سوريــا: ليــس الجنـس ظاهــرة لكنــه خلّـص الأدب مـن الإغـراق الإيديولوجـي
راشد عيسى
حين نسأل الروائي ممدوح عزام إن كان الجنس اليوم يأخذ من الأدب السوري المساحة التي يستحقها يقول: «حتى الآن هنالك تردد وحياد، وفي المقابل هناك انفتاح وتفهم للموضوع. التردد يظهر بسبب الوازع الأخلاقي. البعض يرى أن الجنس لا يأخذ من وقتنا سوى ربع ساعة، وهو بالتالي لا يقاربه إطلاقاً، كما يقاربه البعض مثل بقية الموضوعات الإنسانية. لكن حتى الآن لم تحسم الرواية السورية أمرها من زاوية الموقف من استخدام الجنس، فهناك من لديه خوف من النقد الأدبي أو الاجتماعي أو الديني. وفي العموم لم يأخذ الجنس ما يستحقه باعتباره سرّ البقاء الإنساني». وفي ما يتعلق بتجربته في الكتابة، وفي ما إذا كان هنالك من رادع يبعده عن توظيف الجنس في كتابته قال: «ليس لديّ رواية أحجمت عن تناول موضوع الجنس لأي سبب كان، بل قاربته بما هو جدير به، طالما أن الغاية هي الكشف ومقاربة الشخصية والأحداث. أنا لا أكتب والخوف موجود على طاولتي، كما لا أتعمد الذهاب إلى موضوع ما إلا لخدمة النص الروائي».
عزام الذي أشار إلى روايات فيصل خرتش، وعلي عبد الله سعيد، وسمر يزبك، وروزا ياسين حسن، ككتابات لم تتهيب من موضوعة الجنس، أضاف: «ليس الجنس غائباً في الكتابة السورية، لكنه ما زال في مرحلة جنينية».
ليست ظاهرة
الروائي خليل صويلح قال: «الكتابة الجنسية في سوريا في الرواية لم تنضج، ولم تخترق المحرمات، فما زلنا مهمومين بالأيديولوجيا، ولعل لرواية السجن رواجاً أكثر مما لرواية الجنس. مطلوب نص لهتك ذلك، والرواية السورية لم تجد نفسها بعد. الارتباك التقني والسردي في الرواية هو جزء من ارتباك الشخصية السورية، وبالتالي يمكن أن يبدو الجنس نافراً وليس بموقعه». ويسوق صويلح الروائية هيفاء بيطار مثلاً على هذا الارتباك. إذ يقول: «لبيطار سمعة اختراق المحرمات الجنسية، ولكنها تكتب رواية ركيكة. في حين أنني متهم باستعمال الجنس ولكني لا أستعمله بغرض الترويج». ويتساءل صويلح، في معرض تلميحه إلى موضوعة الجنس كترويج ليس إلا: «أين هي أحلام مستغانمي اليوم؟ لقد انطفأت بعد أن اشتغلت على العنوان كفخ للقارئ. لذلك اجتذب قراء هم ربات البيوت. أحياناً يلعب الناشرون هذا الدور، كما في عنوان رواية «تاء الخجل» لفضيلة الفاروق».
وفي الوقت الذي ينفي فيه صويلح عن كتابة الجنس الجديدة في سوريا صفة الظاهرة حيث «خمسة أسماء لا تكفي لصنع ظاهرة، وإذا كان هنالك رواية جنسية هنا فلم يكتب منها سوى المانشيت»، فإنه لا ينفي أن «الجسد السوري تحرر من أعباء كثيرة، وقد ألغي موعد الثامنة مساء في عودة الفتاة إلى بيتها، وذلك بفعل تحولات اقتصادية رفعت سقف الحرية الشخصية: المولات والفضائيات والموبايل والدردشة عبر الانترنت..». وفي رده على الاتهام الدائم للنصوص الجديدة بأنها تضع الجنس في المقدمة قال: «أعتبره اتهاماً باطلاً، فهذا الاقتحام لموضوع الجنس جزء من إعلاء شأن الذات في الرواية السورية التي ظلت مرهونة طويلاً للقضايا الكبرى وبرامج الأحزاب السياسية، بمعنى أن الأيديولوجية كانت مسيطرة على هذه الرواية. الآن أشعر أن الفرد السوري قد بدأ يوسّع المربع الذي يعيش فيه وينظر إلى الجوار قليلاً، الأمر الذي أتاح له اختبار أوضاع الجسد ومفهوم الحب نفسه».
الروائي نهاد سيريس اعتبر أن الرواية السورية لم تتهيب، وفي الوقت نفسه لم تتمادَ. واعتبر أن حيدر حيدر كان جريئاً في مقاربة موضوع الجنس. وأضاف: «الرواية السورية لم تخف في الاقتراب من الموضوع، ولكن لم تقدمه بالشرح والوصف والتحليل. لم تُكتب رواية عن الجنس بحدّ ذاته، ولكن البطل فيها هو ذلك الذي يتميز بالفحولة، فيما تتميز المرأة بالشبق». وعن رواية الشباب الجدد قال: «لم أر أحداً تجرأ مثل حيدر حيدر. وفي الوقت الذي يظهرون شجاعة لا أجد عندهم النضج المطلوب، أقول النضج وبذهني كاتب كميلان كونديرا؛ الجنس كرفض للمجتمع وخرابه، ودلالة على موقف يرفض هيمنة الحزب الواحد والحياة الرتيبة. أجد في روايات الشباب بعض الإقحام، ولكنهم لا يتهيبون. في رواية مثل «بريد عاجل» لخليل صويلح استعراض للقدرات الجنسية لا يتناسب مع البيئة التي يعيش فيها بطل الرواية. أما الكاتبات فلديهن جرأة ولكن ليس في تناول موضوع الجنس بالذات. فحين قرأت ما كتبته الروائية نعمة خالد وجدت أنها تقلد الرجال في الكتابة عن الجنس، ولعلها تقلّد كاتباً بعينه. أما هيفاء بيطار فتقدم بطلاتها في مواقف جريئة، مثلاً امرأة تتزوج من غير دينها، أما العلاقة الحميمة فلم تكتبها».
وعن مقاربته لموضوع الجنس في كتابته قال سيريس: «في «حالة شغف» صوّرت الحالات المثلية، أو ما نسميه في حلب «بنات العشرة»، ورغم أنني وصّفت الحالة تاريخياً، وصورت مظاهرها، ومناسباتها وحفلات الإشهار، فقد وصلني من بعض القراء أنني كنت بخيلاً في ذلك التصوير. والشيء نفسه عند تصويري للعلاقات الجنسية العادية التي كانت عبارة عن إشارات تفيدني في تقديم الشخصية، أكثر من أنها تهتم بإمتاع القارئ. في «الكوميديا الفلاحية» لم أتهيب في فضح الابتذال الجنسي لهؤلاء البدو الذين اجتاحوا المدينة، وسيطرتهم على البيت العمومي (بيت الدعارة) وكيف يتصرفون مع النساء. لكنني في كل ذلك لم أرد أن أقدم للقارئ ما يبحث عنه في الأدب الفاضح، ولم يوقفني الحياء أيضا».
أوفياء لشياطينهم
الروائية روزا ياسين حسن، ولها رواية «أبنوس»، قالت: «الكتابة عن الجنس جزء من كينونة الإنسان، لم أخف من الكتابة عنه، ولم أحسب حساباً للرقيب، وإلا أكون قد سلّمت عنقي لرقيبي الداخلي الذي سيمسخ نصي ويمسخني. أردت أن أكون وفية لشخصياتي، وأتركها تُبنى كما ينبغي». روزا أشارت إلى عدد من المظالم التي يتعرض إليها الكاتب «مرة من السلطات جميعها، دينية كانت أم اجتماعية، أم سياسية. ومرة من زميله المثقف، ومرة حين يُقرأ نصه من باب الجنس». ونفت روزا أن تكون الكتابة عن الجنس ظاهرة «ولكن أتمنى أن ينفتح الأدب على الإنسان بكل دواخله، هناك تجارب فردية اشتغلت على الموضوع بعضها بشكل جميل وبعضها عادي. ولكن ما زالت الرواية السورية تفكر بألف اعتبار غير أدبي، وقليلون هم الذين كانوا أوفياء لشياطينهم. وهناك بالتأكيد جيل نسائي صار يرفض تكريس فولكلور معين للكتابة النسائية».
الروائية سمر يزبك، صاحبة «صلصال» و«رائحة القرفة» وسواهما، قالت إن غرض الجنس في روايتها الأخيرة التطرق إلى الاستغلال الجنسي من سيدة لخادمتها، قالت «إن هناك روائيين جدداً، وأصحاب نص مختلف، صاروا يدركون أن الجنس مثله مثل أي موضوعة أخرى، كالحب والصداقة. هو تفصيل من جملة تفاصيل وقد آن الوقت لنحكي عنه من دون خوف ولا إثم. أنا أستغرب لماذا نحكي عن الجنس كبعبع، وأستغرب أكثر لماذا يقال عن المرأة إنها جريئة حين تتناول في كتابتها موضوع الجنس، الأمر الذي لا يقال عن الرجل». وعند سؤالها حول ما إذا كانت المرأة أقدر من الرجل على كتابة الجنس تقول: «ليس بالضرورة، فجودة الكتابة لا يحددها جنس الكاتب، فيمكن لكاتب أن يكتب مشاعر امرأة أكثر مما تستطيع. هذا ما نراه في رواية هدى بركات «حجر الضحك»، وهذا طبيعي، فأنا أؤمن بأن الناس يولدون وفي داخلهم كلا الجنسين اللذين يتعايشان معاً». وعن مخاوفها من الرقابة بكل صنوفها أثناء الكتابة قالت: «ليس لدي مشكلة. وفكرة الرقيب غير موجودة بداخلي، الجنس مشاعر إنسانية لا تقل أهمية عن سواها». ولكن يزبك لم يفتها أن تشير إلى بعض المصاعب: «نحن الكاتبات معرضات للهجوم أكثر من الكتاب، فهذا حنا مينه ذكر العلاقات المثلية في رواياته ولم يتهجم عليه أحد». وتذّكر ببعض الأوصاف التي أطلقت على هؤلاء الكتاب، الذين كتبوا عن الجنس، حين وُصفوا بـ«أدباء غرفة النوم»، وتعلّق «هكذا يمكن للنفزاوي، وغيره من شيوخ التراث الذين تناولوا الجنس، أن يصبحوا من أدباء غرف النوم». يزبك كانت تلمح إلى ملف نُشر في «ملحق الثورة الثقافي» تحت عنوان «أدب غرف النوم» وتضمن في معظم مقالاته نقداً لاذعاً للجنس في الكتابات الجديدة. حتى إن مدير تحرير الملحق، الروائي غازي حسين العلي، وهو الذي أعدّ الملف، وصف واحدة من الروايات بأنها «مجرد مذكرات مومس»، وهو هنا ردّ موضحاً حين سألته عن ذاك الهجوم: «هي وجهة نظر، لا هجوم ولا حرب. أنا أيضاً تطرقت إلى الجنس في روايتيْ «صخب الأرصفة» و«حديقة الرمل»، فالجنس جزء من تركيبة الإنسان ولا بدّ من التعبير عنه، ولكني ضد طريقة الاستخدام». وعند سؤاله عن تلك الطريقة وهل من وصفة لذلك أجاب: «لم يعطنا أحد وصفة، ولكن الكتابة الإبداعية هي ما يفرض شكل تناول الجنس. الذي ينبغي تناوله برقيّ، لا لمجرد تحريك الغرائز. هناك روايات أشبه بأفلام البورنو. الأمر يشبه الفارق بين امرأة عارية على الشاطئ، وأخرى يشفّ جسدها من وراء ثوب مبتلّ، أيهما أجمل؟ ينبغي أن تكون اللغة بشفافية ذلك الثوب».
وفي الملف نفسه، ورد رأي آخر اعتبر أن ما أصاب بعض الروايات الجديدة يشبه ما أصاب فتيات الفيديو كليب، فقد كتبت الروائية لينا هويان الحسن تقول: «ما يحدث يشبه تماماً موجة الفيديو كليب، حيث الفنانة لا صوت ولا صورة فتحشو جسدها بالسليكون وتختبئ وراء الميكرفونات ومصفيات الصوت وتعري جسدها قدر ما يتاح لها. أما إذا كانت فاقدة للموهبة تماماً: فإنها تتشخلع وهذا ما يحدث مع الرواية العربية حالياً». وهي قالت لنا توضح: «أنا مع الإيروتيك على أن يكتب بطريقة صحيحة، بمعنى أن يكون هنالك قيمة فنية للنص تحمل الإيروتيك. لا ان يكون هذا النص مفتعلاً ومقرفاً. عندما أقرأ نصاً إيروتيكياً أقرأه بفضول واستمتاع شديد، ونموذجي المفضل هو ماريو بارغاس يوسا، ولكن ليس لدينا أديب عربي استطاع أن يقترب من نصه. ما نراه في النصوص العربية مفردات فجة، غير فنية، تشبه بورنو رخيصاِ. الأدب العربي لم يتقن بعد صنعة الإيروتيك. وكذلك الأديبات العربيات باستثناء غادة السمان التي استطاعت مقاربة النص بشكل ذكي. إن من يكتب اليوم أناس مساكين حقاً، خصوصاً الرجال الذين ليس لديهم تجارب، ولذلك فإنهم ينسبون لأنفسهم تجارب جنسية مفتعلة». أما عن كتاباتها فتقول لينا: «لقد كان الحياء مشكلة لي في نصوصي السابقة. ولو أنني في رواية «بنات نعش» كتبت عن بيئة قبلية، واشتغلت على النص الصحراوي ، فقاربت الإيروتيك ولكن موّهته بالرمال. أما في نصوصي القادمة فلا حياء، بل خفر».
قطيعة
شاكر الأنباري، الروائي العراقي المقيم حالياً في دمشق، رأى أن «في الكتابة العربية الجادة، خاصة في الرواية، لم يأخذ الجنس حيزاً كبيراً يستحقه في النصوص»، واعتبر أن «الثقافة العربية ثقافة مختلة العقل؛ فثمة كتابة لا تعتمد في وصولها إلى القارئ إلا على التهييج الشكلي، والمباشر، وغير المرتبط بجدوى الجنس داخل النص، وهذا ما يمارسه عديمو الموهبة، ومسطحو الرؤية تجاه الحياة عموماً. وبسبب دخول المرأة الجديد نسبياً، في حقل الرواية، وتعطش القارئ لمعرفة هذا الجنس الغريب عليه، نتيجة القمع التاريخي للمرأة ونتيجة للثقافة الذكورية،
تلقّف الإعلام الجرأة القادمة من الأنثى حتى وإن جاءت مفتعلة ومفبركة ولغوية، وروّج لها كثيراً، وغلبت في أحيان على المواصفات الفنية للكتابة وأصول الرواية الأساسية».لكن الأنباري يستثني بعض النماذج الروائية «التي أراها ناجحة في الاستفادة من الجنس كحالات إنسانية موظفة فنياً؛ روايات علوية صبح، وحنان الشيخ، وروايات فؤاد التكرلي، خاصة في «المسرات والأوجاع»، ورشيد الضعيف في عدد من أعماله. في حين تسقط الروايات النسائية
الشابة في كثير من الأحيان بسطحية تناول موضوعة الجنس، ومرجع ذلك إلى بساطة الفن الروائي والسذاجة الفنية عموماً، لا إلى تناول الجنس ذاته. في النماذج الثلاثة السابقة تم تناول الجنس عبر مداخيل مبررة فنية. علوية صبح تقدم الأنثى عارية، وتكشف الستار عن الانفعالات وصدق المشاعر ورؤية تلك الأنثى إلى الذكر. بينما تتغلغل حنان الشيخ في متاهة المرأة المقموعة. فؤاد التكرلي نظر إلى الجنس، والعلاقة بين المرأة والرجل، باعتبارهما معادلاً موضوعياً للموت، لذلك كانت مشاهد مضاجعة شخصياته تحت نار القصف، ودوي الانفجارات، تأكيداً على ديمومة الحياة. أما اللبناني رشيد الضعيف فكشف عري الرجل، تفاهة ذكوريته وثقافته الواحدية وعزلته داخل شرنقته الشرقية وهي تحن إلى أخلاقيات عهد المماليك، وما تحث عليه من ضرورة وضع جسد المرأة في خانة الحريم».
وعن تجربته قال الأنباري: «بالنسبة لي لا أوظف المشاهد الجنسية إلا بمقدار ما يتطلبه النص، ولا أعمد إلى فلسفته لغوياً، بل أضعه في سياق انفعال الشخصيات واكتشافاتهم لجسد الآخر، وعلاقة ذلك الاكتشاف بحركة الأحداث عموماً، أي الجنس كانفعالات نفسية ومتعة حياتية لها علاقة باندماج بين فردين وحالتين، يصلان إلى التوحد عبر التلاصق والتداخل والاشتباك والملامسة، لإنتاج حالة معرفية يلعب الحسي بها دوراً كبيراً».
قد يفهم المرء الكثير من الاتهامات التي سيقت في مواجهة موجة الكتابة الجنسية، سوى أن ذلك الذي يلمح إلى كونها غزواً ثقافياً، ونوعاً من العولمة، باعتبارها غزواً هي الأخرى، بدا الأغرب. يجيب خليل صويلح على ذلك بالقول: «النص الجنسي ليس مستمداً من الغرب. ولعل سوء الفهم سببه القطيعة بين التراث وما امتلأ به من نصوص جنسية، وبين الحاضر. بالنسبة لي إذا كان في نصّي شيء من هذا كلّه فهو تحية لأسلافي من الفقهاء المتنورين في التراث العربي».
لا شك ستظل الحرب قائمة بين أنصار الجنس في الأدب، وأنصار الأدب والتأدب في الجنس، وإذا كانت اليوم لم تبلغ أشدها، فذلك لأن الكتابة عن الجنس لما تزل على العتبة، ولأن الأدب لم يتوغل في حياة الناس إلى الحدّ الذي يصبح شاغلاً ومؤثراً، ويثير بالتالي ذاك النقاش الواسع. ليس هنالك من جدوى في التضييق على أي نص من أي نوع، خصوصاً في موضوعة الجنس، التي كلما ضاقت الحلقات حولها ظهرت على هيئة أدب مواز، في النكتة، والأغنية، والشعر الشعبي، وقبل كل شيء في الحياة.
(دمشق)