صفحات ثقافية

الحاوية كطقس تطهري

null
أمجد ناصر
جرَّب البريطانيون كيف يمكن للمدينة، التي تزهو بحدائقها المشذبة وبيوتها ذات الأنساق المعمارية الموحدة، أن تتحول، بين عشية وضحاها، الى مزبلة هائلة. حدث ذلك، فعلا في ما يسمى هنا ‘شتاء الغضب’. ففي عام 1978 أضرب عمال بلديات لندن عن العمل، في آخر نفس من أنفاس الحركات العمالية الكبرى التي عرفتها العاصمة البريطانية، فتراكمت النفايات في الشوارع، الأمر الذي هدد بانتشار الأمراض والأوبئة في المدينة.
كانت نتيجة ‘شتاء الغضب’ ذاك سقوط حزب العمال من السلطة التي لم يذق طعمها إلا بعد نحو ثماني عشرة سنة من التسكع على أرصفة المعارضة.
تذكرت ‘شتاء الغضب’ البريطاني، وأنا اقرأ مقالة للكاتب الايطالي إيتالو كالفينو بعنوان ‘حاوية القمامة المناسبة’ في كتابه ‘الطريق إلى سان جيوفاني’ الذي ترجمته الى العربية، منذ أعوام، أمل منصور وصدر عن ‘مؤسسة الدراسات العربية’.
‘ ‘ ‘
لطالما شغفتني كتابة كالفينو. من حين إلى آخر أعود إلى رائعته ‘مدن لامرئية’ لأرى كيف يتحول المكان الواقعي إلى مكان سحري إن لم يكن أسطورياً، وكيف يتحول السرد الحكائي الى شعرية تكاد تكون بلورية، كما أعود إلى ‘ماركو فالدو’ لأقف على نهم المدينة وابتلاعها للطبيعة وتغريبها للانسان وسخريتها من أبناء الأقاليم والبلدات المغمورة. ‘ماركو فالدو’ الانسان الصغير يبدو لي، لسبب ما، سلفاً لسعيد أبي النحس المتشائل، الذي تنكسر له يد فيحمد الله أنه لم تنكسر يده ورقبته معاً! أما في ‘الطريق الى سان جيوفاني’ فنعود مع إيتالو كالفينو إلى مواضع الخطى الأولى وصورة الأب وروائح البيت. إنه عمل ذاكرة. شيء يشبه السيرة المقتضبة، باستثناء المقالة التي يكرسها الكاتب لتأمل ‘حاوية القمامة’ وما ترتبط به من ‘تعقيدات’ و’نظم’ عائلية وبلدية.
‘ ‘ ‘
أدهشني أن يتوقف كاتب كبير مثل كالفينو أمام واحد من المظاهر التي نغض الطرف، ونكمم الأنف، عند مرورنا بها: حاوية القمامة.
فأي ‘اشراقات’ يطالعنا بها انطلاقاً من سقط متاع الانسان وما يتخلف عنه من فضلات وبقايا في عصر الاستهلاك النهم؟
واضح أن كالفينو كتب مقالته تلك قبل أن يصبح ‘شتاء الغضب’ البريطاني مثالاً كلاسيكياً، في الذاكرة الأوروبية، على المصائر التي تهدد المدينة الحديثة من أوهى جوانبها وأقلها شأناً: النفايات!
فالمقالة مكتوبة في باريس التي كان يقيم فيها الكاتب، كما أنها مذيلة بتاريخ 1976 ولم يكن هناك إضراب أو تكوم للنفايات في شوارع باريس الجميلة. إنه يقول بالضبط:
‘كل ما يلزم عمال النظافة هو قيامهم بالاضراب أياماً قليلة تاركين القمامة تتراكم أمام بيوتنا لتتحول المدينة الى كومة روث عفنة، فنصاب باختناق بأسرع ما يمكن أن يتنبأ به أي انسان بسبب انتاجنا المتواصل للنفايات، ولنتبين أن الوقاية التكنولوجية لحضارتنا (الغربية) ما هي إلا قشرة هشة وتنكشف أمامنا صور قروسطية (القرون الوسطى) من التفسخ والوباء’!
هذا، بالضبط، ما يرويه الذين عاشوا ‘شتاء الغضب’ في لندن حيث تحولت مدينة الحدائق الشهيرة والمحال التجارية العالمية الصيت، إلى مزبلة كبيرة.
لكن إلى ماذا ترمز عملية ‘نقل’ القمامة وجمعها واخفائها عند كالفينو؟
إنها طقس تطهري شبيه بطقوس الأضاحي والقرابين التي تقدم لآلهة العالم السفلي.
فما محتويات ‘الحاوية’ إلا جزءاً من كينونتنا و’محتوانا’ الذي يجب أن يغرق، يومياً، في الظلمة، كما يظل الجزء المتبقي من هذه الكينونة في النور إلى أن يجيء اليوم الذي يكف فيه جسد الانسان عن تقديم قرابين جديدة فيتحول نفسه إلى جثة تحمل، هي أيضاً، في تابوت مغلق وتدفن تحت التراب. توارى، عميقاً، كما توارى النفايات، كما تُستر العورة.
هكذا يرى كالفينو ‘التمثيل اليومي’ للنزول إلى العالم السفلي عبر ‘جنازة القمامة’ المنزلية، أو البلدية، وهذا يعني كما يقول ‘ان اؤجل جنازتي الشخصية، أن ارجئها، ولو لفترة بسيطة، لاؤكد أنه وليوم واحد آخر كنت منتجاً للفضلات وليست فضلات نفسي’!
لكن هؤلاء العمال الذين يأتون مرة أو مرتين في الاسبوع ليخلصونا من ‘شرور’ أنفسنا، من استهلاكنا الضاري، من الجزء القاتم فينا، ليسوا، في نظر كالفينو، مثل ‘خارون’ الذي ينقل الموتى في مركبه إلى العالم الآخر في الميثولوجيا اليونانية، وإنما هم مثل الملائكة، مثل وسطاء ضروريين بين أنفسنا والفردوس!
‘ ‘ ‘
كل وجود له فضلاته وبقاياه وآثاره. هذا ما يفعله الكائن الحي على الأرض. هذا عقابه أيضا. ففي الأعالي، قبل أن يأكل آدم التفاحة، لم تكن للانسان فضلات. هذه هي فكرة الجنة: عالم بلا فضلات. عالم ملائكة وطهر ونور. أما على الأرض، حتى الأفكار العظــيمة والكتابات التي امتعت البشر وغيرت حياتهــــم لها فضلاتها، فلا يسع كالفينو، والحال، إلا أن يلاحظ أن الأوراق نفسها التي كتب عليها تلك المقالة ذهبت، هي أيضاً، إلى مصيرها المحتوم: سلة النفايات!
طبعاً، حدث ذلك قبل أن يختفي الورق والقلم والحبر ويحل لوح الكومبيوتر تدريجياً محل أدوات الكتابة التي رافقــــــت الانســـان عبر العصور. كالفينو لم يعش هذا العصر الرقمي الذي نعرف نفاياته (يا لكثرتها) ولكننا لا نعرف مقبرتها التي لا بدَّ أن تكون بوسع الكون.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى