صفحات سوريةياسين الحاج صالح

سورية والسير على قدم واحدة

null
ياسين الحاج صالح
ليست الضغوط الخارجية ولا وجود أراض سورية محتلة ولا وعورة البيئة الإقليمية هي التي تحول دون تقدم سورية أو انصلاح أحوالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية. ما يشل البلد ويعوق تراكما مثمرا فيه هو التمركز المفرط لنظامه حول ذاته، أو أولوية النظام، أمنه وبقاؤه وسلامته وسيطرته الكلية، على كل شيء آخر. بمهمة عليا من هذا النوع سينظر إلى الاقتصاد والتعليم والإدارة والثقافة، والتسوية مع إسرائيل، من زاوية انعكاساتها المحتملة على المركزية المطلقة للنظام في الحياة العامة السورية. فإذا كان من المحتمل أن يتسبب إصلاح اقتصادي مثلا في تعريض أمن النظام واستقراره لخطر جدي اتجه التفضيل الغريزي للنظام نحو تأجيل أو إلغاء أو تعديل الوجهة الإصلاحية، ما يفقد الإصلاح اتساقه الضروري ومردوده المرغوب. فلا ينجز ما قد يجز إلا وقد استحال شيئا آخر، لا تأثير إيجابيا له على المشكلة التي يراد إصلاحها أو ربما ضاعفها.
وينبع من مبدأ أولوية السلطة أن الاقتصاد ليس قطاعا مستقلا، وأن الحاجة إلى الإصلاح الاقتصادي لا يجري تقييمها باعتبارات اقتصادية واجتماعية مستقلة عن المصلحة الذاتية والحصرية لنخبة السلطة العليا. هذا يعوق بلورة سياسة اقتصادية متسقة وذات مفعول تراكمي.
وقبل ذلك هذا ينطبق على الإصلاح السياسي، الأمر الذي يفسر أن النظام لم يكف عن الوعد بقانون أحزاب طوال السنوات الثماني الماضية دون أن يقدم على إصداره. يفسر أيضا الفائض الأمني غير العقلاني الذي تميزت به سورية طوال عقود ثلاثة على الأقل، نالت خلال عقدين منها (ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي) المرتبة الثانية في سوء السمعة عربيا بعد عراق صدام. بل إن مثل ذلك يقال على التفاوض السوري الإسرائيلي، الذي لا يرتاب معلقون كثيرون في أن دافعا مهما من دوافعه هو إعادة تطبيع النظام في المعادلة الإقليمية، والالتفاف على الأطراف العربية التي تدهورت علاقاتها بالنظام في السنوات الثلاث الأخيرة، السعودية ومصر بالخصوص.
وتفسر أولوية النظام على كل ما عداه أن بلدا متنوعا في هيكل موارده وتكوينه الاجتماعي، وكان من أكثر البلدان العربية تقدما، تعليميا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا قبل جيل واحد أو أزيد قليلا، هو بلد يتخلف اليوم عن أكثر البلدان العربية على مستويات متعددة. وجوهر المشكلة يتمثل في أن نوعية الأولوية المذكورة تمنع استقلال الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية والإعلامية.. بعقلانيات قطاعية تخص كل منها. علما أن اختصاص الاقتصاد والتعليم.. بعقلانيات واستقلال ذاتيين هو شرط التراكم، وبالتالي التقدم، في هذه المجالات.
قد يقال إن الوضع اليوم مختلف قليلا. إنه كذلك بالفعل.
يتلامح اليوم مركزان للبلد لا مركز واحد: مركز سياسي أمني، ومركز اقتصادي اجتماعي. لكن عدا أن التغير الاقتصادي الجاري في سورية محاب للبرجوازية الجديدة التي تكونت في كنف النظام وتحوز نفاذا واسعا إلى مراتبه العليا، فإن المركز الاقتصادي لايزال ضعيف التشكل، وأكثر أيضا ضعيف الاستقلالية.
ورغم أن الطبقات أكثر ظهورا على العموم، فإنها معزولة سياسيا لاتزال. فهي «طبقات في ذاتها» وليست «طبقات لذاتها»، إن استعرنا المصطلحية الماركسية ذات الأصول الهيغلية. وتبقى السمة البنيوية للنظام سمة نظام تسلطي، ذي غريزة بقاء حساسة ومتضخمة. والخلاصة أن سورية لم تكد تتقدم لأنها طوال نحو أربعين عاما كانت تقف على قدم واحدة، النظام وأمنه الذاتي، الأمر الذي يجعل حركتها عسيرة كل العسر وبطيئة كل البطء. فإن كان لها أن تتقدم فعلا، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، فسيتعين عليها السير على قدمين. وهذا يقتضي استقلالية أوسع للاقتصادي والاجتماعي والثقافي عن السياسي، وكذلك كسر المطابقة بين السياسي والأمني أو التمركز المفرط حول السلطة. ويبدو لنا أن الإصلاحات الاقتصادية الجارية في البلد ستصل سريعا إلى حد لا تتجاوزه دون مساس بهذه المركزية المتصلبة، فالنمو الاقتصادي ذاته يقتضي إصلاحا قضائيا جديا، أي استقلالا حقيقيا للقضاء عن النظام السياسي، وذلك من أجل البت المنصف في النزاعات المحتملة. ومعلوم أن في سورية تعددية قضائية تتعارض مع مبدأ العدالة (قضاء استثنائي وقضاء عادي ودور قضائي للأجهزة الأمنية)، هذا في حين أن العدالة وظيفة سيادية، ينبغي أن تكون واحدة حتما.
ومن جهة أخرى يستوجب النمو الاقتصادي أيضا درجة واسعة من حرية الوصول إلى المعلومات وتداولها للعموم، وهو ما تظهر السلطات السورية حذرا مفرطا حياله، يشهد عليه التضييق الشديد على شبكة الإنترنت. في الحالين تتعارض مقتضيات النمو الاقتصادي مع متطلبات النظام الذاتية، ولا نتصور أن هذا الشرط ممكن الاستمرار لزمن طويل، فإما يتجمد التحول الاقتصادي وتعود معدلات النمو المتحسنة في الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى الانخفاض ويعم الركود مجددا، وإلا فلا بد من إعادة النظر في المركزية المفرطة لأمن النظام وبقائه. وأولا في ميداني القضاء وتداول المعلومات.
وإذا كان للتحول الاقتصادي الليبرالي الذي يستجيب لدواعي التنمية أن يستجيب أيضا لمقتضيات العدالة والتوازن الاجتماعي فلابد من تحرير المبادرة الاجتماعية وحرية التنظيم، النقابي والسياسي.
فهذا ما قد يمكّن جمهورا تتراجع سيطرته على شروط حياته اجتماعيّا واقتصاديّا بعد أن كانت متراجعة سياسيا منذ عقود، يمكنه من الدفاع عن نفسه.
أما المثابرة على الجمع بين تحرير اقتصادي وتسلط سياسي فهو وصفة للانفجار الاجتماعي. هذه عبرة يستخلصها المرء من أحول بلدان سبقتنا على هذا الدرب. لا خصوصية سورية في هذا المجال حتى لو كان كل شيء يوحي بالهدوء حالياً.

* كاتب سوري

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى