بين الديمقراطية و الليبرالية
مازن كم الماز
لا شك أن كلمة ديمقراطية لا تطرب أي مسؤول عربي , أيا كان , إنها تنتمي لخطاب سياسي يمقته كل زعيم عربي مهما كان تعريف تلك الديمقراطية بائسا و محدودا . لكن هذا لا يعني أن الموجة الدارجة تشكل أكثر من إزعاج نفسي لهذه الأنظمة , فهذه الموجة نفسها تشكل جزءا ضروريا , لسوء حظ هؤلاء السياسيين , من مواجهة خصوم اليوم , حلفاء الأمس : الأصوليون ( يستطيع النظام السوري أن يعتبر نفسه رائدا هنا في هذه المواجهة , لكنه يكتفي بخبرته في استخدام أجهزة الأمن , إن العداء بينه و بين خطاب الليبراليين الجدد السياسي مستحكم حتى ينهي خلافه مع مرجعيتهم السياسية و الفكرية المتمثلة في أمريكا مركز النظام الرأسمالي العالمي رغم أنه متحمس جدا للجانب الاقتصادي من هذه الليبرالية الجديدة ) . عند الحديث عن الديمقراطية الكويتية مثلا نجد أنفسنا مضطرين لتناولها في عدة مستويات متعارضة تماما يجب عدم الخلط بينها , بين الديمقراطية الكويتية نفسها كتعبير عن توازن هش بين الأسرة الحاكمة و النخب الاقتصادية و العشائرية و بين الليبرالية الكويتية , الأنضج من بين القراءات الخليجية لليبرالية , و التي تعتبر مهمتها الأساسية مواجهة الأصوليين و ليس تكريس الديمقراطية القائمة أو مواجهة سياسات الأسرة الحاكمة المعادية للديمقراطية و التي يقف الأصوليون و معهم النخب الاقتصادية و الاجتماعية القائمة خارج النظام في مواجهتها , إننا أمام ليبراليين لا يكترثون للديمقراطية على الإطلاق رغم أنهم يتحدثون عنها طول الوقت , كما أن أغلبية اشتراكيي الأمس و اليوم لا يكترثون للاشتراكية نفسها و هم لا يتحدثون عنها إلا لكي يفسروها لصالح البرجوازية و الطبقات السائدة , إننا أمام طرق مختلفة إلى روما نفسها , تبريرات مختلفة لذات الواقع . يحدثنا التاريخ أن هذه الديمقراطية , و مؤسساتها التمثيلية , كانت تعبيرا عن توازن غير محسوم بين سطوة الأمير و عائلته و بين النخب العشائرية و المالية الكويتية المتنورة و التي كانت تطالب بدرجة من المشاركة في الحكم , و أن تاريخ العلاقة بين تلك النخب و المؤسسات التمثيلية التي شكلتها و بين الأسرة الحاكمة كانت عبارة عن تاريخ طويل من الصراعات التي غالبا ما حسمها الحكم بتعطيل هذه المؤسسات و لو إلى حين , و المستوى الآخر لفهم الليبرالية الخليجية و الكويتية خاصة هو المستوى الفكري و السياسي الراهن , الذي تشكل فيه تقليعة خاصة من الليبرالية ماركة مسجلة “خليجية” في فترة ما بعد 11 سبتمبر أيلول , تماما كما شكلت السلفية الأصولية الماركة الخليجية المسجلة في فترة الحرب الباردة , و التي كانت يومها جهادية ضد الاتحاد السوفيتي و الشيوعيين والقوميين , بذات الدرجة التي نرى فيها هذه الليبرالية الجديدة “جهادية” ضد الأصوليين و بعض اليساريين و القوميين الذين يدعمونهم أو يترددون على الأقل في مهاجمتهم . هذا الشكل الخاص من الليبرالية يريد أن يترجم النيوليبرالية الريغانية – البوشية خاصة إلى اللغة العربية السياسية و يقدمها ليس فقط كخصم جدير للأصولية , بل كمواصلة , أو إعادة , لمشروع التحديث المنقطع أو المتوقف أو المأزوم , ليس فقط في ظروف الخليج الثري بفضل أموال النفط , بل أيضا في الدول العربية الأكثر فقرا و ربما الأكثر تأثيرا أيضا . هذا ينسجم بالطبع مع التغير الهائل في الفكر السياسي البرجوازي , الذي كان يعتبر التصنيع مثلا أساس هذا التحديث في الخمسينيات , و الذي تبنته الأنظمة “القومية” يومها و مارسته بشكل متخلف و فوقي و انتهى أخيرا إلى فشل ذريع , و الذي كان يعتبر الدولة – الأمة الشكل الضروري للكيان السياسي الرأسمالي , للسوق الرأسمالية , لكن البرجوازية لم تعد بحاجة لغاريبالدي جديد اليوم ( و لا حتى لبيسمارك تقليدي ) , إنها على العكس من ذلك , فقد عملت و تعمل خاصة منذ انتصارها في الحرب الباردة على عولمة السوق الرأسمالية و توحيد ظروف عملها في كل مكان , إلى أقصى أطراف الأرض , و هي لذلك أصبحت تبشر بمثقف كوزموبوليتي يؤمن بأصولية السوق المطلقة كمركز للحياة السياسية و الاجتماعية , و يؤمن بالحداثة , أو الأنسنة البرجوازية , كجزء من , أو حتى كجوهر , للمركزية الأوروبية , إنها تبشر ببيسمارك عصري على شاكلة أتاتورك أو رضا بهلوي . و يرتبط ظهور الليبرالية الجديدة أيضا بصعود وسائل الإعلام الجماهيرية الجديدة المؤثرة و التي تستخدم أساليب إيصال و تأثير مختلفة جذريا عن وسائل الإعلام القديمة الرسمية , إن استخدام أساليب “حوار” مختلفة عن التلقين الجامد القديم كفيلة بإعطاء صورة مختلفة و لو مؤقتا عن صورة الإعلام الرسمي الجامدة و المكرسة لتمجيد رأس النظام , كما أنها و خلافا لدور مؤسسات الإعلام القديمة تتحدث ضد الطائفية و العشائرية و لو بشكل سطحي في محاولة لإثبات موضوعية و تقدمية خطابها . هذه الليبرالية الجديدة هي بنت شرعية تماما ليس فقط للحرب على الإرهاب بل لوسائل الإعلام الجديدة التي منحتها و استمدت منها قدرة جديدة على التأثير بصورة أكبر في إعادة إنتاج صمت الجماهير و قبولها بالأمر الواقع وتزييف مفاهيم و شعارات كالديمقراطية و الحرية مثلا , تماما كما كانت شبكة الانترنيت قد خلقت فرصة جديدة لنقل الفعل النخبوي من المؤسسات التابعة للسلطة و من مقاهي الثقافة إلى العالم الافتراضي و منحت الفرصة لمجموعة محدودة من المثقفين النخبويين لمواصلة فعل معارض محدود و منعزل بالضرورة عن الجماهير . هكذا بينما أن الديمقراطية الكويتية من الناحية الإجرائية العملية ستبقى نتاجا للصراع المحموم بين النخب الاجتماعية و السلطة و الذي لا يبدو أنه مقبل على مساومات جدية في غياب قدرة النظام على حسم هذا الصراع و تهميش هذه النخب أو دمجها بمؤسسات النظام كما حصل و يحصل في معظم الدول العربية الأخرى , و من جهة أخرى ستبقى الليبرالية , بشكلها الجديد , التابع , الذي يستبعد عمليا أي كلام جدي عن مشاركة جماهيرية في الممارسة السياسية اليومية و يبقيها أسيرة نخب محدودة تدخل في صراع أو مساومات مع الأنظمة القائمة بينما يجري توظيف فكرها “الإنسانوي” في المعركة المحتدمة ضد الأصولية و بشكل مفتوح لصالح الأنظمة القائمة من جهة و النظام الرأسمالي العالمي من جهة أخرى , رغم أن هذا كله يشير إلى الوظيفة و الهوية الآنية و الطارئة لهذه الليبرالية , و خاصة ارتباطها بالسلطة و القوى الاجتماعية المهيمنة , سواء في مجتمعاتنا أو على الصعيد الكوني , تماما كما كان حال سلفها الأصولي في الماضي القريب , إلا أنه لا يختزل كل احتمالات المستقبل القريب بالضرورة , يجب أن نذكر هنا أن الأصوليين رغم كل الموارد التي كانت بين أيديهم يومها لم يصبحوا قوة شعبية حقيقية حتى تحولوا إلى معارضة تلك الأنظمة التي دعمتهم و استخدمتهم للدفاع عنها , و عندما انتقلوا من التحالف , كتابع , مع النظام الرأسمالي العالمي إلى مقاومته بعنف شديد , أي حتى فقدوا كل تلك الامتيازات السابقة , هذا يعني أنه يمكننا أن نتنبأ بأن الليبراليين لن يتحولوا إلى قوة فعلية في الشارع , ليس في الانترنيت أو وسائل إعلام الأنظمة الاستبدادية أو وسائل الإعلام المرتبطة برأس المال العالمي , إلا عندما يتعرضون للشتم اليومي كما يفعلون هم اليوم بالأصولية على وسائل إعلام السلطة و إلا عندما تعلن أمريكا أو أي مركز إمبراطوري قادم الحرب عليهم باسم الإرهاب أو غيره , و هذا غير مستحيل في نهاية المطاف , فهذه الأنظمة الاستبدادية لم تكن بالأمس إسلامية عندما كانت تستخدم الأصوليين كما أنها اليوم لم تصبح ليبرالية رغم استخدامها الليبراليين الجدد , و هذا ينطبق على النظام الرأسمالي العالمي أيضا , هذا لن يعني أن البرجوازية الصغيرة التي تلبرت للتو قد جرى تثويرها , كما لا يعني انقلاب الأصوليين على سادتهم القدامى أنهم قد أصبحوا ثوريين فجأة , بل يعني أنها ستشعر بأهميتها عندما تتمكن من مساعدة سادتها الحاليين في القضاء على خصمهم قوي الشكيمة و أنها ستشعر بقدرتها على احتلال مركز السلطة من السادة الحاليين , لا يمكن تثوير النخبة , إنها تدرك جيدا متى يمكنها أن تكون ثورية عندما تصبح الظروف مواتية و متى يجب عليها الالتزام بالسمع و الطاعة رغم أنها لم و لن تتوقف عن دعوة الجماهير للسمع و الطاعة في كل الأحوال و الأزمان , هذا هو دينها المقدس , هذا فيما يتعلق بالنخبة , أما فيما يتعلق بالجماهير فالقضية تختلف تماما عن كل ذلك …………….
خاص – صفحات سورية –