أدباء دوكمه.. وأدب توجيهي
خطيب بدلة
حينما كنت صغيراً، كنت أسمع كلمة (دوكمه)، ولا أفهم معناها، إلى أن جاء يوم، كنت أعبر السوق الجواني ببلدتي “معرتمصرين”، فوجدت عدداً كبيراً من الصناديق الخشبية مصفوفة على نسق، وقد كُتبت على كل منها بخط عريض كنيةُ مالكها الحاج مصطفى دحروج.
وكان ثمة عمال يُنزلون البطيخ الأصفر من الشاحنات الصغيرة على الأرض، وينتقون منه البطيخات الناصحات اللواتي تفوح منهن الروائح الزكية، ويضعونها في الصناديق، ثم يغلقون الصناديق، و(يبسمرونها)، استعداداً لنقلها إلى سوق الهال بحلب.
وخكذا فإن البطيخ الجيد، المعبأ في الصناديق، يوضع على ظهر الشاحنة ويُرسل إلى حلب، ومنها اصطلح على تسميته (بطيخ ظَهر حلب).. وأما البطيخات: المبعوجة، والمشرومة، والمجقومة، والمملوشة، والعَوّيرة.. فكانوا يقذفونهنَّ على كومة جانبية، ويطلقون عليهن عدة تسميات، منها (القِطَاعة)، والـ (شيلة بيلة).. ويبيعونها دفعة واحدة، بـ (الكوم).
وما يرسلونه، أحياناً، من هذه البضاعة (الستوك) إلى حلب أو إدلب أو حماه أو اللاذقية كانوا يضعونه في الشاحنات من دون (صندقة)، وكيفما اتفق، ويقولون عن هذه الطريقة في التحميل (دوكمه)! وكذلك فإن الحبوب التي تُرسل من مدينة إلى مدينة ولا توضع في الأعدال يقولون عنها، هي الأخرى: (دوكمه).
تذكرتُ هذه التسميات حينما قرأت خبراً على أحد المواقع الإلكترونية يقول إن إحدى الجهات الثقافية، في إحدى الدول العربية المناضلة، تنوي إقامة مهرجان شعري يضم سبعمئة شاعر من الشعراء المحليين! وتجري الاتصالات الآن لاستضافة ثلاثمئة أو أربعمئة شاعر من الدول العربية المناضلة الأخرى!
والحقيقة أن هذا الخبر قد استفز مخيلتي وبعث فيها نشاطاً محموماً حتى أصبحتُ في مسيس الحاجة لأن أتناول بعض العقارات الطبية المهدئة، ففعلتُ، ولكنني، وقبل أن يأخذ العقار المهدىء الذي ابتلعتُه مفعولَهُ، تخيلتُ أن الجهة المنظمة للمهرجان لم تتمكن من إيجاد قاعة (طبيعية) تتسع لكل هؤلاء الشعراء! فقررتْ أن (تفلتهم) في الملعب البلدي لكرة القدم!.. وقد سمح لكل واحد منهم بإلقاء بيت شعري واحد إذا كان صاحبه عمودياً.. ومقطعاً لا يزيد عن تسع كلمات إذا كان صاحبه تفعيلياً أو نثرياً.. وذلك حرصاً على الوقت والدور!
وحين خروجهم من الجلسة الصباحية، تدفقوا إلى الشارع متزاحمين، فالتبس الأمر على شرطة حفظ النظام، إذ اعتقدوا أنهم جمهور كرة القدم، وأنهم يستعدون للشغب، فطوقوهم بسرعة، ورفعوا في وجوههم الواقيات الخاصة بالشغب، ولوح لهم بعض العناصر بالأحزمة!
إن الخبر الذي نشره ذلك الموقع الإلكتروني عن الشعراء الذين سيخوضون غمار ذلك المهرجان الشعري، قد أبطل، على ما يبدو، مفعول العقار المهدىء للمخيلة الذي ازدردتُه، إذ سرعان ما تذكرتُ خبراً طريفاً للغاية قرأته، قبل مدة قصيرة، عن روائي أسباني، دعي لحضور مهرجان للرواية الأسبانية، وقد أبلغه موصلُ بطاقة الدعوة أن المهرجان مهم جداً، وسوف يحضره ثلاثةٌ وثلاثون روائياً من خيرة روائيي أسبانيا، فصفر بفمه صفرة أطارت الحمام والعصافير والزرازير التي كانت متواجدة ضمن دائرة نصف قطرها خمسون متراً وقال:
– عجيب هذا الكلام. وهل يوجد في أسبانيا ثلاثةٌ وثلاثون روائياً؟!!
الحقيقة هي أنني، لحظتئذ، شعرت بالزهو، وبالفخر، والاعتزاز.. لعدة أسباب..
فأولاً، نحن متفوقون على أسبانيا وغيرها من دول العالم بالإنجاب. خذ أية إحصائية ديموغرافية وستجد أن عدد سكان هاتيك الدول إما ثابت، أو ينقص سنة عن سنة، أو يزيد بنسب مخجلة. وأما نحن فنتكاثر، مثلما قال القس مالثوس بمتواليات هندسية، يعني عددنا يتضاعف كل بضع سنوات..
وثانياً، نحن نتميز عن غيرنا في موضوع الإنجاب من ناحية الإصرار على الإنجاب، فصحيح أننا نعاني من البطالة، والهيئات الخاصة بمكافحة البطالة التي أوجدتها الحكومة زادت في طين بطالتنا بلة، ولكننا سننجب، ومن لم يعجبه ذلك فأمامه الحيطان الصلبة.
ثالثا، إن الأدب في أسبانيا وغيرها من البلاد الغربية هو أدب نخبوي، وأكبر مهرجان عندهم لا يزيد عدد المشاركين فيه عن ثلاثين (زلمة).. وأما الأدب عندنا، فهو جماهيري.. شعبي.. توجيهي.. هادف.. وصامد، ومقاتل كمان!
البعث