الطارق والمطروق في أنظمة الطواريء
بدرالدين حسن قربي
-1-
موافقة البرلمان المصري في الأسبوع الماضي على طلب حكومته التمديد لقانون الطواريء لسنتين تاليتين محدّدتين ومشروطتين بأن يقتصر تطبيق أحكامه حصراً على مواجهة أخطار الإرهاب وتمويله وجلب المواد المخدرة والإتجار بها، بعد مواجهة ساخنة مع المعارضين للتمديد وعلى رأسهم الإسلاميين، أثارت غبار الحديث عن قوانين الطوارئ وحالات إعلانها في بلاد العرب وأقدمها بلا منازع أيضاً عاصمة الشام.
الطارئ والطرء في العاميّة السورية لها معانٍ متعددة تجمع بين اللطافة والطرافة حسب مكانها من الاستخدام وطريقتها في اللفظ، والمناسبةِ التي تقال فيها. وللقارئ أن يستحضر هذه الكلمة فعلاً واسماً وفي كل حالات النحو والصرف ليدخل فضاءاتِ هذه الكلمة معنىً واستخداماً ويتأكد من عظيم آثار الطرء عند الطارقين وأثره على المطروقين.
ونكتفي هنا بما يعنينا من الطارئ والطارق فنقول: قد يكون نوعاً من الإبدال العامّي بتحويل القاف إلى همزة، فكثيراً ماينادي السوريّيون والمصريّيون مَنْ اسْمُهُ (طارق): يا (طارئ). ومِنَ الطارق إلى المطارق، ومن طارئٍ إلى طواريء لنرى البلاد محكومةً بقوانين الطواريء، والعبادَ يواجهون حالة الطوارئ ومن دون وجود الأسباب الموجبة المذكورة في القانون لإعلان حالة الطواريء. ومابين الطارق والمطروئين بمطارق حالة الطوارئ، نجد الناس بملايينهم قد أُشْبِعُوا طَرْءاً وطرقاً وبلغة أهل الخليج (طْرَاقَات). وبما أن الطرء مَنْقَبَةٌ لايقدر عليها إلا من كان حكومةً أو مع الحكومة أو من شراشيب الحكومة، فلنتصور حال جماهير الناس المطروئين والمطروقين بعد بضع عقود من تواصل عطاءات وإنجازات الطرء الحكومي في بلادٍ السيادة فيها للقانون، والحكم فيها للشعب، والطرء فيها للحكومة.
عن قوانين الطوارئ قالوا: إنما هي لحالات طارئة إسعافية يتعرض فيها الوطن للخطر، ويُحِسّ فيها المواطن بعدم الأمان. ومن ثم فإعلان حالة الطوارئ المعتمِدة أساساً على تقييد حقوق المواطنين وحرياتهم الواردة أصلاً في الدستور، يُعطي الحاكمَ والحكومةَ صلاحياتٍ مطلقة في الاعتقالات التعسفية والمحاكم الأمنية والعسكرية وتكميم الأفواه ومراقبة الصحف والإعلام، وامتناع المحاسبة والمساءلة لتحقيق أمنٍ وأمانٍ أكثر للمواطنين. وعليه، فالأمر في عمومه محكوم بظروفٍ طارئةٍ، فَيُفْتَرَضُ فيها محدودية الوقت وقصر الزمن، لأنها ليست حالة أصيلةٌ وطبيعية في وضع البلاد والعباد. ومن ثم يتخلى الناس عن جزءٍ من حرياتهم في مقابل مساحات تحركٍ أكبر للحاكم بأمره للتعامل مع هذه الأخطار، ليتحقق إحساسٌ أكبر لهم بالأمان وطناً ومواطنين. ومما لاخلاف فيه أن فترة التخلي هذه تكون قصيرة في الأنظمة الديمقراطية وتطول وتتطاول وتمتد وتتمدّد وتُمَدّد في غيرها من الأنظمة. وعليه، فإن الجرعات المديدة من حالة الطواريء مع ضرورتها تتسبب بإدمان النظام والحكومة عليها، لأنها أشبه ماتكون بجرعات المورفين الإسعافية في العمل الجراحي الطبي، فلو تكررت عدداً من المرات أو زادت ورغم ضرورتها وأهميتها فالمريض يصبح مدمناً وتدخل قضيته في طور آخر. وبالنتيجة فإننا نصبح في مواجهة حالة من التعاطي التي يدمن فيها النظام الحاكم صلاحيات واسعة خوّلته إياها قوانين الطواريء المشار إليها، فتنشأ مع طول العهد دولة الاستبداد وتنشأ في كنفها طبقة فاسدةٍ ومفسدةٍ من الحيتان والهوامير ممن تتجمّع في أيديهم بقدرة قادر ثروة البلاد ورزق العباد من الكادحين والمسحوقين والجياع، ومن الاثنين معاً يتشكل مايعرف بتحالف السلطة والثروة الذي يمارس دوراً قميئاً في تدمير السلام المجتمعي وإشاعة قيم الفواحش استبداداً وقرصنةً وامتهاناً لكرامة الإنسان وحقوقه.
تحالف السلطة والثروة أو ثنائية الفساد السياسي استبداداً وقهراً من جهة، والفساد المالي نهباً مقرونةً بضرب منظومة القيم الأخلاقية المجتمعية من جهة أخرى، تُكَوِّنُ ثنائيةً عصيةً على المواجهة والمجابهة عضوياً ولاسيما عندما تتغطّى بقوانين الطوارئ وتُشرْعن ثورياً ونضالياً، وتتدثّر بأغطيةٍ شعاراتية وإعلاميةٍ لاحصر لها، تدار فيها الدولة بطريقةٍ بعيدة عن المساءلة والمحاسبة، وبعيدةٍ عن الشرعنة القانونية، وتتشكل فيها المحاكم الاستثنائية والميدانية ومحاكم أمن الدولة، التي ينتج عنها محاكمات صورية، وأحكام تعسفية تجاه الأفراد ومنظمات المجتمع المدني ومنتديات الفكر والرأي الآخر عموماً. وعليه، فتكون مطالبة المعارضين مع منظمات المجتمع المدني لأصحاب الطواريء بإلغاء حالة الطوارئ عمليةً تستدعي مواجهةً حقيقيةً قاسيةً ومكلفةً لجماهير المطالبين بها، لأنها تواجه جهةً تتعاطي صنف الطواريء وربطت مصيرها ووجودها وحياتها استراتيجياً وعلى المدى البعيد بالتحالف والثنائية المشار إليهما، وهو ما يفسر حالة استعصاء هذه الأنظمة واستمرار مواجهتها لمعارضيها وعدم القبول بإلغاء الحالات الطوارئية.
لذلك، فاستمرار حالة الطوارئ مع طول العهد تبدو وكأنما هي الأصل عند ولاة أمورنا وإلغاؤها يعني الاستثناء. فلئن كنا نقول أن مصر تعيش حالة الطوارئ منذ 1981 تنتهي بعد عامين مالم تُمدّد، فسوريا بدأت قبلها بزمن بعيد مع سيطرة حزب البعث على الحكم 1963. والأعجب من مصر وسوريا هو لبنان الذي عاش حرباً أهليةً طاحنة وظروفاً قاسيةً مريرة، احْتُلَّتْ فيها بعض أرضُه، وواجه حرباً ضروساً في صيف 2006، ومع ذلك لم يعلن حالة الطوارئ بل بقي متمسّكاً بحالتة الديمقراطية على كل علاتها، ولكن كانت له فترة طارئية أيام الجنرال عون عندما شكل حكومةً عسكرية من لون طائفي واحد لم تصمد سوى أيامٍ معدوداتٍ انتهت وتداعت بفعل طَرْق أصحاب الاختصاص من الشقيقة الجارة.
أما عن واقع المعارضة المصرية والسورية في ظل حالة الطواريء، وتناقضات التعامل والمعاملة محلياً وعربياً وازدواجية المواقف والمعايير، فهو تتمة موضوعنا قريباً إن شاء الله فيما يقال فيه
-2-
واقع المعارضة المصرية يتجلى بمظاهراتٍ واعتصامات عامّة واحتجاجات عمّالية تتجدد، وصحافة تتهم، وكتابات وتصريحات بنبرة عالية جداً تُكتب وتُقال عن رجالات النظام. كل ذلك يحدث في ظل قانون الطواريء المتهم، والذي وصلت فيه أيضاً المعارضة الإسلامية بثمانين عضواً لهم تكتل واضح ومتميز تحت قبة البرلمان، وانتخبت فيه مكتبها التنفيذي ومرشدها العام وأعلنت ذلك في مؤتمر صحفي حاشد. ومع كل ماسبق، تعتقد المعارضة المصرية والإسلامييون في مقدمتهم أن التمديد الجديد لاستمرار العمل بقانون الطواريء وإن كان لأجل معلوم، ورغم تقييد استعماله بنص قرار التمديد نفسه 126 لعام 2010 ،فإنما هدفه خنق الحريات وزيادة القمع والتأثير على نتائج الانتخابات القادمة، والعمل على توريث السلطة ومنع تداولها، ومن ثم كان للمعارضين حراكهم السياسي، وصوتهم العالي في الاحتجاج على التمديد
في المقابل فإن واقع المعارضة السورية أساسه أنها معارضة منفية ومهجّرة في بقاع المعمورة قسراً وهرباً، وماكان منها في الداخل فمقموع أو مسجون مع ملاحظة مهمة أن الإسلامية منها محكومة بقانون الإعدام رقم 49 لعام 1980 وليس الحظر، وإذا كان عمر حالة الطواريء في مصر قارب الثلاثين عاماً، فهو في سورية اقترب ليصبح نصف قرن من دون تمديد لأنه حتى إشعار آخر من يوم إعلانه ممدود. وللتذكير كان الأمر العسكري رقم 1 تاريخ 8 مارس 1963 إعلاناً عن قيام ثورة حزب البعث ومجيء عسكره على ظهر الدبابات واستيلائهم بالقوة العسكرية على مقاليد نظام حكمٍ مدنيٍ ديمقراطييٍ تعدديٍ، قرأ فيه السيد/ صابر فلحوط بيان الثورة، ثم أتبعه بقراءة الأمر العسكري رقم 2 بإعلان حالة الطوارئ في جميع أنحاء سوريا حتى إشعار آخر. ثم لحقه فيما بعد المرسوم التشريعي رقم 14 لعام 1969 بعدم جواز ملاحقة أي من العاملين في إدارة أمن الدولة (المخابرات العسكرية والمخابرات الجوية والمخابرات العامة) أوالمتعاقدين معها أو المعارين إليها والمنتدبين عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكلة إليهم أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن مدير الإدارة. وعليه، فما لم يصدر مثل هذا الأمر فلاتستطيع أي جهة متضررة من الجرائم المشار إليهم حق مقاضاتهم في مقابل جرائمهم. ثم تبعه المرسوم التشريعي رقم 69 لعام 2008 ، فضمّ عناصر الشرطة والجمارك إلى المشمولين بالمرسوم السابق ليصبح الجميع في عصمةٍ عن المساءلة القانونية مهما عملوا ومهما ارتكبوا من جرائم على حد تعبير المرسومين القديم منهما والجديد من قبل الضحايا والمعتدى عليهم.
ولئن كان الموقف المعارض لإعلان حالة الطواريء في كافة دول منطقة الشرق الأوسط مفهوماً ومتفهّماً من بعض جوانبه الحضارية والإنسانية والسياسية باعتبار أن شعوب منطقتنا تستحق حياة فيها قدر ولو يسير من الكرامة والتقدير المفقودَين، وإنما اللافت فيه أيضاً سقوط هذا الموقف فيما عنه ينهى ويستنكر، وانكشاف قصوره وازدواجية معاييره في هذه المسألة بالذات. فلئن كان لأصحاب الطواريء حججهم وتخريجاتهم البارعة في استمرار طرئهم وطوارئهم والتي تبدو منطقية أحياناً من أخطار خارجية قائمة، ومشاكل إقليمية داهمة، وقضايا إرهاب ومخدرات، ونوايا عاطلة لمعارضة تشكك دوماً بالسلطة وتتعامل معها بالريبة وسوء الظنّ، فإن لمعارضيهم وخصوصاً الإسلاميين منهم أيضاً تخريجاتهم وفتاويهم في المعاكسة والمشاكسة لأنظمتهم، والمقاربة والإعجاب والتأييد لسلطات عربية أخرى يمكن ان تُنعت بكل المآخذ التي تؤخذ على سلطتهم المحليّة بل هي أدهى وأمرّ. فإن كانت مصر فيما هو مشهود تُمدّد الطوارئ علناً، وعبر مصادقة برلمانية وإن كانت شكلية، وتسمح بمناقشة علنيةٍ لسياستها، وللمعارضة بانتقادها رغم حال الطواريء، وتحظر الوجود الحزبي أو التنظيمي الإسلامي من أن يكون متاحاً وممارساً على شاكلة الموجود في الأردن مثلاً، ولكن بالنتيجة فالتنظيم موجود رغم الحظر ومسكوت عنه نسبياً، فإن في غيرها من بلدان عربية أخرى ممن يثير إعجاب المعارضة المصرية والأردنية مثلاً يعتبر أيّ كلامٍ من جنس ماسبق هو حديث في الممنوع أو التعاطي في المحرّمات التي توجب الاجتثاث والاستئصال فضلاً عن أن التيار الإسلامي بعناصره أيضاً ليس ممنوعاً فحسب، بل محكوم بالإعدام أفراداً وجماعةً بنص القانون الواضح والصريح.
قد يبرر الإسلاميون المعارضون المصرييون منهم والأردنيون، ويتعذّرون بعمومهم أنهم بتأييدهم لبعض السلطات العربية الشمولية والطوارئية والمورّثة والمعجبين بها والمصطفّين خلفها والحاضرين لمؤتمراتها إنما هو تأييد لها في سياستها الخارجية الممانعة والمقاومة ليس غير، ولاعلاقة لهم بسياستها الاستبدادية على جماهيرها مما هو شأن داخلي. ولكن وإن كان المعارضون على العموم والإسلاميون منهم خصوصاً أدرى بمعارضتهم وأعلم بسياساتهم، ولهم تقديراتهم وقياساتهم ومقاساتهم واجتهاداتهم واصطفافاتهم وتفصيلاتهم ومبرراتهم وفتاويهم مابين شأن خارجي وداخلي، فهل يمكن التذاكي والمحاماة عن سياسة خارجية بعيداً عن سياسة داخلية مستبدة وفاسدة إلا أن يكون موقف المدافعين فاقداً لتماسكه ومصداقيته في الدفاع عن قيم الحق والعدل والحرية عندما يقدمون تأييدهم لجهة تمارس الظلم والفساد والطواريء بأكثر مما في بلدهم بما لايقارن، وخصوصاً على أشقائهم وإخوانهم، وإلا فكيف يمكن فهم السكوت عن معاناة الآلاف من المهجرين والمنفيين عن وطنهم، أو التجاوز عن حل مشاكلهم الإنسانية العالقة، والمساعدة في العمل على إلغاء قانون الإعدام بحقهم، والكشف عن مصير عشرات الآلاف من مفقوديهم.
لاريب أن استمرار إعلان حالة الطوارئ والعمل بها بالطريقة المشهودة في بلداننا يُعتبر انتقاصاً معيباً من حريات المواطنين أينما كانوا، وازدراءً حقيقياً لكرامتهم، ومصدراً رئيساً لكافة انتهاكات حقوقهم الإنسانية، ويمنع بشكل قاطع تحقيق أيَّ برنامجٍ جادّ للإصلاح السياسي والديمقراطي والنهوض والمواجهة. ولكن العيب كله أن نرفض بانتقائية ماهو منه في بلدنا، ونسكت عنه عندما يمارس على الآخرين بحججٍ واهية. وقد نتفهّم مايدفع الأنظمة والحكومات الطارقة والطارئة على الدوام لإقناعنا بضرورات ومنافع حالات الطوارئ وتطبيقاتها وعدم قدرتنا على العيش بدونها، لنكمل بقية عمرنا معها وقد عشنا بمعيتها قرابة نصف قرن، وأنهم لايستخدمونها إلا من أجل أمننا وأماننا وفي الضرورات الملحة. ولكن ماليس متفهماً أيضاً أن يكون الاستبداد والفساد لبلدٍ ما ضرورة من ضرورات الممانعة والمقاومة بل ومسكوت عنه من قبل معارضين وإسلاميين أيضاً في بلد آخر لنفس الضرورات.
خاص – صفحات سورية