الشيخ وجمهوره
رزان زيتونة
كان صوت الراديو يلعلع كما أراده السائق، بينما غرق ركاب الميكرو باص في صمت مهيب! متصلون يسألون، و«الشيخ» يجيب. فتيات جلسن قبالتي، امتُقِعت وجوههن وبدا الإرباك واضحا على معالمهن، بينما كان الشيخ يجيب بتفصيل مبالغ فيه عن أسئلة طرحت بتفاصيل مبالغ فيها، عن أمور تتعلق بـ«الطهارة» وسواها. هذه «الصراحة» التي تجلت ما بين المتصلات السائلات والشيخ المجيب، مصدرها أن لا حياء في الدين. لكنها تبدو غريبة ومستهجنة بهذه العلنية، التي نشاهد مثلها يوميا في مختلف الفضائيات التي تستضيف «رجالات الدين» وفتاواهم المباشرة. هذا في مجتمعات محظوراتها الاجتماعية والفكرية أكثر بكثير مما هو مباح فيها. وفي الوقت الذي ينأى معظم الأهل بأنفسهم عن الحديث إلى أبنائهم وبناتهم في أمور تتعلق بحياتهم الجنسية وتوعيتهم إلى ما يجب أن يعرفوه بطريقة صحيحة في الوقت الصحيح، لكنهم لا يجدون مغبة من مناقشة أكثر أمور حياتهم حميمية مع «الشيخ» وعلى الهواء مباشرة!
وفي مواضع أخرى، يحل «رجل الدين» محل الطبيب والمحلل النفسي والمرشد الاجتماعي والخبير الاقتصادي، فيفتي في مشاكل صحية واجتماعية ونفسية من منطلق فقهي يعكس بالتأكيد فهمه الشخصي لقراءاته ودراساته الفقهية.
هذا إلى جانب دوره البارز في قضايا الإبداع والثقافة تحريما وتحليلا، نهيا وتكفيرا، مما نجد له أمثلة عملية كثيرة ضحاياها مثقفون ومبدعون.
يلجأ المسلم والمسلمة إلى «الشيخ» و«الشيخة» للبت في الأمور التي يعتقدون فيها ثوابا أو عقابا، وهي تشمل جميع مناحي الحياة وأدق تفاصيلها على أي حال، لا تستثني أمرا اجتماعيا أو اقتصاديا أو عاطفيا أو جنسيا. ولمن يتابع على أي فضائية عربية، تساؤلات المشاهدين في أي من البرامج التي تستقبل الاتصالات والفاكسات والرسائل الإلكترونية من المشاهدين الحائرين ليجيب عنها الشيخ الفلاني، أن يصاب بالدهشة لحالة الاستلاب المطلق لدى هؤلاء تجاه من يفترضون لديه الحقيقة المطلقة.
وفي أحيان أخرى قليلة، قد لا يتوافق رأي الشيخ مع مصلحة السائل أو السائلة، فيلجؤون إلى شيخ آخر برأي آخر، يقترب من الجواب الذي يفضلون سماعه. المهم، الحصول على صك البراءة الذي يفترضونه مخلصا، والإقدام على ما يريدون الإقدام عليه بضمير مرتاح، لا يقلقه أو يشوشه رأي الشيخ الأول المخالف.
«رجل الدين» يدرك تماما ما له من سلطة على الرعية، وهذه بدورها وكأنها لم تعد تدرك ألا وسائط في الإسلام بين الإنسان وربه، وعلى الرغم من أن الكتب الدينية تحتل رفوف المكتبات وهي الأكثر مبيعا في سوق الكتاب العربي، فلاتزال الأغلبية العظمى من الناس على ما يبدو، تفضل طريق الفتاوى والأجوبة المباشرة والسهلة، على القراءة والبحث في كتبها ومراجعها الدينية الكثيرة والمتشعبة.
والأهم أنها لا ترى بأسا في أن ترتكن في تفاصيل حياتها إلى توجيهات ونصائح وفتاوى أشخاص تحتمل آراؤهم الخطأ والصواب، وهم يخطئون بالفعل وأثارت فتاوى بعضهم فضائح وإرباكات كثيرة، واستدعت العديد من الندوات والبرامج والمقالات التي تناقش هذا الموضوع.
هذا من دون أن ننسى الدور السياسي المكمل للدور السلطوي الذي يلعبه كثير من رجال الدين، كما حدث مثلا في قضية شيخ الأزهر وفتواه إياها بجلد الصحفيين، وغيرها كثير، ولله في خلقه شؤون.
ولعل ارتهان كثير من المسلمين في البت بأمور دينهم ودنياهم «لرجل الدين»، هو مدخل أساسي لما سيصبح في ما بعد أحد أمرين: تحالف قوي بين أهل السلطة من جهة والسلطة الدينية من جهة أخرى، واستكمال عملية ضبط الجمهور وتزيين أحواله البائسة، والتحكم بانفعالاته ومسار تفكيره، بغرض استخدامه وقت الحاجة. وإما تسييس الدين وجمهوره وتحديد الأطر التي تشكل حراكه ومشاركته الكامنة أو المفترضة، وسوقه في اتجاه معين مرسوم مسبقا. عدا عن قدرة شخصيات ذات كاريزما معينة، على استقطاب الشباب المسلم إلى مسيرتها العنفية والمتطرفة، وليس نادرا أن نسمع من شبان سبق أن انخرطوا في تيارات «جهادية» عما أسموه عملية «غسل الدماغ» التي يتعرض لها هؤلاء.
والواقع أن مثل هذه العملية في جانب منها، تحتاج إلى عقل مهيأ أصلا للخضوع لها، يبدأ من شبه تقديس رجل الدين وتنزيهه عن الخطأ، واعتباره القدوة والمثل الأعلى، فكيف إذا اجتمعت في هذا الشخص صفتا المشيخة والجهاد المقدس؟ وليس «الجهاد المقدس» بأسوأ من الاستكانة «المقدسة»، إلا بدرجات قليلة وواهية. نرى نتائج الأول على شاشات التلفزيون، لكننا نعيش نتائج الثانية لحظة بلحظة، وإن كان كثيرون لا يشعرون بها.
كاتبة سورية