من التعميم الى التعويم !!
خيري منصور
عندما يطلب من طفل ان يرسم شجرة او انسانا فهو لا يعنى بأية تفاصيل، وغالبا ما يكون رسمه أشبه بصليب وفي الحالات النادرة ومنها ما يروى عن ونستون تشرشل في طفولته، فإن الطفل الحاد الذكاء قد يكتشف قدرته على التركيز مبكرا، ولولا حصافة ذلك المعلم البريطاني الذي رأى الطفل ونستون ينسى ورقة الامتحان والاسئلة ويستغرق لأكثر من نصف ساعة في رسم عدة دوائر لها مركز واحدن لربما انتهى تشرشل الى سائق شاحنة شأن امثاله من اطفال العرب والعالم المتخلف الذي لا يقيم وزنا لأي شيء يتجاوز المألوف والمنسوب المسموح به وفق الاعراف. تنبّه المعلم الى ان الطفل ونستون كان شديد التركيز ورغم رسوبه في الامتحان لأنه انصرف عنه الى تأملاته الخاصة الا ان المعلم قرر ان يرصده عن قرب، وبذلك استدل الطفل مبكرا على طريقه فالتي الغابة. وحين يكبر الطفل يبدأ بالاهتمام بالتفاصيل فلا يعود الانسان الذي يرسمه مجرد صليب والشجرة مجرد خطوط متقاطعة يبدأ في ملاحظة الاغصان والعناقيد مثلما يلاحظ تفاصيل في الجسد الانساني غير الساقين والذراعين، وهذا ينطبق الى حد بعيد على البالغين، لكن بصورة أخرى، فالبلوغ ليس متجانسا او متماثلا، انه متفاوت وثمة بالغون لا يعرفون الفطام، وحين يحرمون من ثدي الام او فوهة الزجاجة يلعقون اصابعهم للتعويض ورضوخا للعادة.
ما يكتب عن النظام السياسي الرسمي، والنخب او الإنتلجنسيات العربية، يقترب كثيرا من رسوم الاطفال ذات النزوع التعميمي، وكأن هناك نظاما واحدا موزعا بالتساوي على اكثر من عشرين بلدا، كما ان الانتلجنسيا ايضا غير متجانسة، انها بأبسط التعريفات تعبر عن طبقات وفئات ومصالح، وهذا ما دفع معظم الباحثين في جذور الظاهرة الثقافية إلى ان يعودوا الى غرامشي الذي كان قد حدّد بشكل دقيق مفهوم المثقف، بدءا من العضوي، وان كان غرامشي ذاته قد فوجىء في قبره بأن هناك من المثقفين الايطاليين الشبان من ينسبه الى الطبقة الصناعية وبالتحديد احدى شركات السيارات في بواكيرها.
ان التعميم يفضي بالضرورة الى التعويم، فيصبح المشهد كأنه برج بابل، ويختلط نابل كل شيء ببابله وحامله معا، والمثقف العربي الذي عاد في خمسينات القرن الماضي من جامعات اوروبا وامريكا، وكان وريث ثقافة تراوح بين الإقطاع المحتضر، وبداية تشكل المدينة والمجتمع الحديث، ليس كالمثقف العصامي الذي نشأ في زقاق باحدى المدن العربية او في الرّيف، لهذا تفاوتت تعريفات الثقافة حدّ التناقض، وبلغ سوء التفاهم ذروته باستخدام المصطلحات، وان كانت التصنيفات الأفقية العامة التي تخضع لتضاريس الطبقات الاجتماعية قد اكتفت بثلاث خانات تبدأ من البرجوازي مرورا بالبرجوازي الصغير وتنتهي عند المثقف الكادح، او بروليتير الثقافة اذا احتكمنا الى التعريف الدقيق لمصطلح بروليتاريا وهو من لا يملك في هذا العالم غير يديه ومهارته! ونادرا ما حظيت النخب غير المتجانسة ومتعددة المنابع والمرجعيات بالتحليل الدقيق، خصوصا عندما كان عرب الأربعينيات من القرن الماضي يتقدمون نحو تُخوم الحداثة على استحياء، ولو اعتنى النقد الأدبي بهذه المسألة لأعاد أنماط الريادة الشعرية الى جذورها الثقافية والاجتماعية، وان كان بعض النقاد قد لامسوا هذه المسألة سريعا عندما تحدثوا عن الطبقة الوسطى بعد الحرب العالمية الثانية الحاضنة لهؤلاء ومن يماثلهم من الحالمين في التغيير.
لقد بدأت المسألة تعميما وانتهت تعويما لأن الاستقراء للظواهر لا يزال يخضع لرؤى غنائية غير مركبة، فالغنائية ليست مصطلحا في الشعر فقط، انها رؤى ومقاربات، مما دفع المستشرق غرونباوم مثلا الى وصف معظم المؤرخين العرب بالغنائية وفي مقدمتهم ابن الأثير!
نقتصر هنا على ما يسمى النظام العربي الرسمي ومفهوم النُّخب، فالأول ليس نظاما بالمعنى الدقيق، وليس عربيا خالصا اذا فهمنا مصطلح العروبة في سياق التاريخي والايديولوجي، لهذا تختلف أنماط الشرعيات التي ترتكز اليها عدة تشكيلات سياسية، ومنها ما لا يزال يعيش مرحلة ما قبل الدولة، ومنها ما يعيش حتى قبل ما يسمى في أدبيات التطور السياسي مرحلة الماغناكارتا.. او العقد الاجتماعي، فهناك شرعية ثورية او انقلابية ملفّقة من مهارات الاعلام الحديث في اعادة انتاج الحقائق، فهو يلوي أعناق وقائع وأحداث كي تلبي رغائبه، والشرعيات الأخرى التي لم تفكك بعد لأسباب عديدة قد لا تكون أرضية على الاطلاق، واحيانا تتحول الديمومة او مجرد الاستمرار على الوتيرة ذاتها الى شرعية شكلية، ولو كان النظام العربي الرسمي متجانسا لما تفوق عدد الحروب البينيّة على الحروب بين العرب والاخرين من الخصوم، وأبسط الامثلة ان ما ينفق على التسليح يخضع لاستراتيجية ظلم ذوي القربى، والاحتراز من التوأم او الشقيق، لهذا أدى التعميم في اطلاق المصطلحات الى توصيف مُضلل، وما بُني على هذا التضليل انتهى الى تعويم، فالجميع ينجون والجميع يهلكون ايضا وفق هذا المنطق ولا تدري من هو الناجي ومن هو الهالك، لأن لكل دولة او دويلة وهم مزمن هو ان المقصود بالتخلف العربي لا يعنيها وانه من نصيب سواها، واذا كان ينسب الى سعد زغلول انه قال سكّن كي تسلم تبريرا بجهل في النحو، فإن المرادف الحديث لهذه الموعظة هو عمّم كي تنجو. ولأن الثقافة أيضا تحولت الى عربة تجرها بغال الاعلام فقد أصابتها العدوى ذاتها، ولم نعد ندري من هو المثقف؟ هل هو الأكاديمي الذي يعيش ويموت كالسمكة داخل محيط الجامعة بعيدا عن كل ما يحدث خارج أسوارها؟ ام الكاتب المشتبك مع كل قضايا الواقع والناس؟ هل هو ربيب السلطة الذي استولدته بأنبوبها ام من افراز التزاوج العميق بين التاريخ والوعي؟
هل هو من يحترف الدفاع عن الأخطاء مقابل أجر مادي او معنوي وظيفي ام الذي يحترف الكشف عنها؟ التعميم يخلط بين كل خطوط الطول والعرض لهذه التضاريس الوعرة، لهذا نادرا ما نشهد سجالا يستمر حتى النهاية بين طرفين في الثقافة اذ سرعان ما يلتقيان في منتصف المسافة، لأنهما أشبه بتلك الام التي ادّعت انها والدة الطفل المتنازع عليه أمام القاضي وقبلت بان يشطر نصفين بينها وبين غريمتها.. لقد تصالح اليساري واليميني والرجعي والتقدمي ولم تعد الخلافات الاجرائية بينهما الا ذكريات على مائدة عشاء، حتى من سجنوا لأسباب مختلفة تحولوا بعد المصالحة السلطوية او التوبة مدفوعة الثمن الى كتاب ذكريات يوحدهم الحاضر ويجانس بينهم بقدر ما كان الماضي يفرّقهم ويباعد بينهم!
المعادل الموضوعي لكيانات تعيش ما قبل الدولة هو مثقفون ينتمون الى حقبة ما قبل الثقافة وفق تعريفها الدقيق وغير المعجمي الذي لا علاقة له بتثقيف النخيل او الرماح.. كيف يمكن لمثقف جدير بهذا التصنيف او التوصيف على الأقل ان يكون جيكل وهايد في آن واحد؟ يرتدي عباءة جبلـّـة بن الأيهم ويشهر سيفه صباحا، ثم يرتدي الجينز ويرطن ببضع كلمات مساءً؟ يعشق مثل أراغون او دالي ثم يتزوج كالحطيئة؟ يبشّر بالحرية ويحول لسانه اذا اقتضى الامر سوطا لعقاب الأحرار؟ ان مجتمعات تُعدّ حديثة العهد نسبيا بالقراءة والكتابة وتعاني من عدّة أميّات متحالفة ضدّ مصالحها وضد مستقبلها تسهل خديعتها، خصوصا في فترات انعدام الوزن، او المكوث في المساحة الحرجة بين الماضي الذي لم يمض بعد والحاضر الذي لم يَحْضُر، وما كان للتعميم ان ينتهي الى هذا التعويم قدر تعلقه بالثقافة لولا التضخّم، فهو ليس حكرا على الاقتصاد، انه يتمدد وتنتقل عدواه الى الصحافة والثقافة والجامعة والفضاء!!!
القدس العربي
22-04-2010