اسلمة المسلمين : أسطوانة التكفيريين المشروخة
سامي العباس
تناقلت وكالات الأنباء العالمية الخبر التالي “رشق راكبو دراجات نارية في قندهار بالأسيد فتيات أفغانيات مع معلّماتهن في طريق عودتهنّ من المدرسة، نقلن إثرها للمستشفيات لعلاج الحروق التي شوّهت وجوههنّ. اعتقلت السلطات المهاجمين الذين اعترفوا بأنّهم من مؤيّدي طالبان. وعملهم هو لمعاقبة الفتيات والمدرّسات لذهابهنّ إلى المدارس، المتعارض في اعتقادهم مع الشريعة الإسلامية.”
في إحدى مدارس دمشق الحكومية، رشقت طالبات – وليس طالبان- معلمة الموسيقا في مدرستهنّ بكلّ ما وضع التزمّت الديني على ألسنتهن من ألفاظ التكفير والتعهير. فالموسيقا في اعتقادهنّ حرام..
لا أريد تهويل سلوك طالبات وقعن تحت تأثير داعيات “إسلاميات” يتولّين نشر نسخة من الإسلام التكفيريّ في بلد مثل سورية، اتخذ التديّن فيه طابعاً وسطياً، سمح بالتعايش وأعطى فرصة للاجتماع السوري أن ينخرط طوال قرن في ركب الحداثة.. لكن الواقعة وما ترمز إليه ينبغي موضعتها في هذا السياق الخطر الذي تجنح إليه مجتمعات في العالم العربي – الإسلامي “إعادة إنتاج التخلّف لمواجهة مشاريع الهيمنة الغربية”..
لقد شكّل التعليم الحديث طيلة ثلثي القرن الماضي في سورية –بأداته الرئيسية: المدرسة- العمود الفقريّ لمشروع إنتاج فضاء عقلي أكثر عقلنة مما أنتجته عبر القرون الكتاتيب والزوايا..
وعقب تأميم التعليم من قبل الدولة- في خطوة من جملة خطوات خطاها حزب البعث، توخت على المستوى الإستراتيجي وضع المجتمع السوري على سكة التدامج الوطني – أصبحت المدرسة الحكومية هدفاً رئيسياً للهجوم المعاكس الذي تشنه قوى التطرف الديني في محاولاتها لإعادة عقارب الساعة السورية إلى الوراء.. وقد ساعد ضعف الإمكانيات والتضخم الديمغرافي بنسب عالم ثالثية “تضاعف عدد السكان في سورية خلال فترة حكم البعث خمسة أضعاف”، في تقليص مستمر لقدرات الدولة على النهوض بالأعباء المالية التي رتبتها إستراتيجية تعليمية قائمة على مجانية التعليم من جهة وتوفيره للجميع من جهة أخرى. مما ساعد قوى الردة المدعومة ماليا وأيديولوجيا من الجوار النفطي على الزحف لاحتلال كل ما تتراجع عنه الدولة في التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، في سياق تزداد زاوية انحداره بفعل الفساد.وليس هذا مفصولا عن إكراهات أوسع نطاقاً، خضعت لها تجربة التحديث في سورية والمنطقة العربية أبرزها تأثيرا: النفط الوهابي من جهة والتحدي الإسرائيلي من جهة ثانية .. لقد آل سياق الاحتجاج على نقص المشاركة السياسية في مصر وسورية والعراق -“البلدان التي قادت فيها المؤسسة العسكرية تجربة التحديث”- إلى إعادة ترتيب للأولويات عند المعارضة العلمانية بطريقة يتغلب فيها التكتيكي على الإستراتيجي. وتتلاشى فيها خطوط التمايز العقلي بين من يحتج على الحداثة وبين من يحتج على نقصها ..وكما هي الأوضاع في كل مكان يتولى فيه الخطاب الديني وظيفة الاحتجاج السياسي، فإن سيرورة الاندماج الوطني ستتعثر.
إن استكمال تأثيث الدولة الحديثة بالديمقراطية السياسية وبفصل السلطات.. إلخ- وكلها تنتمي إلى فضاء عقلي مفارق للفضاء العقلي الإسلامي. ومن خارج تخوم تجربته التاريخية –لا ’يغذ السير إليه باستقواء المعارضة العلمانية بمن يرى في صوت المرأة عورة وفي الاستماع إلى الموسيقا دعوة إلى الفجور..
لقد راكمت الحداثة في سورية من المنجزات ما يدعو جميع العلمانيين فيها إلى الدفاع عنها بالأسنان.. وفي هذا الإطار تكبر مسؤولية النخبة الحاكمة. فأوسع الثغرات التي ينفذ منها دعاة التشدد الديني بأخيلتهم المريضة وحمى الكراهية التي ينشرونها حيثما حلّوا، هي في قطاع التعليم بمناهجه التلقينية التي لا تصنع عقلا علمياً، وكوادره التي تأهلت معرفياً تحت نفس الشروط.. ولا نكتشف البارود عندما نقول إنّ المستقبل الذي تصنعه الأجيال سيأتي على شاكلة الوعي الذي امتصته أثناء عبورها مراحل التعليم المختلفة..
في سورية أصبح التعليمان : الابتدائي والإعدادي(6+3 سنوات) إجبارياً ومجانياً، مما أزعج القوى الدينية ودفعها للتوسط عند القيادة السياسية للسماح بتسريب الطلاب إلى التعليم الديني عقب انتهاء المرحلة الابتدائية “ويشير التوسع المذهل في عدد المدارس والمعاهد الدينية في سورية إلى نوعية المستقبل الذي يجري صناعته تحت بصر النخبة الحاكمة ومعارضتها “العلمانيتين”..
فتسرّب دعاة وداعيات إلى الحياة الخاصة والعامة، زوادتهم المعرفية حنبلية منقّحة وهّابيا. يعظون في المساجد والبيوت والسرافيس. وينشرون نسخة من إسلام ضيق الأفق ومتقشف سبق وأن اعترض قبل ألف عام من الآن سيرورة التمدن الإسلامي.. قال ابن الأثير في حوادث سنة 323 هـ (ذكر فتنة الحنابلة ببغداد) : ” وفيها عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم وصاروا يكبسون من دور القوّاد والعامّة وإن وجدوا نبيذًا أراقوه وإن وجدوا مغنيّة ضربوها وكسروا آلة الغناء واعترضوا في البيع والشراء ومشي الرجال مع النساء والصبيان فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه مَن هو فأخبرهم وإلاّ ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة فأرهجوا بغداد. فركب بدر الخرشَنيُّ وهو صاحب الشُّرطة عاشر جمادى الآخرة ونادى في جانبَيْ بغداد في أصحاب أبي محمّد البربهاريّ الحنابلة ألاّ يجتمع منهم اثنان ولا يتناظروا في مذهبهم… فلم يفد فيهم وزاد شرّهم وفتنتهم واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون إلى المساجد. وكانوا إذا مرّ بهم شافعيّ المذهب أغروا به العميان فيضربونه بعصيهم حتّى يكاد يموت!”
فهل سيعيد التاريخ نفسه كأسطوانة مشروخة. فلا نكاد نضع قدما على طريق بناء الدولة الحاضنة لجميع مواطنيها حتى تخرج من بيننا قوى ترفع راية الآخرة ولعابها يسيل على الدنيا. ولا ترى في هذه الأخيرة إلا مغانم ينبغي اقتناصها بالغلبة، ويكفي تخميسها لتصبح حلالاً.. أيديولوجيا تظهر التقشف والتعفف وتبطن غرائز حيوانات الغابة..
تنام الحداثة في العسل بينما تجري مياه الردة من تحتها! تختصر هذه الصورة المشهد العربي- الإسلامي.. فمن خليج البنغال إلى طنجة تترنح مشاريع بناء الدولة الحديثة تحت ضربات الإسلام السياسي الذي أفلح في دمجها- داخل المخيلة الشعبية المتلاعب بها دينيا- بمشاريع الهيمنة الغربية.. ومن إمارة الحشيشة التي طهرتها طالبان من الشيوعيين. ومروراً بطلاب المحاكم الإسلامية اللذين يخّمسون البحر في خليج عدن هذه الأيام، وصولا إلى تخميس أمراء المؤمنين فتيات القرى النائية في الجزائر،’يرشُّ سكر الجهاد ضد الكفر فوق غرائز حيوانات الغابة. ويلبس المتأسلمون برقع الدفاع عن الأرض وعينهم على تخميسها ومن عليها بعد النصر..
موقع الآوان