد ومرتكبيها.
سابعا: خطباء المساجد يمكن أن يكون لهم دور كبير بهذه المسألة من خلال خطبة يوم الجمعة، فعوضا عن ا لحديث عن أحكام الصلاة أو عن عذاب القبر، تكون الخطبة عن القيم والسلوكيات الإسلامية.
ثامنا: مبادرة منظمات مدنية شعبية سواء من المثقفين أو المهتمين بالشأن العام بالعمل ضمن الإطار السابق.
بعبارة أقل، قيام الدولة بسن قرارات وإجراءات صارمة بالتضافر مع حراك شعبي وإعلامي على كافة الصعد لمحاصرة الفساد ونشر ثقافة جديدة عوضا عن السائدة حاليا. للأسف الإجراءات السابقة من شأنها أن تزيد حدة مشكلة موجودة مسبقا وهي مشكلة إنخفاض دخل الفرد، على اعتبار أن شريحة الموظفين لا يعتاشون من مرتباتهم بل من الرشاوى التي يقبضونها – خاصية التداخل الحلقي تحكم عللنا بشدة – فلكي يأتي الحل السابق بثماره على أكمل وجه ينبغي حل هذه المشكلة أيضاً وهي ليست الوحيدة.
http://www.3bdulsalam.com/?p=2157