قصائد للشاعر الإسباني خوسيه أنخل بالنتي (1929-2000)
المســافة عيــن بأجنحــة
سجل الوفيات
بدأ بتصحيح سيرة وفاته. كان المحرر قد فعل بشكل دقيق كل ما في وسعه. في البداية صحح فقط التواريخ، ثم بعض المعلومات. كان يتسلى. في النهاية هاجم بضراوة، لعلها غير مناسبة في بعض الظروف، خطوطا بعينها في العمق. عند إعادة القراءة أعادها ثانية. ربما كان تصحيحه أقل دقة مما قد قيل. على أية حال لم يستطع أن يعرض نفسه، سيكون عبثيا، لشبهات غليظة لمدح الذات. في المقابل أعاد باحتراس وبحنان قديم التوازن لإحدى الحقب. لا يجب أبدا بسبب الشعور بالألم تجزيئ النظام المطلق للخطاب. بعد ذلك بقي صامتا. تلك التصحيحات هل ستتضمن في أعماله الكاملة كمقاطع مما وراء القبر؟ هذيان. وجود هزيل هو ما حازه في حياته. حياة معاونة. حياة كانت الصدفة فيها تشكل كل يوم الوجه الآخر للحروف، للحب والكراهية. هناك لم يكن مدون وفاته قد سجل شيئا. هناك، في عمق قلبه، الضريح الذي كان هو نفسه قد شيده على مر السنين بقي للأبد مقفلا، كما يبقى في أشجار الحور العجوز الطول الأبدي للخريف.
لا، لم يكن الزوار يعرفون ولا مدون السيرة كذلك، كانت الوفاة كسولة وغير مكتملة. استلقى في مقعده القديم وفهم أنه لم يكن ثمة شئ ليفهم وجلس مرتاحا وهادئا. بالنسبة للاشياء الأخرى، كان قد وصف لمرات عدة هذا المشهد. كان، في الواقع، تغيير بسيط للوضع، استراحة خفيفة باتجاه الظل ذاته، دخول أكثر بالكاد في الزاوية الحادة لما هو منحرف. استقبله الكرسي كالعادة. انتهى من قراءة سجل وفاته. يمكن على الأقل دون خجل كبير أن يمرر للأحياء والأموات. أعطى النص للمرأة. المرأة خرجت. سمع في الخارج همهمة مكتومة. رجع إلى النقطة التي ترك فيها تأمله ذاته. النقطة التي افترضها قبل الموت. رفع الريشة. أبقاها. وقعت نظرته على ما قد كــتب بالفــعل. لم يضف شيئا. كان لا يزال هناك وقت، فكر، لا يزال هناك وقت كاف.
من العتمة المضيئة للعلامات
في الهيلوغريفــية كان ثمة طائــر، لكن لم يكن يعرف ما إذا كان يطير أم أنه كان مسمرا بمحور ضوئي في السماء الفارغة. خلال مئــات الســنين قرأت الكتابة دون طائل. وبالقرب من نهاية حياتي، عندما لم يعد أحد يؤمن أن لاشيء كان مفكوك الشفرة، فهمت أن الطائر بدوره كان يقرأني دون أن يعرف في الهيلوغريفية المكسورة إذا ما كان الشخص يطير أم أنه كان مسمرا بمحور ضوئي في السماء الفارغة.
تحية لمجهول
كانت الكتابة قد أغوت علامتها دون طائل. لعدة أيام أرادت أن ترسم صورة الرجل، أن تشكل محيطه، أن تجلبه، من الصدفة البسيطة للكلمات أو استحضارها، إلى الحد الذي تأخذ فيه الشخصيات شكلا. لكن ما الذي كان بإمكانها ان تقوله عنه؟ كانت تصاحبه ليل نهار بالإصرار على الذكرى التي لا تتماسك وتقبض علينا. ذكرى لأي شيء ولمن؟ في النهاية تنازلت، كمن يهجر حبا قبل أن يكتمل أو كمن يغرق في الطول اللا نهائي للوداع. وقالت عنه ما كانت تعرفه فقط. إن تحت الفراش كان ثمة كلب ساكن. إن الرجل كان ميتا. إن لا أحد يعرف اسمه ربما. إنه كان يعيش وحيدا. إنه كان يعلق على الشرفات الكبيرة مخطوطاته الرطبة كي تجففها ريح المساء. إنه ترك بحثا مكتوبا حروفه غير مقروءة عن رياضيات الألوان، كان عنوانه: «عن الإمكانية المعاندة للضوء».
فناء، دهليز، عتبة المسافة
إلى المغني المعلم
أيها المعلم، المسافة جسد شفاف، حيوان هفهاف، لا يمكنه مواجهة الضوء. تكسي النظرة في النهاية بضبابية أقل من الواقع الميت. لنحتفظ بمفتاح الفناء الأكثر سرية. الحماقة المطبقة تغلف في دوائر بقايا الأرض الضائعة. أين يوجد المعني؟ أين يوجد المعنى في النهاية؟ المسافة هي عين بأجنحة. أيها المعلم، الحق أقول لك كلمة «صحة».
A cup of tea
جئت لأراك. كنت محاطة بالظلال. بصوتك النحيل الغاطس بعض الشيء وباحتفالية قالت لي: من الخامسة إلى السادسة يقوم الموتى كتجربة قصيرة على القيامة.
أوراق العرافة
بأية لا مبالاة كانت المرأة العجوز تتكلم عن المصير. تقول كلمات كزهر نرد تتبقى في شبكته نتف من الحقيقة. تزيد وتعيد وتسأل دون انتظار إجابة. صنعتها من كانت تتحدث باسمها، المرأة العجوز الغامضة، المحقرة، المقدسة، وليس صوتها بل صوت آخر. بأية لا مبالاة بالخفقان المباغت للقلب عينت المصير.
كأطفال، كأولاد جرينا، كأطفال يبحثون عن ثدي الأم، نحو الفك الضاري للوالد الكبير. بأية لا مبالاة قالت إنه كان عليها أن تجدني على الشواطئ أوعلى حواف المياه، أو في سانتاس مارياس دي لا مار. عد، قالت لي بصوت أجش منتبهة لنقودها. وأنا قلت: لا.
(شاعر مصري)
ترجمة/ أحمد اليماني