صفحات سورية

النظام السوري ومفارقات الزمن الضائع

null
افتتاحية الموقف الديمقراطي
تميزت السنوات الأربع الماضية, بالمحاولات الدائبة للنظام السياسي في سورية للتخلص من حالة العزلة التي حاصرته نتيجة للممارسات السياسية و”الأمنية” الخاطئة على المستويين الداخلي والخارجي, ومنها تلك التي خرجت عن حدود العقلانية السياسية أثناء محاولاته الرامية إلى المحافظة على أوراقه الإقليمية على طريقته المعهودة سابقاً, وتمسكه في الداخل الوطني بإعادة إنتاج النهج والمسار الذي اختطه لنفسه وفرضه على المجتمع طوال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي, وذلك وفق رؤية سياسية مرتبطة/ ومعبرة عن بنيته الشمولية التي أضحت موضع تساؤل وسط المتغيرات الدولية العاصفة, إذ أنها لم تعد تلك البنية القابلة عملياً للتحديث أو التطوير, أو حتى الانتماء إلى المستقبل الذي يتسم حاضره بالتحولات العميقة التي اخترقت المعادلة السياسية الإقليمية والدولية, وسط مجموعةٍ كبيرة من الأخطاء والخطايا التي اقترفتها الإدارة الأمريكية السابقة ومن في ركبها من دول وأنظمة تابعة, وأخرى وجدت في تلك الممارسات ذريعةً لها
لتبرير صنوف العسف والاستبداد, والأذى الكبير الذي تلحقه بشعوبها وأوطانها, بالتزامن مع محاولاتها تشويه المقاصد الإنسانية, وطموحات الشعوب للتحرر من أسر هذه الأنظمة وهيمنتها, واستعصائها الكياني على التغير أو التغيير الذي يتطلب درجةً عالية من الشعور بالمسؤولية التاريخية و الوطنية.
لم يستطع النظام أن يخفي عجزه ( إن لم يكن عدم رغبته في الأساس) عن تجاوز طبيعته البنيوية المؤسسة سابقاً على الانفراد بالحكم, وفرض وصايته على المجتمع, واحتجاز السياسة والثقافة في أوساطها الوطنية الديمقراطية عن جيلين كاملين من أبناء الشعب السوري, كما لم تستطع قيادته الجديدة التي أطلقت الشعارات والوعود حول إنجاز الاستحقاقات الوطنية والإصلاح في مختلف الميادين, عبر خطاب القسم الرئاسي الأول وما أعقبه من تصريحات صحفية وإعلامية, أن تفي بهذه الوعود أو تحقق شيئاً من مضامين وأبعاد شعار ” التحديث والتطوير”, وإنما العكس من ذلك هو أن زمن الاحتفاء بها في ربيع دمشق عصفت به حملة الاعتقالات السياسية, وإعادة ترتيب النظام لمعادلته السياسية/ الأمنية, والعودة بالأمور إلى ما كانت عليه, وإن اختلفت الأساليب, حيث اختلط الأمر على العديد من المواطنين, وحتى ممن كان مهتماً بالشأن العام, وحل اللبس والغموض محل التمييز بين المعلن والإعلامي, وبين ما كان يتم ترتيبه على الصعيد الداخلي من ممارسات لا تخرج في جوهرها عن النهج القديم/ الجديد للسلطة ” الأمنية “, وعن منظومة التصورات التي تعيد صوغها أساساً لاستمرار سياسة العسف ومحاصرة المجتمع وقواه الحية, وحراكه السياسي والثقافي الذي تمّ إيقافه بكل عنجهية السطوة الأمنية.
وبذلك يمكن القول أنّ النظام القائم, ومنذ بداياته الأولى, وبعد الالتفاف على مبادرته التي أعلنها حول العمل على تصحيح مسار العقود الثلاثة السابقة, وتعديل ما كان من نهجٍ وعلاقات بنيت على القسر والاستبداد مع فعاليات المجتمع وقواه الوطنية الحية, قد أضاع الفرصة الأولى بالتراجع عما صرح عن القيام به, في الوقت الذي استلم فيه زمام الأمور وسط ترحيب الأوساط العربية والإقليمية والأوربية التي ما فتئت تشير إليه بضرورة التقدم لإحداث التغيير, واتباع نهج الإصلاح الداخلي واحترام حقوق الإنسان والتعدد السياسي والفكري.., وبأنّ المخرج لأيِّ إصلاح لبنية النظام الشمولي,هو في المحصلة, وفي المنطلق النهضوي المعاصر مخرج سياسي,وإن تمّ إنجازه بصورةٍ متدرجة, على أن تتسم خطواته بالاتزان والعقلانية السياسية, والتصميم على المضي قدماً لإنهاء كافة الأسباب والدوافع والمقدمات التي أدت بالوضع السياسي العام والراهن إلى ما هو عليه, من أزمات متفاقمة يجري العمل على إدارتها دون التقدم لمعالجتها والخلاص من أسبابها الأولى ونتائجها التي أثقلت كاهل المجتمع بكلّ أطيافه وشرائحه المتعددة.
ومن منظور النظام السلطوي لإعادة ترتيب المعادلة السياسية الداخلية وفقاً لما كانت عليه قبل استلام الرئاسة الجديدة لمهامها في العام 2000 برزت المفارقة الأولى في المشهد السياسي الداخلي, حين حاول النظام الفصل بين ممارساته الداخلية كدولةٍ أمنية/ قطرية, تعيش هاجس الشرعية السياسية ومأزقها بآنٍ واحد, وبين سياسته الخارجية من خلال محاولة الإصرار على لعب دور إقليمي في المنطقة بعد خروجه من لبنان بعد صدور قرار مجلس الأمن 1559 الذي يهدف إلى إنهاء هذا الدور مستغلاً أخطاء سياسة النظام وممارساته الأمنية خلال ثلاثة عقود ونيف ، ثم جاء اغتيال الرئيس الحريري في أواسط شباط 2005 ليصب الزيت على النار ويعجل في قرار الخروج ، ويفرض العزلة الدولية المترافقة مع عزلة عربية مارستها (دول الاعتدال العربي) ا، مما دفع النظام السياسي لمواصلة تحالفه الإقليمي مع إيران وأطماعها الإقليمية في المنطقة من جهة ومع تركيا التي تعمل لممارسة دور إقليمي فاعل في المنطقة من جهة ثانية.
وسط ذلك الارتباك السياسي أضحت مظاهر التحشيد الداخلي, وإلى حدٍ ما في بعض الأقطار العربية, والشعارات الموظفة في إطارها مما يدعى بنهج ” الممانعة”يشكل الملاذ المعلن الذي يفتقد لرصيده في الواقع الموضوعي, وفي مسار النظام السياسي وسياسته الخارجية المبنية أصلاً على الصفقات المتبادلة, في الوقت الذي يتمّ فيه عزل الداخل الوطني, وتغييبه عن محاور هذه السياسة التي لا تتسم بشيءٍ من الشفافية, وذلك من خلال إدامة ما ارتسم من علاقات افتراق وتجاذب بين النظام على امتداد حكمه وتحكمه, وبين الشعب السوري وقواه السياسية والناهضة من حصارها وكبوتها, ومن قصورها عن امتلاك زمام المبادرة لإنجاز ترجمةٍ عملية لشعار التغيير الوطني الديمقراطي الذي أعيد التأكيد عليه من خلال تشكيل ائتلاف إعلان دمشق, وما أعقب انعقاد مجلسه الوطني من اعتقالات تعسفية لم تكن الأولى من نوعها,ولن تكون الأخيرة في ظل تشديد النظام لقبضته الأمنية, وإعادة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الداخلية إلى ما كانت عليه في عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
وفي ظلّ تغييب القوى الوطنية وفعاليات المجتمع عموماً عن مركز القرار السياسي, يجري العمل على فك طوق العزلة العربية والدولية,وذلك من خلال انتهاج سياسة خارجية موسومة بنهج الصفقات التي لا تستند إلى دراسة موضوعية لربط المهام المرحلية بآفاقها الاستراتيجية, حيث اتخذت العديد من الخطوات الهامة والمؤثرة على مستقبل البلاد, دون أن يكون ثمّة اهتمام لذلك التأثير, او اعتبار لرأي الشعب إزاءها,ومن أبرزها:
الاشتراك الرسمي في مؤتمرات ” منتدى المستقبل” الذي يعتبر الهيئة المؤسسية والترجمة العملية لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي ابتكرته الإدارة الأمريكية السابقة, للهيمنة على الوطن العربي في ظلّ الشعارات السياسية والاقتصادية التنموية التي أطلقت آنذاك,دون أن يكون لها تجسيد فعلي في الواقع الموضوعي.
الانضمام في الصيف الماضي إلى الاتحاد من أجل المتوسط, والموافقة على المواثيق والوثائق الخاصة به, والتي يمكن للعديد منها ان يثير الجدل والاختلاف حول تبعات الالتزام بها في المستقبل, وإغفال العامل الخاص بالفارق الحضاري ودرجة التقدم العلمي والتقاني بين الدول, والإشكاليات الخاصة بالمنطقة العربية والتي يتجلى أهمها في الطبيعة البنيوية للنظم القائمة, إضافة للقضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني, مما يتطلب إدارة الحوار حول هذه المسائل ومدى تأثيرها على هكذا تحالفات دولية, والنهج العام الذي يمكن اتباعه على مساراتها المتعددة.
التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الدول الأوربية, وما يترتب عليها من التزامات للنهوض الاقتصادي في جوانبه المتعددة, وضرورة الإصلاح السياسي, وإنجاز الاستحقاقات الوطنية الداخلية التي ما تزال معلقة في ظلّ ممانعة النظام عن المبادرة لتنفيذها, وإحداث التغييرات اللازمة في البنية السياسية لنظام الحكم القائم, إضافةً إلى ضرورة توسيع نطاق التنمية البشرية, والعمل الجاد والممنهج على تحسين الأوضاع المعيشية لأبناء المجتمع, وإيقاف مفاعيل الفساد والإفساد الاقتصادي والإداري والمالي الذي أدى إلى إهدار الثروة الوطنية,مما نجم عنه ذلك العجز الفاضح عن إمكانية إقامة المشاريع الإنتاجية والتنموية, ووضع الاقتصاد الوطني في مهب رياح التأثير المباشر للتداعيات السلبية المدمرة للأزمة الاقتصادية العالمية دون أي حصانة من اختراق هذه الأزمة لكامل البنية الاقتصادية القائمة.
ومن المفارقات التي تجلت في السياسة السورية في نطاقها العربي والإقليمي,في الزمن الضائع عربياً ودولياً, ذلك الانتقال الكاشف لحقيقة شعارات “الممانعة” في اتجاه العمل على مسار التسوية مع العدو الصهيوني عبر الوساطة التركية, دون أن يكون ثمة حساب موضوعي لميزان القوى الداخلي والمحلي, أو سبرٍ حقيقي لمدى جدية إسرائيل في التحرك التسووي على هذا المحور, في الفترة الانتقالية للإدارة الأمريكية وللحكومة الإسرائيلية نفسها, وفي ظل إخفاق مؤتمرات القمة المنعقدة في دمشق والكويت والدوحة وتداعيات ذلك الإخفاق على المبادرة العربية للتسوية, إضافة لتراكمات التوتر الذي فجّر الحرب والعدوان الصهيوني على غزة,مما لم يكن في حساب القيادة السورية مدى تأثير ذلك كله وغيره على مسار التسوية الذي قد ينهار في ظل الحكومة الإسرائيلية العنصرية الجديدة.
بعيداً عن المطالعات الأيديولوجية لنظامٍ شمولي لم يخرج نفسه من نفق التقليد القديم, بالرغم من توافر كافة المعطيات النظرية والسياسية للمراجعة النقدية, والتجديد في الفكر السياسي السائد, تعتبر أزمة العلاقة السورية/ اللبنانية من أبرز المحاور التي ألقت بظلالها الكثيفة على موقع النظام السياسي ومكانته في إطار المشهد السياسي العربي, وما ارتسم في هذا الإطار من علاقات بينية مأزومة أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه في مؤتمر القمة العربي الذي عقد في دمشق في العام 2008, لتعقبه مفارقة الزمن العربي, التي تمثلت في بلورة الاستقطاب الثنائي الحاد بعيداً عن المضامين الحقيقية والفعلية لمفهومي “الاعتدال” و”الممانعة”.. مما أدى بالنظام السياسي إلى المبادرة لتصويب رؤيته التقليدية لطبيعة العلاقات العربية التي ينبغي أن تكون قائمةً على الاحترام المتبادل كمقدمةٍ موضوعية وشرط لازم لتفعيل هذه العلاقات وإعادة بناء المواقف حيالها, بعيداً عن النزوع إلى الهيمنة والتسلط الذي حكم توجهات النظام السوري في علاقته مع الشعب اللبناني, وهو النزوع الذي أدى,في المحصلة, إلى تغذية الافتراق والتباعد, نتيجةً للمفارقة بين الشعارات المرفوعة حول “الأخوة” والعلاقات “الوحدوية؟؟” وبين ما حدث على أرض الواقع من فرض منطق السطوة “الأمنية” على امتداد العقود الثلاثة التي أعقبت دخول القوات السورية إلى لبنان.
بالمقابل, وكأنّ منطق التجاذبات والاحتراب السياسي بين الأنظمة العربية على امتداد الأعوام الثلاثة السابقة, كان بحاجةٍ إلى اعتداءين إسرائيليين على الأمة العربية على لبنان وعلى قطاع غزة, حتى يتوقف الاشتغال عليه, وعما نجم عنه من تداعيات سلبية, أعقبها انعقاد المؤتمرات الجانبية والتدخل غير المعلن لقوىً خارجية معينة, ليصار إلى إجراء المصالحة بين أقطاب ” التضامن العربي”, والذي كان غائباً أثناء اللعب الأمريكي والصهيوني في الوقت الضائع, على محور تعميق الانقسام العربي الذي يجد عامله الحاسم في التوجهات السياسية المتعارضة, والتي يمكن تجاوزها عبر توافقات لا تحتاج إلى تلك الجهود التي بذلت, للانتقال إلى الحالة السياسية الراهنة التي دعيت بأنها مرحلة ” إدارة الخلافات” حيث ابتدأت قبيل مؤتمر القمة العربي في الدوحة, بالرغم من أنّ المؤتمر لم يخرج عن إعادة إنتاج المعطيات السابقة والمتكررة دون جدوى, وذلك في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية التي تتصاعد تداعياتها مع تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية العالمية,دون أن يكون ثمّة مبادرة جديدة تشير _ على الأقل _ إلى مواكبة الأنظمة العربية للتطورات العالمية المتسارعة, أو حتى إلى إدراك أبعادها وتأثيراتها المستقبلية على الوطن العربي.
* * *
يبدو, إذن, أنّ ازدواجية المعايير في السياسة السورية بين الشعارات المعلنة في لحظة التحشيد الداخلي,وما تمّ إنجازه من خطواتٍ للمساهمة في تحقيق الانفراج الإقليمي والدولي, ناجمة عن الافتراق الواضح بين السياستين الداخلية والخارجية, وعن طبيعة العلاقة القائمة بين السلطة ونهجها القائم على العسف وتغييب القوى الحية والفاعلة في المجتمع, خلافا لما هو مطلوب من خلق مناخٍ سياسي وطني ديمقراطي, لبناء الوحدة الوطنية, وتوسيع المشاركة السياسية في إطارها المدني الديمقراطي و ضرورة إطلاق الحريات الأساسية, ونيل المجتمع لحقوقه السياسية وفي مقدمها التعبير عن حق الاختلاف حول الكيفية التي يمكن من خلالها اتخاذ المواقف الصائبة التي تعكس المصالح الوطنية والقومية, وما يطمح إليه الشعب من أهداف مرحلية واستراتيجيه لا تخرج في محصلتها النهائية عما تشير إليه ضرورات العمل بدلالة المشروع النهضوي العربي, وليس بدلالة الأفق الخاص بالمصالح الآنية والضيقة للأنظمة الشمولية الممسكة بمركز القرار السياسي العربي.
ومن الملاحظ أنه في الوقت الذي قام فيه النظام باعتقال عدد من المثقفين الموقعين على إعلان دمشق – بيروت الذي يعكس المصالح الوطنية المتبادلة بين البلدين, وتسريح عدد آخر من وظائفهم وحرمان أسرهم من لقمة العيش, يتخذ في مرحلةٍ لاحقة الخطوات المتوافقة تماماً مع مضمون الإعلان المذكور,مما يشير إلى مدى التخبط السياسي, من جانب, وافتراق سياسته الخارجية عن النهج والمسار الذي اختطه في الداخل الوطني,من جانبٍ آخر.
وفي الوقت الذي حاول فيه النظام جاهداً معالجة الأسباب التي أدت إلى عزلته عربياً ودولياً, يعمد إلى تشديد قبضته الأمنية, ومحاصرة كافة أشكال الحراك السياسي والثقافي, إضافةً إلى محاولة النيل من نشطاء السياسة وحقوق الإنسان في سورية, عبر ممارساته “الأمنية” المتواصلة والتي كان من أبرزها اعتقالات أعضاء في المجلس الوطني لإعلان دمشق وأمانته العامة, وكأنه لا يأبه للأهمية الخاصة راهنا, وفي المستقبل لضرورة إحداث الانفراج الداخلي, وإعادة بناء الموقف العقلاني من الاستحقاقات الوطنية التي أضحت ضرورة لازمة للانتقال بالبلاد من حالة العطالة الاستبدادية إلى إطلاق مفاعيل العمل الوطني في مختلف الميادين.
ونعود للقول أن النظام الذي يبادر إلى طرح مقولة ” إدارة الخلافات” على المستوى العربي انطلاقاً من الإقرار بالتعدد السياسي وتباين الآراء حول العديد من القضايا العربية التي تنعكس بصورةٍ أو بأخرى على كلٍ من الدول القطرية المعنية, لا بدّ له أولاً أن يوافق بين ما يطرح, وبين ضرورات الانسجام بين السياسة الخارجية والداخلية عبر إدراك الترابط الوثيق بينهما, إذ لا يمكن للسياسة المدنية أن تستقيم أو تكون كذلك, دون إقصاء التناقض أو التعارض بين جانبيها الوطني والقومي وكذلك الجانب الدولي في نهاية الأمر, ولا ريب أن هذه الجوانب هي في المحصلة تهم المجتمع و قواه وفاعلياته المتعددة, حيث يشكل محور العمل الوحدوي أحد أبرز محاور عقده الاجتماعي ووحدته الوطنية. وبالتالي فإن المنطق السياسي والفكري يؤول بصورةٍ موضوعية إلى ضرورة الانطلاق من مضامينها وأبعادها الوطنية, وذلك عبر المبادرة إلى إجراء التغييرات الديمقراطية التي من شأنها إعادة ترتيب المعادلة السياسية الداخلية وفقاً لمنطق التغيير ومتطلبات المصلحة الوطنية واستحقاقاتها التي ينبغي العمل على إنجازها كمقدمة موضوعية للخلاص من أسر الرؤية أحادية الجانب التي تحكم ممارسات النظام القائم.
ولسنا هنا بحاجةٍ إلى التذكير أنّ حق الاختلاف والتباين في الآراء, والتعدد السياسي والفكري, وممارسة السياسة بعيداً عن الاحتراب, تعتبر في مقدمة حقوق المواطنة التي تعتبر بنظر معظم المسؤولين مجالاً لإنكارها والتنكر لها في الوقت الذي تعتبر في المجتمعات الحديثة المحور الرئيس لإطلاق مفاعيل العمل الوطني والنشاط السياسي والثقافي.
إننا لا ندعي,هنا, أنّ الحركة الوطنية الديمقراطية في سورية بمختلف أطيافها وقواها, مبرّاة من أخطائها وعثراتها, وكبواتها في المسار السياسي, وفي العلاقات القائمة فيما بينها,ومع مجمل الفاعليات الاجتماعية والثقافية… ولابدّ والحالة هذه, من إجراء مراجعةٍ نقدية تكون في مقدمة المهام لتصويب المسار وتصحيح الأخطاء التي اقترفت وألقت ظلالها الكثيفة على مسيرة العمل الوطني في بلادنا.
إلاّ أنّ الظروف الموضوعية المحيطة بالنشاط السياسي والثقافي, والمحاصرة الاستبدادية وموجات الاعتقالات التعسفية التي منيت بها ا لأحزاب والقوى الوطنية في سورية على امتداد العقود الثلاثة الماضية, إضافةً لاحتجاز السياسة وتعطيل النظام للقوانين الخاصة بالشؤون العامة من خلال إدامة العمل بقانون الطوارئ, والهيمنة على مؤسسات الدولة, والتفرد في الحكم وفي القرار السياسي,كل ذلك وغيره أدى إلى تعطيل الحياة السياسية والثقافية في البلاد, وكانت له نتائجه الاجتماعية الخطيرة.
كما أنّ العمل الجبهوي الشكلي في إطار النظام ومؤسساته الشمولية لم يعد مجدياً منذ أمدٍ بعيد, وخاصةً بعد التحولات العميقة التي أدت إلى انهيار معظم الأنظمة الشمولية على مستوى العالم, في الوقت الذي لم يعد لهذا العمل رصيده السياسي في الأوساط الاجتماعية, ولم يعد يحظى بالمصداقية أو الفاعلية في مجالاته الخاصة به.ولم تعد العديد من المنطلقات” الدستورية” قابلة للاستمرار بعد التحولات العالمية الكبرى في مجال الاقتصاد والاجتماع والسياسة وبنية الفكر السياسي عموماً.
لابدّ إذن, من أن تكون للنظام السوري وقفةً نقدية مسؤولة إزاء ما وصلت إليه البلاد في وضعها الراهن, وفيما يتلامح من احتمالات لتغيرات مفاجئة قد تصيب المجتمع أكثر مما تصيب البنية الشمولية للنظام بحدّ ذاته, وذلك بعد أن سقطت كافة الذرائع الخاصة بما دعي بالأخطار الخارجية, والتي لا يفيد في مواجهتها أصلاً كل الممارسات الأمنية وأساليب القمع.
ولابدّ للمبادرة السياسية للإصلاح على طريق التغيير الوطني الديمقراطي من بداياتها الإيجابية ومقدماتها التي تؤدي إلى إحداث الانفراج الداخلي سبيلاً لبناء الدولة المدنية الحديثة, والتي يمكن ان تبدأ من:
وقف العمل بصورة نهائية بقانون الطوارئ و الاحتكام في كل الخلافات والتوترات إلى عدالة القضاء المدني وضمان استقلاله عن السلطة التنفيذية, وإلى سيادة القانون.
إعادة النظر بالمنطلقات النظرية للدستور, والمواد الخاصة باستمرار النظام الشمولي وبخاصة المادة 8 منه, وتحديث القوانين بما يتفق مع متطلبات التغيير الوطني الديمقراطي في البلاد.
إصدار قانون للأحزاب السياسية بعد عرضه على المناقشة والحوار من قبل كافة القوى والأحزاب المعنية بالعمل السياسي, والعمل على تنفيذه,وإطلاق الحريات الأساسية لكافة المواطنين وضمان نيل أبناء المجتمع لحقوق المواطنة بصورةٍ كاملة، بما فيها حرية الصحافة ووسائل التعبير عن الرأي.
تعديل كافة القوانين واللوائح الداخلية الخاصة بالجمعيات وهيئات ومنظمات المجتمع المدني عموماً, والعمل على كف يد الأجهزة الأمنية عن التدخل في شؤونها وفي منح التراخيص الخاصة بها.
إعادة النظر بشكلٍ كامل في توزيع الثروة الوطنية على أبناء المجتمع, وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين, والعمل على تحسين الأوضاع المعيشية بصورةً ملموسة
ولا ريب في أن مجمل الاستحقاقات التي ذكرنا قد أضحت من بديهيات العمل الوطني الذي يشكل في منطلقه ومستقره, الدخول في إطار العملية التاريخية لتحقيق الأهداف المعلنة والمعبرة عن الحاجات الموضوعية والحيوية للشعب السوري الذي أثقلت كاهله أعباء المرحلة السابقة التي ما تزال مستمرة, ويتوق إلى إحداث تغيير جذري لطبيعة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيش, وسط إدامة التحكم بمصيره ومستقبله.
نشرة التجمع الوطني الديمقراطي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى