“معتقلون” خارج المعتقل: ماذا بعد الاعتقال السياسي في سوريا؟
سكايز
ينهج النظام السوري أساليب قاسية في تعامله مع معارضيه ومن يخالفونه الرأي. وتذكر تقارير منظمات حقوق الإنسان في سورية وخارجها عشرات الأمثلة عن اعتقالات طالت كتاباً وصحافيين ومثقفين ونشطاء سياسيين ومواطنين عاديين، لأسباب تتعلق باختلاف آرائهم، قضوا على أثرها فترات طويلة في السجون، تجاوزت أحياناً ربع قرن من الزمن، وتعرضوا خلالها لألوان مختلفة من أساليب تعامل مخالفة للقوانين وحقوق الإنسان، التي أقرتها القوانين والأعراف السورية والدولية.
حاور مراسل “سكايز” في دمشق أربعة سجناء سياسيين سوريين سابقين، رفضوا الإفصاح عن أسمائهم لأسباب وصفوها بـ”الأمنية”، وطرح عدداً من الأسئلة تتعلق بكيفية كسبهم لمعيشتهم في ظل حصار أمني واقتصادي تفرضه عليهم السلطات السورية، وكيفية تقبل المجتمع السوري لهم باعتبارهم معتقلين سياسيين سابقين، وما هي تطلعاتهم نحو المستقبل وبأي عين ينظرون اليه؟ وكانت إجاباتهم:
لا تنتهي معاناة هؤلاء المعتقلين بخروجهم من السجن، ويجمع كلهم على أن “معاناة من نوع آخر تبدأ بعد الإفراج لا تقل قسوة وظلماً عما نعيشه داخل السجن”. ويصل مجموع ما قضاه السجناء الأربعة في السجون السورية إلى 39 عاماً، حيث أمضوا على التوالي:7 سنوات للأول و 6 سنوات للثاني و15 سنة للثالث و11 سنة للرابع. ويمكن القول أنهم جميعاً تنقلوا في كل فروع التحقيق الأمنية ومروا على معظم السجون السورية الشهيرة: المزه، تدمر، فرع فلسطين، صيدنايا، وصولاً الى سجن عدرا المركزي في دمشق. والى جانب تجربة السجن المشتركة، جردوا جميعاً من الحقوق المدنية، الأمر الذي وضع حاجزاً كبيرا أمام ممارستهم لحقوقهم وواجباتهم كمواطنين سوريين بعيد الإفراج عنهم…..
العامل الاقتصادي
يكاد تدني الدخل الفردي وسوء الأحوال الاقتصادية في بلد مثل سورية يكون القاسم المشترك، ليس بين المعتقلين المفرج عنهم فحسب، إنما مع الشريحة الأكبر من المجتمع السوري. تصبح الأزمة مركبة وأكثر تعقيداً في الحالات التي نرصدها، فمع التجريد المدني الذي يلاقيه هؤلاء المعتقلين بعد خروجهم من السجون، تغدو الحياة صعبة من دون عمل ودخل ثابت، فهو ممنوع من أداء وظيفة، ويعاني عدم تقبل المجتمع له وخوفه منه.
خليل، أحد المعتقلين الذين حاورهم مراسل سكايز “يحمل اجازة في الآداب قسم اللغة الانكليزية من جامعة دمشق، أولاده أصبحوا شبابا خلال تواجده في السجن، كان يعمل في الدروس الخصوصية وموظفا لدى إحدى دوائر الدولة قبل اعتقاله. يقول: “خرجت من سجني بعد 15 سنة محطماً، لم استطع العودة إلى عملي السابق، حاولت بعد فترة من خروجي ممارسة مهنتي الخاصة السابقة، اعطاء دروس خصوصية لكني فشلت، فالناس لا تجازف مع واحد مثلي، يمنعهم الخوف من التعامل معي، كذلك بعد هذه السنين الطويلة في السجن لا يوجد ثقة بقدرتي وتمكني من إعطاء الدروس”. أما حسن فيقول: “وضعي لا بأس به مقارنة مع رفاقي، يمتلك والدي محلا للبقالة، صرت أدوام فيه، أبيع بعض المواد الاستهلاكية التي تدر علي دخلا لابأس به”، هو أيضا مدرس سابق لمادة الفلسفة.
كان أسعد في السنة الثالثة في كلية الحقوق جامعة حلب عندما اعتقل، لم يستطع بعد خروجه معاودة الدراسة بسبب فصله من الجامعة. يقول: “اعتمدت على أهلي كثيرا لشق دربي في الحياة، أعمل الآن عاملا مياوما في أحد أقنية الري براتب شهري لا يتجاوز ال 6000 ليرة سورية (أكثر قليلا من 100 دولار ) وهذا مبلغ يكفي بالكاد متطلبات الحياة الكثيرة والملحة.
أما أحمد فتزيد هويته الكردية من الأعباء التي يرتبها عليه الاعتقال: “أنا أزمتي مضاعفة، فالصد والرفض يترصداني كيفما توجهت”. سبع سنوات في السجن خرج أحمد بعدها مصمما على استرداد الحياة، “استطعت الى حد ما ان أقف على قدمي، فتزوجت وأنشات أسرة وماشي الحال”.
لا يقتصر أثر العامل الاقتصادي على شح الموارد فقط، بل يتخطاها ليدخل في نسيج العلاقة الأسرية، بين المعتقل السابق وزوجته من جهة، وبينه وبين اولاده من جهة أخرى. ففي حين اعتادت الزوجة في الغياب القسري للزوج أن تكون ركيزة البيت الاقتصادية ومرجع القرار داخل الأسرة، يجد الزوج، العائد حديثاً الى أسرته، أن “خدماته” المادية باتت ثانوية، ما يخلق خللاُ في العلاقة مع نفسه اولاً، ينعكس على الأسرة ككل، بدأ بمحاولات فرض السلطة مجدداً على الأولاد، وصولاً الى استرداد ربوبية الأسرة، كما هو متعارف عليه في اسرنا الشرقية. ويعترف ثلاثة من المعتقلين الأربعة ان خلافات كثيرة حدثت ضمن أسرهم لأسباب مماثلة.
التكيف والمحيط الاجتماعي ومشاكل أخرى
يواجه السجين السياسي بعد الإفراج عنه صعوبات جمة، من ضمنها عدم تقبل المحيط الاجتماعي للتجربة التي عاشها. يقول خليل: “أكثر ما يؤلمني سؤال يصادفني كيفما توجهت (شو استفدت من سجنك ولماذا فعلت بنفسك ما فعلت؟)”. أما حسن فيقول: “أجد صعوبة في التكيف مع الواجبات الاجتماعية وخصوصاً في العلاقة الزوجية والمجاملات الاجتماعية بشكل عام”.
ويخشى أسعد ردة فعل الجيران على كونه معتقلاً سابقاً، يقول: “لا تستطيع ذكر موضوع اعتقالك أمام الجيران أو في مكان العمل بسبب تخوفهم من تبعات العلاقة معك إذا ما عرفوا بالأمر”، إذ تفضل غالبية الناس التعاطي بحذر مع معتقل سياسي قد يثير الشبهات حول من يتعامل معهم، او يقرب منهم رجال الامن، فيطبقون المثل القائل “خير الدواء الكي”، ويقطعون العلاقة معه كلياً.
يتذكر الأربعة قصصاً لرفاق لهم في السجون، عانوا بسبب الاعتقال من علاقات اجتماعية فاشلة أو متعثرة، فكثر منهم فقدوا أسرهم بسبب الطلاق الذي كان الحل الأسهل والأنسب في معظم الأحيان، لزوجات لاقين التضييق في المجتمع، واعتقلن وهن احرار داخل نظرات الناس المريبة، والحذر الدائم من التعامل معهن. قصص حب معظمها فاشلة، يسردها المعتقلون السابقون، وعلاقات أسرية متوترة تنتهي غالباً بالانفصال.
ويتفق الأربعة على أن العلاقات الاجتماعية أضحت صعبة والطابع الاستهلاكي هو من يتحكم بها، تطرح تساؤلات لدى هؤلاء عن المتغيرات الكثيرة التي طرأت على المجتمع أثناء سنوات الغياب، ويختم أحمد: “من الصعوبة بمكان التعامل بالقيم ذاتها التي من أجلها اُعتقلت”.
التجريد المدني
يرى أحد الحقوقيين السوريين الذي فضل عدم الافصاح عن اسمه أن “التجريد المدني هو عقوبة ماسّة بالشرف والاعتبار تنطوي على حرمان المحكوم عليه بها من التمتُّع ببعض الحقوق التي تؤثّر على مركزه الأدبي والاقتصادي، ويحكم بالتجريد المدني في الجرائم السياسية ذات الوصف الجنائي كعقوبة أصلية، كما يحكم به كعقوبة فرعية ملازمة للعقوبات الجنائية عامة، ويستمر مفعوله حتى السنة العاشرة على تنفيذ العقوبة الأصلية. مع الإشارة إلى أن إعادة الاعتبار القضائية تتطلب انقضاء مهلة سبع سنوات على الجناية وثلاث على الجنحة تبدأ من تاريخ الإفراج عن المحكوم عليه”. ويضيف أن “التجريد المدني يستوجب العزل والإقصاء عن جميع الوظائف والخدمات العامة والحرمان من معاش الدولة والعزل والإقصاء عن جميع الوظائف والخدمات، والحرمان من حق تولي مدرسة وأية مهمة في التعليم العام أو الخاص… الخ”.
يتابع الحقوقي السوري: يُراد من “التجريد” الحرمان والإيلام لأنه يعني عدم ثقة المجتمع، فمن سيناله، يسُجّل عليه أنه أدنى من سواه في القيمة الاجتماعية، ثم أن تضييق دائرة نشاطه تحول بينه وبين استقلال امكاناته فتقلل تبعا لذلك مما قد يجنيه من كسب مادي أو معنوي”.
وفقهاء القانون، ودائما بحسب الحقوقي السوري، ينتقدون الآثار المؤذية للتجريد المدني حيث أنه لا يساعد على إصلاح المحكوم،على الرغم من أن الجريمة السياسية بالمفهوم القانوني تعتبر سبباً في منح المعتقل ظروفا أفضل من نظيره المسجون لأسباب جنائية أو مدنية في معظم قوانين العالم.
ويتابع: “رغم أن معظم حالات الاعتقال السياسي في سورية، إن لم نقل كلّها، تتم بدوافع وأسباب أمنية ولا ينطبق عليها وصف الجريمة السياسية حيث تقوم على انتهاك الحقوق والحريات للمواطن، والمعتقل السياسي أساسا يدفع الضريبة بالسجن”.
* الأسماء الواردة في النص مستعارة، بسبب تعذر ذكر الأصلية لأسباب “أمنية”
سكايز