صفحات ثقافية

«عيـون ريتـا المذهلـة» أسـطوانة أنـور إبراهيـم: التجريـب الواعـي

null
هالة نهرا
في زمن الميول البصرية الممدودة فوق مُتَع العين والجفن طلباً للّذة، وفي عصر الثقافة البصرية الشائكة حيث المُشتهى يثير الرغبة (لدى المُشاهد ـ المستهلك) في التهام المزيد من النماذج المطابقة لنمطٍ معيّن من الأشياء المتماثلة الصنع، بل القياسية، العيارية، والمتتابعة على وتيرةٍ واحدة، ثمّة مَن يكترث للنتاج السمعي، وبه. وثمّة مَن يبالي بالمستمع كاشفاً عن مواضع أخرى للرغبات والتطلّعات. هي نتاجاتٌ قليلة في العالم العربي تحاكي الأُذُن، أو تفترشها أرضيةً وعجيناً لبسط الجديد والمختلف، كيفما كانا. شيءٌ يعلو آخر في كمٍّ من الصناعات الفنّية النموذجية من جهة، والمنمذجة الآخذة في النموّ كالفطر، من جهة أخرى. قد يُضاف، ربّما، إلى القائمة الأولى المختصرة القابلة للتمدّد والاتّساع عمل عازف العود والمؤلّف الموسيقي التونسي أنور ابراهيم (أو براهام) الصادر حديثاً عن «إي. سي. أم ريكوردز» (ECM). فأسطوانة ابراهيم «عيون ريتا المذهلة»، أوThe Astounding Eyes of Rita ، المتمحورة حول تيماتٍ ضمنيةٍ حلولية متغايرة حيناً ومتشاكلة أحياناً، إذ قلّما يختلف بعض عناوينها ومكوّناتها عن البعض الآخر في الطبع، أو الصفة، أو القيمة، أو الوضع… فأسطوانة ابراهيم محاولة جادّة ومقبولة تحدث ما يشبه الظلّ الكثيف، لنتفيّأ بعباءتها من شدّة الحرّ ورتابة السائد. هي تمرينٌ على كتابة الموسيقى العربية من زوايا ومراصد أخرى. تمرينٌ على التجريب الواعي والرائي ضمن أُطُر موسيقانا، ودوائرها، وآدابها العامة. وقد أحال ابراهيم جُمَله السائغة على ذلك النفَس المشرقي، أو «الشرق ـ عربي»، أي على تلك الحلقات المنسوبة إلى الشرق والمتحدّرة منه، أو «الاستشراقية» كما يحلو للبعض تصنيفها، عِلماً بأنّ الاستشراق فنّياً ليس بتهمة أو وصمة.
تفرّد ابراهيم بأسلوبه الخاص المشرف على مشروعٍ أبعادي مكسو ببطانةٍ ميلوديةٍ سالفة أو حاضرة، والمكوِّن لامتداداته، وحركته الموسيقية الراهنة غير المنقطعة عن سلسلة النتاجات والمؤلّفات السابقة. والأسلوب، في النصّ الموسيقي الأكثر احتمالاً للتأويل بين النصوص والقوالب والصِّيَغ الفنّية الأخرى، يضاهي المعنى. فالأسلوب كيفية الموسيقى، وماهيّتها. فأنْ يستميلكَ الأسلوب يعني أنّ العمل قد استمالك. وأنْ يصطبغ العمل بأسلوبٍ محدّد يُعرَف عن بُعد يعني أنّ للعمل مقوّمات منتصبة، وخُطى متوثّبة، ومعالم هويّة غير منقوضة، وإن لم تكن نافذة إلى داخل تربة الموسيقى العربية بمفهومها التقليدي المتعارف عليه، ومن خلال سطحها.
افتتح ابراهيم أسطوانته بمقطوعة «عاشق بيروت» (7 دقائق و40 ثانية) بأسلوبٍ رونقيٍّ طفولي، طفا به إلى سطح الحزن الطفيف وقشرة الجوّاني. إلى أزقّة المدينة وشوارع العاصمة العابقة بنا. إلى مقام الحجاز وما يعادله، في ثنايا السرد الموسيقي، أو يتلفّف بمعطفه. وقد تراءت بشكلٍ منظور ونظيف تقنية «الهارمونيكس»، على زند العود وأوتاره، أكان في مقدّمة القطعة أم في خلاصتها الختامية، عبر حركة الأصابع المموّهة والمحدودة في تنقّلات اليد اليسرى ومواضع الضغط. ثمّ توالت كلٌّ من «الرقص مع الأمواج»، «توقُّف في جيبوتي»، و«عيون ريتا المذهلة». وأمّا «البروه»، وهي بلدة فلسطينية هدمها الاحتلال الإسرائيلي، و«الجليل حبيبي»، فبعيدتان عن الإسقاط اللّحني المباشر والمستهلَك في ما يطال الفنّ الملتزم عموماً. يدندن ابراهيم ألحانه من حينٍ إلى آخر. يذيّلها بصوتٍ خافتٍ ومخنوق، ليصل بعدها في «صحوة الدولة» و«دون سبب واضح» إلى ما يصيب القلب أو يكتنهه. أي إلى تلك الجزئيّات الجميلة (على الكلارينيت) المستلهمة من تيمة «بوليرو» موريس رافيل Ravel (ونعني مستهَلّ المقطوعة رقم 7 ابتداءً من الدقيقة الأولى و11 ثانية) التي نأى عنها ابراهيم، شيئاً فشيئاً، لينحو نحو الطرائق التصويــرية والمؤلّفات التأمّلية التي عَبَرها، أو مرّ بها.
جديد إبراهيم
يسعى ابراهيم، من دون شكّ، في الأسطوانة المكوّنة من عود (ابراهيم)، كلارينيت (كلاوس جيسنغ)، باص (بجورن ماير)، وإيقاع (خالد ياسين)، إلى استنطاق آلة العود ربطاً بدورها الجديد، وإمكاناتها الحداثية المعوّل عليها في ميادين العزف المنفرد، كمختلف الآلات الموسيقية الموجودة في العالم، والقائمة بذاتها. أي أنّ هدفه المتمرحل، لا الآنيّ حصراً، متولّدٌ عن تلك الرغبة البحثية، أو الاختبارية آناً والتلقائية آونةً، في تمكين هذه الآلة من اللّعب بحرّيةٍ وانبساط، بعيداً من تبعيّتها التاريخية (إذ كانت ملحقة بالتخت الشرقي)، وفي مساحةٍ ومسافة تفصلانه عن الهواجس التكنيكية الصرفة، وبمنأى عن سيرة الطرب وسيرورته. وذاك المشروع الكبير والمتشعّب، أكان مشبعاً بالتقنية الهاجسية أم خالياً منها، لم ينشأ، مع نشوء موسيقى أنور ابراهيم، وبداية ظهورها وتكوّنها، وصولاً إلى تموضعها مؤخّراً في أنساق وأشكال حديثة. بل نشأ أساساً عن رؤى المعلّم «الشريف» محي الدين حيدر. ويمكن القول ههنا إنّ العود مرحلتان: مرحلة ما قبل «الشريف» محي الدين حيدر، ومرحلة ما بعده. فبعدما ذهب حيدر التركيّ الأصل إلى العراق لتعليم العود بأسلوبٍ طليعي محوكٍ بالتجدّد، ومحفوفٍ بالتقنية الجريئة والمستحدثة وقتئذٍ، وُلد تيّارٌ عراقي ممهور بحسٍّ علمي وعملي، ليشتمل على أفكار، وتراكيب، وبُنى كلٍّ من عازف العود العالمي منير بشير، جميل بشير، غانم حدّاد، سلمان شكر، وآخرين كُثُر. ثمّ انتقلت التجربة العراقية الملتصقة بالعود حنوّاً وتكثيفاً إلى بعض المناطق والبلدان العربية الأخرى كلبنان، على سبيل المثال، لا الحصر، حيث تمظهرت استفاقة العود المتنبّهة، النابضة بتقطّع، والمنطوية على بعض هواجس مشكِّكة في المسلّمات القائمة والموروثة، لدى فريد غصن، ومرسيل خليفة في ما بعد، على وجه الخصوص. وإذا أردنا الإحاطة بموضوعة العود من جوانبها كافّة، تحدّثنا، أيضاً وأيضاً، في المحور عينه، عن تجربة نصير شمّة، عمر بشير، وربيع أبو خليل. إذ لا يمكننا، اليوم، مقاربة عمل أنور ابراهيم، أو أيّ عملٍ آخر، بمعزل عن سياقه الطبيعي والواقعي، وبمعزل عن التعاقب النظامي أو العشوائي والتراكمي لسير حركة الأحداث المتوالية، والوجهات، وأصبغة التشكّل الأخرى المرصوفة جنباً إلى جنب لتكوين أُسس بناء الموسيقى العربية، والمتقابلة بصورةٍ أو بأخرى. انطلاقاً من هنا، يمكننا الكلام على أسطوانة ابراهيم التي لا يمكن أن تؤلّف كلاًّ متكاملاً ووزناً ثابتاً على حِدة، أي خارج الأقنية الأخرى المائلة إلى العود، المندرجة أو المُدرَجة نقديّاً في خانته، والملتفّة حوله. ويستنبط ابراهيم، بهذا المعنى، بضع درجات ورُتَب لحنيّةٍ تسلسلية من جوف الكُوَم الإرثية المتماسكة، أو من ظهر الخطوط القليلة الوعورة، والعالقة، رغم كلّ شيء، في كنف الذاكرة. يعرّج عليها لتطوير فقراته المدوّنة التي تلامس حدّ الارتجال، ومناخ المنابت والنقاط المتوسّطة، والأمكنة الجامعة بين الشرق والغرب. بين البسيط والمكثّف. بين الفالت والمضبوط. بين المسطّح والأكثر انعطافاً وتقوّساً. بين التصاعدي والأفقي. بين العلامات المضيئة والليّنة المنخفضة المُسدَلة على جبين دول آسيا الغربية، كشمال تركيا، سوريا، لبنان، وفلسطين، وصولاً إلى مصر من جهة، وبين فُتات الجاز وما تناثر من ألوانه من جهةٍ أخرى. ولعلّ قيمة العمل الأساسية كامنة، أوّلاً وأخيراً، في قدرة ابراهيم على اختراق السوق الفنّية العالمية، وشركات الإنتاج الكبرى، والحقول العولمية الواسعة من منطلقٍ وهويّة عربيين، أو بالأصحّ شرقيين.
أي مفاهيم
وانطلاقاً من هنا بالذات، تتوالد الأسئلة المشروعة وتتناتج لتُستلّ، تالياً، من وضعيّة تلك الموسيقى راهناً نسبةً إلى حال الموسيقى العربية عموماً، وهيئتها الماضية والحالية، ودلالاتها المستقبلية، ومقوّماتها المحدّدة أصلاً لحدودها وأُطُرها وأفضيتها، بما يميّزها أو يفصلها عن سائر أنواع الموسيقى الأخرى، وأشكالها، وسماتها. أي أنّ قراءة العمل الجديد الساعية إلى تفكيكه بغية ترجمته نقديّاً لا بدّ من أن تنطلق من تفحّصه واستجوابه، إذا جاز التعبير، على اعتباره تجربة موسيقية تونسية لا يمكن سلخها، البتّة، عن مسار الموسيقى العربية وأنصابها الآخذة في الانتشار عالميّاً اعتماداً على نِسَب وجرعاتٍ مقامية منقوصة أو غير مكتملة. ذلك أنّها ترتكز على الحدّ الأدنى من أعداد ثلاثة أرباع الصوت (هذا إنْ لم تغفل ربع الصوت أصلاً طارحةً إيّاه جانباً)، وتتّكئ، بهذا، على مقادير ومعايير شديدة الخصوصية، بل على قواعد وأدواتٍ مختلفة، أكان الاختلاف نسبيّاً أم جوهريّاً، بعيداً من الروحية والوجهة الموسيقيتين العربيّتين المصطلح عليهما. لذا، فجديد ابراهيم الفاعل، كما يبدو، في الثقافات الأخرى، والمتفاعل معها، نتيجةً لتمدُّد الحضارات المنتقلة من بيئةٍ إلى أخرى بفعل الحاجة والتواصل، يتوسّل الأسئلة البنّاءة في ظلّ نعاس الموسيقى العربية والنقد الموسيقي العربي. وتلك إشارة إيجابية، ربّما، إلى تذبذب قدرتنا في كيفية قراءة الجديد. فقراءة ابراهيم أو سواه، مقتصرة اليوم على وجهتين: الأولى متقوقعة، منقادة لأهوائها المفرطة في التزمّت، ورافضة لكلّ جديد، بسبب القصور وعدم استيعاب الجديد. أمّا الثانية، فمبالِغة في الانكباب على كلّ ما هو غربي، دونما الالتفات إلى شؤون الموسيقى العربية وخواصها. بين هذه الوجهة وتلك، بين القديم والحديث المعاصر، بين الرؤية المتشدّدة، تحت راية المحافظة على الأصول، والمفاهيم المغلوطة التي تمّ اسقاطها عشوائيّاً في أسطُر الموسيقى العربية، يأتي جديد أنور ابراهيم متدرّجاً ليبيِّن ألاّ مفاهيم واضحة أو ثابتة وموحّدة، مرحليّاً، حول واقع الموسيقى العربية وملامحها المتحوّلة، شيئاً فشيئاً، والراكبة درّاجة الهجين. فلا نظرة سويّة ومتآلفة حول ما يمكن أن نزجّه في خاناتها (إذ يتزحلق، شئنا أم أبينا، على مائها)، وما لا يمكنه أن يكون ملحقاً بها. فخارج المؤتمرات الموسيقية العربية الفضفاضة، وخارج الحلقات النظريّة البحتة المتظاهرة بالحذق والأقرب إلى السفسطة، لا إمكانية قريبة أو مرئية لتوحيد الآراء المدرِكة وغير المدركة لماهية الموسيقى العربية انطلاقاً من نبض العصر ووتيرته، وانطلاقاً من المتغيِّر، وما لم يَعُد كما كان. على أيّ حال، يشكّل الصراع هذا، استناداً إلى الجديد هذا، أو إلى أيّ جديدٍ آخر، ظاهرة صحّية تشي بحركةٍ استفهاميّةٍ قيد النموّ، وبصحوةٍ جزئية بعد فترةٍ من الجمود، الهبوط، والنوم العميق على المســتويين الموسيقي والنقدي.
السفير الثقافي

يمكنك تنزيل الألبوم من الرابط التالي

https://alsafahat.net/blog/?p=18020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى