حــجــر الــشــمـــس
احتفلت المكسيك صحافةً ومؤسسات ثقافية بمرور عشر سنين على غياب شاعرها العالمي اوكتافيو باث (نوبل 1991). نقدم للمناسبة اولى قصائده الطويلة والشهيرة “حجر الشمس” عن الاصل الاسباني، بعد مراجعتها، زيادة في الدقة، على الترجمة الفرنسية التي قام بها الشاعر بنيامين بيريه احد اركان السوريالية، وفي اشراف باث بالذات الذي كانت تربطه به صداقة. صدّر باث قصيدته بثلاثة ابيات من قصيدة “أرتميس” للشاعر الفرنسي جيرار دونرڤال. وهي تدخلنا مباشرة في جو “حجر الشمس” العام. اعني به نقض الزمان. فهذه الابيات تلغي كل مفهوم يستند الى الزمن الخطي، ويُعلي شأن الزمنية الدائرية. مع هذا الانصهار الزمني، تنصهر الساعات وحتى الحبيبات عند نرڤال. فالساعة 13 تعود، وهي ايضا الاولى. استوحى نرڤال هذه الصورة من ميناء الساعة الدقاقة القديمة، حيث كانت توضع فوق الارقام 1، 2، 3… الارقام 13، 14، 15… وبذلك تكون الساعة الاخيرة هي ايضا الاولى، اي ان ثمة ساعة واحدة تولد الا انها تضم الجميع. وهذا ما يتبسط فيه باث على مدى قصيدته.
تبدأ القصيدة في 4 أولين (الحركة) بحسب التقويم الأثتيكي، وتنتهي في 4 أيهيكاتل (الريح). وكان المكسيكيون القدماء يحسبون الدوران الاقتراني لڤينوس (الزهرة، نجمة الصباح) بالشمس في 584 يوما. هكذا تنتهي دورة وتبدأ أخرى. وهذا ما دفع باث الى ان يضع قصيدته في 584 بيتا موزونا. وتظهر ڤينوس في برهتين: إما كنجمة الصباح (فوسفوروس) وإما كنجمة المساء (هسبيروس) وكان لهذه الثنائية تأثير كبير على شعوب اغلب الحضارات التي رأت فيها رمزا او تجسيداً لازدواجية الكون الاساسية. وعليه، فان ايهيكاتل، الهة الريح، هي احدى ظواهر كويتسالكواتل، الافعى ذات الريش التي تحمل في ذاتها منحدرَي الحياة. واذا ما قُرنت ڤينوس بالقمر، الرطوبة، بالماء، نمو النبات، بالموت وانبعاث الطبيعة، تكون هذه النجمة بالنسبة الى القدماء عقدة من الصور والقوى المزدوجة: سيدة الشمس، الحجر المخروطي، الحجر الخام (الذي يذكّرنا بقطعة الخشب غير المشذّبة في الطاوية).
الساعة الثالثة عشرة تعود… وهي ايضاً الأولى،
ودائماً الوحيدة، – او هي البرهة الوحيدة،
فهل أنتِ ملكة، يا انت! الاولى أو الأخيرة؟
جيرار دو نرڤال (أرتميس)
4 أولين
صفصافة بلور، حورة ماء،
نافورة ماء عالية تحنيها الريح،
شجرة صلبة وإن تكن مرتعشة،
مجرى نهر يتقوّس،
يتقدّم، يتراجع، ينعطف
ويصل دائماً:
مسار كوكب
هادىءٌ أو ربيعٍ بطيء
ماءٌ مغمض الأجفان
ينبجس منه ليل النبوءات بأسره،
حضورٌ إجماعي مائج،
موجة اثر موجة حتى تغطية كل شيء،
سيادةٌ خضراء بدون غسقٍ
كانبهار الأجنحة
حين تنبسط في الفضاء،
مجرى الأيام الآتية
بين العلّيق وبريقُ
البؤس المشؤوم كطائر
يسحر الغابة بتغريده
والابتهاجات المداهمة
بين الأغصان التي تضمحلّ،
ساعات من ضياء نقدتها الطيور من زمن،
فؤول تفرّ بين الأصابع،
حضورٌ كنشيد مباغت،
كالريح مغنّيةً في الحريق،
نظرة تبقي العالم معلقاً
ببحاره وجباله،
جسد من ضياء مصفّى بالعقيق،
سيقان من ضياء، حضن من ضياء، أرجوان،
صخر شمسي، جسد بلون الغمام،
بلون نهار مسرع وثاب،
الساعة تتلألأ وتتخذ جسداً،
العالم الآن مرئي في جسدك،
شفاف في شفافيتك،
أمضي بين أروقة الأصوات،
أنساب بين حضور رنّانٍ وحضور،
أمضي عبر الشفافيات كأعمى،
يمحوني انعكاسٌ أولد في آخر،
يا غابة الأعمدة المسحورة،
تحت أقواس الضياء أدخل
مماشي خريف شفاف،
حضنكِ بقعة مشمسة،
نهداك كنيستان يحتفل فيهما
الدم بأسراره المتوازية،
تغطّيك نظراتي كاللبلاب،
مدينة أنت يحاصرها البحر،
سور يقسمه الضياء
نصفين بلون الدرّاق،
مكانُ للملح، الصخور، والطيور
تحت شرعة الظهيرة في تأمّلها،
مكتسيةً بلون رغائبي
كفكرتي تمضين عارية،
وأمضي عبر عينيك كما في الماء،
من هاتين العينين تشرب الحلمَ النمور،
وبهاتين الشعلتين يحترق الطنّان،
أمضي عبر جبينك كما عبر القمر،
كغمامة عبر ذهنك،
أمضي عبر حضنك كما في أحلامك،
تنورتك الذرَويّة تموج وتغنّي،
تنّورتك البلّورية، تنّورتك المائيّة،
شفتاك، شعرك، نظراتك،
تمطرين طوال الليل، طوال النهار،
تفتحين صدري بأناملك المائية،
تغلقين عينيّ بثغرك المائي،
على عظامي تمطرين، في صدري
تغرز شجرةٌ سائلة جذورها المائيّة،
أمضي عبر قامتك كما في نهر،
أمضي عبر جسدك كما في غابة،
كما في درب جبليّة
تُفضي الى هاوية،
أمضي عبر أفكارِكِ المشحوذة،
وعند مخرج جبينكِ الأبيض
يتحطّم ظلّي السريع،
أُلملم أجزائي واحداً واحداً،
وأستمرّ بلا جسدٍ، باحثاً على غير هدى،
للذاكرة أروقةٌ بلا انتهاء،
أبوابُ مفتوحةٌ على صالةٍ فارغة
تتلف فيها كلّ الأصياف،
في مؤخّرها تتلألأ جواهر العطش،
وجهٌ يتلاشى ما إن أتذكّره،
يدٌ تتفسَّخ حين ألمسها،
جُمَمٌ عنكبوتيّة في صخَب
على بسماتٍ من سنين عدّة،
وعند مخرج جبيني أبحث،
أبحث ولا أثر، أبحث عن لحظة،
عن وجه للبرق والعاصفة
يعدو بين ا لأشجار الليليّة،
عن وجهٍ للمطر في حديقةٍ للظلمات،
عن ماء متشبّث يجري الى جانبي،
أبحث ولا أعثر، أكتب في العزلة،
ليس من أحدٍ، يسقط النهار، يسقط العام،
وأنا أسقط مع اللحظة، أسقط الى القعر،
في طريقٍ خفيٍّ عبر مرايا
تعكس صورتي المحطَّمة،
أدوس على أيّامٍ، على لحظاتٍ متجاوَزة،
أدوس على أفكار ظلّي،
أدوس على ظلي بحثاً عن لحظة،
أبحث عن تاريخٍ حيٍّ كطائر،
أبحث عن شمس الساعة الخامسة في مساء
تُفتر حدّته جدران التيثونْتل (حجر بركان):
الساعة كانت تُنضج عناقيدها
وعند تفتّحها كانت الصبايا يخرجن
من أحشائها الوردية وينتشرن
في باحات المعهد المبلّطة،
وكانت الساعة عاليةً كالخريف، تسير
متدثّرةً بالضياء تحت صفّ القناطر
وكان الفضاء المحيط يكسوها
جِلداً مذهّباً بكامله وشفّافاً،
نمرٌ بلون الضياء، يَحمور أسمر
حوالى الليل،
فتاةٌ تُلمَح متكئةً
على شرفات المطر الخضراء،
وجهٌ يافعٌ متعدّد الشكل،
نسيتُ اسمك يا ميلوسينا،
لورا، إيزابيلاّ، برسيفونا، ماريّا،
لكِ كلّ الوجوه، وليس لك أيّ واحد،
أنتِ كلّ الساعات، ولست أيّ واحدة،
أنتِ كالشجرة والغمامة،
أنتِ كلّ الطيور وأنتِ نجمة،
تُشبهين حدّ السيف
وكأسَ دم الجلاّد،
لبلابٌ يتقدّم أنتِ، يغطّي ويجتثّ
النفسَ ويفصلها عن ذاتها،
كتابةٌ من نارٍ على اليَشْب،
صَدعٌ في الصخر، ملكة أفاعٍ،
عمود بخار، ينبوعٌ في الصخر،
مدرّجٌ قمريّ، قِمّة عقبانٍ،
حبّة يانسون، شوكةٌ دقيقةٌ
وقاتلةٌ تُحدِث آلاماً أبديّة،
راعيةُ أوديةٍ تحت – بحريّة
وحارسة وادي الأموات،
عارشةٌ تتدلّى على جُرُف الدوار،
نبتةٌ متسلّقة، نبتةٌ سامّة،
زهرةُ القيامة، عنبُ الحياة،
سيّدةُ المزمار والبرق،
مصطبةُ الياسمين، ملحُ الجروح،
باقةُ وردٍ للمَرميّ بالرصاص،
ثلجٌ في آب، قمر المشنقة،
كتابةُ البحر على حجر البَزَلْت،
كتابةُ الريح في الصحراء،
وصيّةُ الشمس، رمّانةٌ، سنبلة،
وجهٌ من الشُّعَل، وجهٌ مفترَس،
وجهٌ يافعٌ مضطهَد،
سنواتٌ موهومة، أيّامٌ دائرية
تُطلّ على الباحة ذاتها، على الجدار ذاته،
اللحظة تشتعل وأوجه الشعلة المتوالية
ليست سوى وجهٍ واحد،
كلّ الأسماء اسمٌ واحد،
كلّ الوجوه وجهٌ واحد،
كلّ الأجيال لحظةٌ واحدة
ولكلّ أجيال الأجيال
زوجُ عيونٍ يقطع الطريق الى المستقبل،
لا شيء أمامي سوى لحظةٍ
استُلحقت هذه الليلة، في مقابل حلمٍ
من الصور المتزاوجة المحلومة،
المنقوشةِ عميقاً في النعاس،
المنتزعةِ من عدم هذه الليلة،
المرفوعةِ بقبضة اليد حرفاً حرفاً،
فيما الزمن في الخارج يحتدم
والعالم يقرع أبواب نفسي
بجدول مواعيده الضاري،
لا شيء سوى لحظةٍ فيما المدن،
الأسماء، المذاقات، المعيش
تنهار على جبيني الأعمى،
فيما ثِقل الليل المؤلمُ
يُذلّ فكري وبنيتي
ودمي يجري في بطءٍ زائد
وتتعرّى جذور أسناني وتتحجّب
عيناي وتكدّس الأيّام والسنون
أهوالَها الفارغة،
فيما الزمن يُغلق مروحته
ولا شيء خلف صوره،
واللحظة تغوص وتطفو،
محاطةً بالموت، مهدّدةً
بالليل، بتثاؤبه الفاجع،
مهدّدةً برطانة
الموتِ الراسخ والمقنَّع،
اللحظة تغوص وتتداخل
كما تنغلق قبضة، كما تنضج
ثمرةٌ في صميم ذاتها،
وتشرب من هذا الصميم وتنتشر،
اللحظة الشفّافيّة تنغلق
وتنضج في صميمها، مرسلةً جذورها،
وتنمو فيّ، تحتلّني كلّي،
أوراقها الهاذية تطردني،
أفكاري ليست سوى طيورها،
زئبقها يجري في شراييني،
شجرةً ذهنيّة، ثماراً بطعم الزمن،
أيتها الحياة التي ستُعاش والمعيشة،
الزمن يعود كمدٍّ
وينحسر بدون أن يلتفت،
ما مضى لم يكنْ لكنّه يأتي
وبكلّ هدوء يصبّ
في لحظةٍ أخرى تتلاشى:
أمام مساء البارود والحجرِ
المسلّح بسكاكين خفيّة،
بكتابةٍ حمراء لا تُحلّ رموزها،
تكتبين على جِلدي، وهذه الجروح
تُغطّيني كرداءٍ من شُعَلٍ،
وأشتعل ولا أتلف، أبحث عن الماء،
ولا ماء في عينيكِ، عيناكِ من حجَرٍ،
ونهداكِ، حُضنكِ، كَشْحك
من حجرٍ، ولثَغركِ مذاق الغبار،
لثغركِ مذاق زمنٍ مسموم،
ولجسدكِ مذاق بئر بلا غَور،
رواق مرايا تعكس
عينَي الصديان، رواقٌ
يعود دائماً الى نقطة انطلاقه،
وأنتِ تقودينني، أنا الأعمى، بيدك،
عبر أروقةٍ مستمرّة
نحو مركز الدائرة وتنتصبين
كبريقٍ يتجمّد فأساً،
كضياءٍ ساحج، باهرٍ
كالمقصلة، في عيني المحكوم عليه،
مَرنٍ كالسوط، رشيقٍ
كسلاحٍ توأمِ القمر،
وكلماتُك المسنونة تحفر
صدري، تعرّيني منّي، تفرّغني،
تنتزعين ذكرياتي واحدةً واحدة،
نسيت اسمي، وأصدقائي
ينخرون بين الخنازير أو يتلفون
مأكلاً للشمس في وادٍ،
لا شيء فيَّ سوى جرحٍ وسيع،
تجويفٍ لا يجوزه أحد،
حضورٍ بلا نافذة، فكر
يعود، يتكرّر، ينعكس
ويضيع في شفّافيته بالذات،
وَعْيٍ تثقبه عينٌ
تنظر الى نظرتها ذاتها حتى تمّحي
من الصفاء:
شاهدتُ قِشرتك الشنيعة
ميلوسينا، تتلألأ خضراء عند الفجر،
كنتِ ترقدين ملتفّةً بالأغطية،
وعند إيقاظكِ صرختِ كطائر
وسقطتِ بلا انتهاء، محطّمةً وبيضاء،
لم يبقَ منكِ شيءٌ سوى صرختك
وبعد قرونٍ ينكشف لي
مع السعال وضعف النظر، وأنا أُقلّب
مجموعة صُوَرٍ قديمة:
أن لا أحد موجوداً، أنك لست أحداً،
ثمة كومة رماد ومكنسة،
مديةٌ مثلّمة ومنفضة ريش،
جِلدٌ ملصَقٌ على عظام،
عنقودٌ جافٌّ من زمنٍ، ثقبٌ أسود
وفي قلب هذا الثَقب عينا طفلٍ
غريقٍ من ألف عام،
نظراتٌ مدفونةٌ في بئر،
نظراتٌ ترانا منذ البدء،
نظرةُ طفل لأمٍّ عجوز
ترى في ابنها الكبير أباً فتياً،
نظرة أمٍّ لفتاة مهجورة
ترى في أبيها ابناً طفلاً،
نظراتٌ تنظرنا من عمق الحياة،
مصايد للموت
– أو بالعكس: السقوط في هذه العيون
يعني العودة الى الحياة الحقيقية؟
السقوط، العودة، أن أحلم بي وتحلم بي
عيونٌ أخرى في المستقبل، حياةٌ أخرى،
غيومٌ أخرى، أو أن أموت موتاً آخر!
– أنا تكفيني هذه الليلة، وهذه اللحظة
التي لا تكفّ عن المكاشفة معلنةً لي
أين كنتُ، من أكون، ما هو اسمكِ،
ما هو اسمي:
هل كنتُ أرسم خططاً
للصيف – ولكل الأصياف –
في شارع كريستوفر، منذ عشر سنين،
مع فيليس ذات الغمّازتين
اللتين كانت تشرب منهما الضوء عصافير الدوري؟
قالت لي كارمن في متنزّه “الريفورما“
“الهواء لا ثقل له، هنا دائماً اكتوبر“
أو قالت ذلك الى آخر غَرُب عن بالي
أو لفّقتُ ذلك كله ولم يقل لي أحدٌ شيئاً؟
ألم أكن أسير مرة في ليل أواكساكا،
الشاسع وذي العتمة الخضراء كشجرة،
متحدّثاً الى نفسي كالريح المجنونة
وبوصولي الى غرفتي – دائماً غرفة –
لم تتعرّف إليّ المرايا؟
ألم نرَ الفجر من فندق “فيرنيت“
يتراقص بين أشجار الكستنة – وقلتِ لي
وأنتِ تسرّحين شعرك “الوقت جدّ متأخر“،
وكنتُ أرى بقعاً على الجدار من دون أن أنبس بكلمة؟
ألم نصعد معاً الى قمّة البرج، ألم نرَ
المساء يسقط من أعلى الرصيف الصخري؟
ألم نأكل العنب في بيدار؟ ألم نشترِ
الغردينيا في بيروته؟
أسماء، أمكنة،
شوارع وشوارع، وجوه، ساحات، شوارع،
محطات، متنزه، غرف وحيدة،
بُقع على الجدار، أحدهم يسرّح شعره،
أحدهم يغنّي الى جانبي، أحدهم يلبس،
غرف، أمكنة، شوارع، اسماء، غرف،
في مدريد عام 1937،
في ساحة “الآنجل”، كانت النساء
يخطن ويغنّين مع أبنائهن،
ثم قُرع ناقوس الخطر، وعلا الصراخ،
وجثتٌ بيوتٌ على الارض،
وانشقّت أبراج، وتلطّخت جباهٌ بالبُصاق
وإعصار المحركات الدائم:
لكنهما تعرّيا وتحابّا،
للدفاع عن قسمتنا الخالدة،
عن حصّتنا من الزمن والفردوس،
كي نلمس جذورنا ونفتتح مجدّداً أنفسنا،
ونعثر على ميراثنا الذي اختطفه
لصوصُ الحياة من ألف جيل،
كلاهما تعرّيا وتعانقا
لأن عريَ الاجساد المتعانقة
يجتاز الزمن ويكون منيعاً،
لا يمسّه شيء، يعود الى البداية،
فليس ثمة أنت أو أنا، أمسِ أو غدٌ، ولا أسماء،
ولا حقيقة مزدوجة في جسدٍ واحد، ونفسٍ واحدة،
الكينونة بكليتها…
غرفٌ عشوائيّة
بين مدنٍ تغور،
غرفٌ وشوارع، أسماء كجروح،
للغرفة نوافذ تُطلّ على غرف أخرى
بالورق الجداريّ نفسه،
حيث رجل لابس قميصاً يقرأ صحيفة
أو امرأة تكوي، الغرفة مضيئة
تزورها أغصان شجرة درّاق؛
الغرفة الأخرى: يهطل المطر في الخارج دائماً،
وثمّة باحةٌ وثلاثة صغارٍ بليدون؛
غرفٌ كأنها سفنٌ تتمايل
في خليج من ضياء؛ غرفٌ تحت – بحريّة:
السكون ينتشر أمواجاً خضراء،
كلّ ما نلمسه يتألّق؛
ضرائح فخمة، البورتريهات
قُرضت من زمن، البُسط بالية،
فخاخٌ، خلايا، كهوفٌ مسحورة،
مزارع طيور وغرفٌ مرقّمة،
كلها تتجلّى، كلها تطير،
كل نتوءٍ تزيينيّ غيمة، كل بابٍ
يُشرف على البحر، الحقول، الهواء، كل طاولة
وليمة؛ كلها منغلقة كالأصداف،
يحاصرها الزمن سدىً،
ليس ثمة زمن ولا جدار: ثمّة فضاء، فضاء،
افتحْ يدك، اقطفْ هذه الثورة،
تناول الثمار، كل الحياة،
تمدّدْ عند جذع الشجرة، اشرب الماء!
الكل يتجلّى، الكل مقدّس،
كل غرفةٍ هي مركز العالم،
هي الليلة الاولى، النهار الاول،
وُلد العالم إذ تعانق حبيبان،
نقطة ضياء بأحشاء شفّافة،
تنفتح الغرفة قليلاً كثمرة،
أو تنفجر ككوكب صموت،
والقوانين التي قرضتها الفئران،
وسياجات المصارف والسجون،
السياجات الورقيّة، وأسلاك الحديد الشائكة،
وعظ الأسلحة الرتيب،
العقرب المعسولة ذات القلنسوة،
النمر ذو القبّعة المستديرة، رئيس
نادي النباتيّين والصليب الأحمر،
الحمار المربّي، التمساح
ممثّلاً دور المنقذ، أبو الشعوب،
الرئيس، القِرش، مهندس المستقبل،
الخنزير في لباسٍ عسكريّ،
ابن الكنيسة المفضّل
الذي يغسل طاقم اسنانه الأسود
بالماء المقدّس ويأخذ دروساً
في الانكليزية والديموقراطية، الجدرانُ
الخفيّة، والأقنعة الفاسدة
التي تفصل الأنسانَ عن البشر،
الأنسانَ عن ذاته،
جميعها تنهار
في لحظةٍ هائلة ونلمح
وحدتَنا المفقودة، ضِيقَ
كينونتنا، ومجدَ كينونتنا،
وتقسيمَ الخبز، الشمس، الموت،
والدهَش المنسيّ لكوننا أحياء؛
الحبّ كفاحٌ، يتغيّر العالم
إذ يتعانق حبيبان، تتجسّد الرغبات،
يتجسّد الفكر، ينمو جناحان
على كتفَي العبد، يصبح العالم
حقيقيّاً وملموساً، والخمرُ خَمراً،
والماءُ ماءً، والخبزُ يستعيد طعمه،
الحبّ كفاحٌ، فَتْح أبوابٍ،
رفضُ أن تكون شبحاً ذا رقمٍ
محكوماً عليه بالأشغال الشاقّة المؤبّدة،
من قِبَل سيّدٍ بلا وجه؛
العالم يتغيّر
إذ يتبادل اثنان النظرات ويتعارفان،
الحبّ تجرّدٌ من الأسماء:
“اسمحْ لي أن أكون مومسك، هذه كانت كلمات
هيلوييز، لكنّه خضع للقوانين
واتخذها حليلة، ومكافأةً له،
تمّ خَصيُه؛
من الأفضل الجريمة،
انتحار العشّاق، سِفاح القربى
بين الأخ والأخت، كمرآتين
مولَعتين بتماثلهما،
من الأفضل تناوُل الخبز المسموم،
الزنى في أسرّة الرماد،
الحبّ الشرِس، الهذَيان،
ولبلابُه السامّ، اللواط
الذي يحمل بصقةً، مثل قرنفلةٍ
في عروة، من الأفضل أن تُرجَم
في السّاحات لا أن تُدوّر ناعورة
تُعبّر عن ماهيّة الحياة،
تحوّل الأزل الى ساعاتٍ فارغة،
والدقائقَ الى سجونٍ والزمان
الى قِطَعِ نقدٍ نحاسيّة وبرازِ ذبابةٍ تجريديّ؛
من الأفضل العفّة، هذه الزهرة الخفيّة
التي تترجّح على سيقان الصمت؛
ألماسُ القدّيسين الصعب
الذي يُصفّي الرغبات، يُتخم الزمان،
أعراسُ الهدوء والحركة،
العزلةُ تغنّي في تويجها،
كلُّ ساعةٍ بَتَلة بلّور،
العالمُ يتجرّد من اقنعته،
وفي وسطه الشفّافيّة، المؤثّرة،
التي نسمّيها الله، الكينونة بلا اسم،
المتأمّل ذاته في العدم، الكينونة بلا وجه،
المنبثق من ذاته، شمس الشموس،
فيضٌ من الحضور الشامل والأسماء؛
أُواصل هذياني، غُرَفٌ، شوارع،
أسير تلمّساً في أروقة
الزمنِ أصعد أنزل أدراجه
أجسّ جدرانه ولا أتحرّك،
أعود الى حيث بدأتُ، أبحث عن وجهكِ،
أسير في شوارع ذاتي
تحت شمسٍ بلا عمر، وأنتِ الى جانبي
كشجرةٍ، كنهرٍ تسيرين،
كسنبلةٍ بين يديّ تنمين،
كسنجابٍ بين يديّ ترتعشين، كألف عصفورٍ تطيرين، ضحكتكِ
بالزبد تُغطّيني، رأسكِ
نجمةٌ صغيرة بين يديّ،
يخضرّ العالم ثانيةً إذ تبسمين
وأنتِ تأكلين برتقالة،
يتغيّر العالم
إذ يهوي على العشب عاشقان
دائخان متعانقان: تهبط السماء،
تسمق الأشجار، والفضاء
سكونٌ وضياء، الفضاء
مفتوحٌ لعقاب العين،
تعبر قبيلة الضباب البيضاء،
يتحرّر الجسد من قلوسه، ترفع النفس مرساتها،
نفقد أسماءنا، نطفو
مع التيّار بين الزرقة والخُضرة،
زمنٌ شاملٌ لا يحدث شيء فيه،
سوى جرَيانه الخاصّ السعيد،
لا شيء يحدث، أنتِ صامتة، طارفة العين،
(سكون: مرّ ملاكٌ في هذه اللحظة
المديدة كالعيش مئة شمس)،
ألمْ يحدثْ شيءٌ سوى اختلاج الأجفان؟
– والوليمة، والمنفى، والجريمة الأولى،
وفكّ الحمار، والضجّة الكثيفة،
ونظرة الموت الجاحدة
الساقطةُ على السهل الرمادي،
أغاممنون وجؤاره الهائل
وزعيق كاسندرا المعاد
أشدّ من زعيق الأمواج،
سقراط مقيّد (الشمس تبزغ،
الموت يقظة: “كْريتون، ديكٌ
لأسْكولاب، ها أنا شفيت من الحياة“)،
وابن آوى الذي يبحث بين خرائب
نينوى، والطيف الذي رآه بروتوس
قبل المعركة، وموكنزوما
في فراش سهاده الشائك،
السفر في عجلة نقلٍ الى الموت،
– سفر روبسبيير اللامتناهي،
المقيسُ دقيقةً بدقيقة،
وفكّه محطّمٌ بين يديه،
تْشورّوكا في برميله كما على عرشٍ
أرجوانيّ، خُطى لينكولن المعدودة مسبقاً
في طريقه الى المسرح،
حشرجة تروتسكي وأنينه
الخنزيريّ، ماديرو ونظرته
التي ظلّت بلا جواب: لماذا تقتلني؟
وأَيمُن الله، والآهات، وصمتُ
المجرمِ، والقدّيسين، والأنسانِ المسكين،
ومقابرُ العبارات والنوادرِ
التي ينبشها كلاب البيان،
الهذيان، الصهيل، الدمدمة الغامضة
التي نحدثها عند النزاع ولهاثُ
الحياةِ الوليدةِ وصوتُ العظامِ
المسحوقة في العراك
وفمُ النبيّ المزبدُ وصراخه
وصراخ الجلاّد
وصراخُ الضحيّة…
شُعَلٌ
هي العيون وشُعَلٌ ما تنظره،
شعلةٌ هي الأذن، الصوت شعلة،
الشفاه جمرُ، اللسان جُذوة،
اللمس وما يلمسه، الفكر والمفكَّر فيه،
والذي يفكر شعلة،
الكل يشتعل، الكون شعلة،
ويشتعل العدم ذاته الذي ليس
سوى فكر مشتعل، وفي الاخير سوى دخان:
ليس ثمة جلاد ولا ضحية…
والصراخ
في مساء الجمعة؟ والصمت
الذي يتدثر بالعلامات، الصمت
الذي يقول من دون ان يقول، الا يقول شيئاً؟
وصرخات الناس هل هي لا شيء؟
ألا يحدث شيءُ إذ يعبر الزمان؟
– لا شيء يحدث سوى رفّ عين
الشمسِ، تكاد تكون حركة، بل لا شيء،
ليس ثمة خلاص، الزمن لا يعود الى الوراء،
الموتى راسخون في موتهم،
ولا يمكنهم ان يموتوا موتاً آخر،
لا يُمسّون، مسمَّرون في حركاتهم،
منذ عزلتهم، منذ موتهم،
بدون علاج، ينظروننا من دون ان ينظرونا
موتهم بات نُصْبَ حياتهم،
أزلٌ بات عدماً،
كل دقيقة هي لا شيء الى الأبد،
ملكٌ شبح يحدّد نبضاتك،
حركتك النهائية، وقناعك القاسي
على وجهك المتغيّر:
نحن اثرٌ تذكاريّ لحياة غريبة،
لم تُعَشْ، نكاد نملكها،
– ومتى كانت الحياة ملكنا حقا؟
متى نكون حقاً ما نكون؟
في الحقيقة نحن لا نوجد، لسنا سوى
دوار وفراغ، وجهاً لوجه،
سوى تكشيراتٍ في المرآة، رعب وغثيان،
قطعاً ليست الحياة ملكنا، هي للآخرين،
الحياة ليست لأحد، كلنا
الحياة – خبز الشمس للآخرين،
كل الآخرين الذين هم نحن –،
فأنا آخر حين أكون، وأفعالي
ليست ملكي إن تكن ايضاً للجميع،
كي أستطيع أن أكون عليَّ أن أكون آخر،
أن أخرج مني، وأبحث عنّي بين الآخرين،
الآخرين الذين ليسوا إن لم أوجد.
الآخرين الذين يمنحونني وجوداً،
ليس ثمّة انا، ثمّة نحن على الدوام،
الحياة هي الآخر، الهناك دائما، الأبعد،
خارجاً عنك، عنّي، في الأفق دوماً،
حياة تضلّنا وتفصلنا عن ذواتنا،
تبتكر لنا وجهاً وتمحقه،
جوعَ الكينونة، يا موت، يا خبز الجميع.
هيلوييز، برسيفونا، ماريّا،
أظهري وجهك أخيراً كي أرى
صورتي الحقيقيّة، صورة الآخر،
صورتي صورة النحن جميعاً أبداً،
صورة الشجرة والخبّاز،
السائق والغيمة والنوتيّ،
صورة الشمس والنهر وپيار وپول،
صورة الفرد الجماعي،
استيقظي، ها أنا أولد:
الحياة والموت
يتحالفان فيك، سيدةَ الليل،
برجَ الضياء، ملكةَ الفجر،
عذراءَ القمر أمَّ الماء – الأمّ،
جسدَ العالم، بيتَ الموت،
منذ ولادتي أسقط بلا نهاية،
أسقط في ذاتي من دون أن ألمس قاعي،
التقطيني بعينيك، اجمعي الغبار
المبعثر، وفّقي بين أرمدتي،
ضمّي عظامي المنفصلة، انفخي
على كينونتي، ادفنيني في ترابك،
ليعطِ صمتك السلامَ للفكر
المثار على ذاته،
افتحي اليد،
سيّدةَ البزور النهارات،
النهار خالدُ، يطلع، ينمو،
يولد ولا ينتهي أبداً،
كلّ نهارٍ ولادة، وولادةٌ
كلّ فجر، وأستيقظ،
ونستيقظ جميعنا، نبزغ
الشمس بوجه الشمس وينهض
جان بوجه جان، وجهِ الجميع،
بابَ الكينونة، أيقظتني، كن الصباح،
دعني أشهد وجه هذا النهار،
دعني أشهد وجه هذه الليلة،
الكلّ يتواصل، يتجلّى،
قوسَ دم، جسرَ نبضات،
خذني الى الجهة الأخرى من هذه الليلة،
حيث أنا أنت، حيث نحن الآخرون،
في مملكة الأسماء المتشابكة،
باب الكينونة: افتح كينونتك، استيقظْ،
تعلّمْ أن تكون ايضاً، انحتْ وجهك،
صُغْ ملامحك، احصلْ على عينين
لتنظر وجهي وأنظرك،
لأنظر الحياة حتى الموت
وجهَ البحر، الخبزِ، الصخرِ، والينبوعِ،
الينبوعِ الذي يصهر وجوهنا
في الوجه البلا اسم، الكينونةِ البلا وجه،
في حضور لا يوصف لكل حضور…
أريد أن أستمر، أن أمضي الى أبعد، ولكن لا استطيع:
اللحظة تندفع في أخرى وأخرى،
لقد غفوتُ بأحلام حجرٍ لا يحلم
وفي غضون سنوات اشبه بحجارة
سمعتُ دمي يغنّي حبيساً،
والبحر كان يغنّي بصحب ضياء،
وكانت الأسوار تهوي واحداً واحداً،
وكلّ الأبواب كانت تنهار
والشمس كانت تسرع الى النهب في جبيني،
وتفتح أجفاني المطبقة،
وتُخرج كينونتي من غلافها.
وتقتلعني من ذاتي، وتفصلني
عن سُباتي القاسي لأجيالٍ حجريّة
وكان سحر مراياها يُنعش
صفصافةً بلّور، حورة ماء،
نافورةَ ماء عاليةً تحنيها الريح،
شجرةً صلبة، وإن تكن مرتعشة،
مجرى نهر يتقوّس،
يتقدّم، يتراجع، ينعطف
ويصل دائماً:
4 إيهيكاتل ■
أوكتافيو باث
(التقديم والترجمة: هنري فريد صعب)