صفحات الشعر

وجه الموت أخضر

null
بابلو نيرودا

(تشيلي 1904-1973)
تانغو الأرمل

أيتها الشريرة،
ستكونين قد وجدت الرسالة بالفعل وستكونين قد بكيت من الغيظ،
وستكونين قد سببت ذكرى أمي ناعتةً إياها بالكلبة العفنة وأمّ الكلاب،
ستكونين قد شربت وحيدة، منعزلة، شاي المساء
ناظرة إلى حذائي الفارغ إلى الأبد
ولن يكون في إمكانك تذكّر أمراضي ولا أحلامي الليلية ولا طعامي من دون أن تلعنيني بصوت عال كما لو كنت لا أزال هناك شاكياً من الحمّى الاستوائية، من الحمّى السامة التي أذتني كثيرا، ومن الإنكليز المرعبين الذي أكرههم الى الآن.

أيتها الشريرة، الحقيقة، يا لليل الشاسع ويا للأرض الوحيدة تماما!
جاءت، مرة أخرى، غرف النوم الموحشة، والغداء في المطاعم أكلاً بارداً، ومرة ثانية أرمي ببنطلوناتي وقمصاني على الأرض،
ما من شمّاعات في غرفتي ولا بورتريهات لأحد على الحائط.
كم من طيف في روحي يمكنني منحه كي أستعيدك،
وكم تبدو لي أسماء الشهور مهددة
وكم لكلمة شتاء من وقع جنائزي.

مدفونا قرب شجرة جوز الهند ستجدين في ما بعد السكّين المخفي هناك خوفاً من أن تذبحيني
والآن، بشكل فجائي، أودّ لو أشمّ رائحة المطبخ في فولاذه
معتادا على ثقل يديك ولمعة قدميك: تحت رطوبة الأرض، بين الجذور الصماء، بين كل اللغات البشرية، المسكين فقط سيعرف اسمك
والأرض الكثيفة لن تفهم اسمك
المصنوع من جواهر إلهية لا تخترق.

هكذا مثلما أتكدر مفكرا في الصباح الرائق لساقيك
مستلقيتين كمياة شمسية ساكنة وقاسية
والسنونو الذي ينام ويطير وهو يعيش في عينيك
والكلب الهائج الذي تؤوينه في قلبك،
كذلك أرى الميتات التي بيننا منذ الآن، وأتنفس الرماد في الهواء والخراب، والفراغ الطويل والموحش الذي يحيط بي إلى الأبد.

أمنح ريح البحر الهائل هذه من أجل تنفسك الخشن
الذي يسمع في ليال طويلة من دون أن يخالطه النسيان،
ملتحقا بالجو كالسوط على جلد الحصان،
ومن أجل أن أسمعك تبولين، في الظلام، في عمق البيت
كأنك تصبّين عسلا نحيلا، مرتعشا، أرجنتينيا، مكابرا،
كم مرة أسلم هذه الجوقة من الظلال التي أحوزها
والضجيج الذي يسمع في روحي للسيوف العديمة الفائدة،
وحمامة الدم المنعزلة التي تعشش في جبهتي، منادياً أشياء مختفية، أناساً مختفين،
جواهر غير منفصمة وضائعة بشكل غريب.
•••
فقط الموت

ثمة جبّانات وحيدة، مقابر مليئة بعظام من دون أصوات،
القلب عابراً نفقاً مظلماً، مظلماً، مظلماً،
كغريق نموت نحو الداخل،
كما نختنق في القلب، كما نأخذ في الوقوع من جلد الروح.

ثمة جثث، ثمة أقدام لشواهد قبور دبقة، ثمة الموت في العظام،
كصوتٍ صافٍ، كنباحٍ بلا كلب،
خارجا من أجراس في عينها، من قبور في عينها
ينمو في الرطوبة كالدموع أو المطر.

أرى، وحيدا، أحيانا
توابيت مشرعة مبحرة بموتى شاحبين، بنساء ذوات ضفائر ميتة، بخبّازين بيض كالملائكة،
بفتيات متفكرات متزوجات من موثقي عقود، بتوابيت تصعد النهر العمودي للموتى،
النهر البنفسجي،
إلى الأعلى، بالأشرعة منتفخةً من جراء صوت الموتى،
منتفخةً من جراء الصوت الصامت للموت.

يأتي الموت إلى الصوت،
كحذاء من دون قدم، كرداء بلا رجل،
يأتي ليخبط بخاتم من دون حجر أو إصبع،
يأتي ليصرخ بلا فم، بلا لسان، بلا حنجرة،
على رغم ذلك، ترنّ خطوته،
يرنّ رداؤه، ساكتاً، كشجرة.
أنا لا أعرف، أدرك قليلا، بالكاد أرى، لكن أظن أن لأغنيته لون بنفسجات رطبة،
بنفسجات معتادة على الأرض،
لأن وجه الموت أخضر،
ونظرة الموت خضراء،
بالرطوبة الحادة لورقة بنفسج
ولونها الغليظ الذي لشتاء ساخط.

لكن الموت كذلك يمضي عبر العالم مرتدياً مكنسة،
يلحس الأرض باحثا عن متوفين،
الموت هناك في المكنسة،
إنها لسان الموت باحثاً عن موتى،
إنها إبرة الموت باحثةً عن خيط.
الموت هناك في الأسرّة،
في الحشيات البطيئة، في الأغطية السوداء
يحيا ممدداً وفجأةً يهبّ:
يهبّ صوت مظلم نافخاً الملاءات،
وهناك أسرّة تبحر إلى أحد الموانئ
حيث يقبع هناك في الانتظار، مرتدياً ملابس الأميرال.
•••
الأب

الأب الجاف يعود من قطاراته
نتعرف
في الليل
الى صفارة
القاطرة
مخترقةً المطر
بعواء ضالّ،
نحيب ليلي،
وبعد ذلك
الباب الذي كان يرتعد؛
الريح في هبّة
كانت تدخل مع أبي
وبين الدعستين والضغطتين
كان البيت يترجرج،
الأبواب المذعورة
كانت تصطكّ بطلقة جافة لمسدس،
درجات السلّم تئنّ
وصوتٌ عالٍ عدائي
يحتج
بينما الظل العاصف،
المطر كشلاّل يهطل فوق السقف
خانقاً العالم شيئاً فشيئاً
ولا يسمع غير صوت الريح
متعاركةً مع المطر.
ومع ذلك، كان نهاريا،
قائدا لقطاراته، للفجر البارد،
وبالكاد، كان يكسر
الشمس الكسلى، هناك كانت لحيته،
راياته،
خضراء وحمراء، المصابيح جاهزة،
كربون الماكينة في جحيمه،
المحطة بالقطارات في الضباب
وواجبه نحو الجغرافيا.
عامل السكة الحديد بحّار على الأرض
وفي الموانئ الصغيرة من دون ساحل
– قرى الغابة – والقطار ينهب الأرض
مطلقاً العنان للطبيعة،
متمّماً إبحاره الأرضي.
عندما يرتاح القطار الطويل
يجتمع الأصدقاء،
يدخلون، تنفتح أبواب طفولتي،
تهتز المائدة،
تصطكّ الأكواب الثخينة للأخ
عندما تخبط يد سكة حديد
ويندلع
البريق
في عيون النبيذ.
أبي المسكين القاسي
كان هناك، في محور الحياة،
الصداقة الرجولية والكأس الملأى.
كانت حياته ميليشيا سريعة
وبين استيقاظه مبكرا وبين طرقاته،
بين الوصول ليخرج مسرعاً،
في يوم ممطر أكثر من بقية الأيام الأخرى
صعد السائق خوسيه ديل كارمن رييس ِإلى
قطار الموت وإلى الآن لم يعد.

ترجمة أحمد يماني

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى