بول جونسون: البحث عن إمبريالية ما بعد صدام حسين
صبحي حديدي
آخر صرعاته، فهو والحقّ يُقال صاحب صرعات من طراز لا يتجاسر عليها سواه، ما نشره مؤخراً في مجلة ‘فوربز’ الأمريكية، تعليقاً على الانتخابات التشريعية التي جرت مؤخراً في بريطانيا: مشكلة بطء، أو انعدام، المؤسسات الديمقراطية في العالم المسلم عائدة إلى تقصير أمريكا وبريطانيا في نشر اللغة الإنكليزية، إذْ كيف يمكن للديمقراطية أن تتقدّم إذا كان هؤلاء المسلمون لا يمتلكون اللغة التي تتيح لهم قراءة أفكار جون لوك وإدموند بيرك، والآباء المؤسسين للولايات المتحدة؟ و’هؤلاء الذين منحناهم حقّ التصويت’ في بريطانيا، ويقصد مختلف شرائح المهاجرين بالطبع، كيف صوّتوا وهم لا يتقنون اللغة اللازمة لمتابعة السجالات الانتخابية، وخاصة المناظرات المتلفزة، بين الأحزاب المتنافسة؟
صاحب هذه الصرعة هو المؤرخ البريطاني بول جونسون، مؤلف لائحة تزيد عن 45 كتاباً في مواضيع شتى، تضمّ كتابين ضخمين عن الحياة الفكرية المعاصرة، ومجلدات أشدّ ضخامة تؤرّخ للمسيحية واليهودية وإنكلترا وإرلندا، وأخرى تروي سيرة إليزابيث الأولى والبابا يوحنا الثالث والعشرين، فضلاً عن حضارات الأرض المقدسة، وتاريخ العالم بأسره. وفي أقلّ من عشر سنوات كان قد أصدر المؤلفات التالية التي تحتوي على مفردة ‘تاريخ’ في عناوينها: تاريخ المسيحية، تاريخ العالم الحديث، تاريخ الشعب الإنكليزي، تاريخ اليهود، تاريخ الأزمنة الحديثة…
ولضرب أمثلة على بعض ‘المحتوى الدسم’ لتلك المجلدات، وبعض الصرعات الأخرى استطراداً، هنا منتخبات من كتابه عن تاريخ اليهود:
ـ ‘استعباد الفراعنة لليهود كان استبطاناً بعيداً، لا يقلّ خبثاً، لبرامج السخرة التي وضعها هتلر لليهود’؛
ـ ‘بدون اختراع السكك الحديدية، يصعب أن نتخيّل وقوع الهلوكوست’؛
ـ ‘الغرف الخمس في أوشفتز كانت مجهزة بشكل يتيح إفناء 60 ألف رجل وامرأة وطفل، كلّ 24 ساعة’؛
ـ ‘عدد الأفارقة والآسيويين الذين قضوا نحبهم بفعل السياسة النفطية العربية، بعد عام 1973، يبلغ عشرات الملايين’؛
ـ ‘احتلال جنوب لبنان كان في خلفية المذبحة التي نظّمها المسيحيون الكتائبيون العرب ضدّ اللاجئين المسلمين في صبرا وشاتيلا. لكن الدعاوة العربية والسوفييتية أحسنت استغلال هذه الحادثة وألصقت مسؤوليتها بإسرائيل. ولقد علّق بيغن في اجتماع مجلس الوزراء بعد ثلاثة أيام: غوييم يقتلون غوييم، واللوم يقع على اليهود’.
هي فقرات غنية عن أيّ تعليق عقلاني، إذْ ما الذي يمكن تبصّره في أقوال تتكرّم على المسيحيين الكتائبيين بصفة العرب، ثمّ تنفيها عن لاجئي صبرا وشاتيلا، بعد أن تُسقط عنهم صفة الفلسطينيين مثلاً، وتحصرهم في مسمّى ‘المسلمين’؟ أو تقتبس رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغين، وهو يحشر هؤلاء وأولئك في خانة الـ’غوييم’: الأغيار، غير اليهود، إذا اتكأ المرء على المصطلح التوراتي فقط، ولم يذهب إلى التأويل العنصري للمفردة؟ وجونسون مثال ساطع على الدوران، بزاوية تامة، من صفوف اليسار إلى صفوف اليمين، وأتمّ عمادته على يد أمثال ريشارد نكسون ومارغريت ثاتشر، خلال عقود السبعينيات. السيرورة بدأت حين انتقل من دوائر اليسار المعتدل الملتفة حول حزب العمال البريطاني، إلى دوائر اليمين الرجعي في حزب المحافظين (حين يتواجد في بريطانيا) والمحافظين الجمهوريين الجدد (حين يتواجد في أمريكا). وما يسرده في أعماله ليس تاريخاً بأي معنى علمي جدير بالاحترام، بل سلسلة اجتهادات خرافية، وأقنعة إيديولوجية، واستيهامات افتراضية تفتقر تماماً إلى أبسط قواعد المنطق السليم (كما في الجزم حول الطاقة الإستيعابية لغرف الغاز، أو أعداد ضحايا النفط العربي).
وليس الأمر أنه لا يرى ما يجري في العالم من حوله، ولكنه يفضّل النظر إلى الحاضر والمستقبل اعتماداً على ‘قاعدة مركزية في التراث اليهودي ـ المسيحي، تقول بوجوب أن يحصي المرء نِعَمَه’؛ وأوّلها عنده أنّ الغرب خرج ظافراً من هذا القرن المرعب و’الأكثر خطورة في تاريخ البشرية’. لقد بلغ به الكبر عتيّاً، 82 سنة، وهذا عمر يسمح له باستذكار ثلاثة أحداث رهيبة كادت تدني العالم المتحضّر من شفير الهلاك والفناء: 1940، حين حاول ‘النظام النازي وإيديولوجيته الفرنكنشتاينية’ السيطرة على القارّة الأوروبية وبعض آسيا وأفريقيا؛ و1946، حين أوشك الأمريكيون على سحب قوّاتهم من أوروبا، تاركين العالم لقمة سائغة أمام ستالين؛ وأعوام السبعينيات، حين بدت فضيحة ‘ووترغيت’ وكأنها تجرّد الجبار الأمريكي الأعظم من جميع هياكله القيادية والأخلاقية. أمّا في ما يخصّ التسعينيات والعقد الأوّل من الألفية الثالثة، فإنّ جونسون يواصل البحث عن إمبريالية ضائعة، لا مخرج للإنسانية إلا باستعادتها: ‘لقد حان الوقت للكفّ عن نواح القرن العشرين، والشروع بتدبّر السُبُل الكفيلة بضمان استقرار كوني ورفاهية واسعة. الخطوة الأولى هي إعادة تأسيس الإمبريالية الغربية’. مات الآن نظام العوالم الثلاثة، كما يخبرنا، ونحن اليوم نعيش نظام العالم الأوّل، والوحيد الذي يشهد انتقال قيم الغرب وطرائق عيشه إلى جميع أرجاء المعمورة، انتقال النار في الهشيم. ونحن بحاجة إلى إرساء هذا العالم الوحيد على سبعة أعمدة (ولا بدّ من هذا الرقم، لكي نتذكّر لورنس العرب وكتابه المأثور)، هي حكمة القرن الراهن.
الأمم المتحدة هي أولى الأعمدة، ولقد كان الغرب محظوظاً حين أسفرت الحرب الباردة عن انضمام روسيا إلى العالم المتمدن، واسترداد مجلس الأمن بدوره كذراع طويلة للقوى الغربية الجبارة. كذلك كان الغرب محظوظاً بظهور صدّام حسين على هيئة ‘شيطان منفلت من عقاله’ Diabolus ex machina، ويكتب جونسون: ‘لو كان صدّام حسين شيطاناً رغم أنفه، أو نصف شيطان، أو شيطاناً مضطرباً، لما أدّى الغرض. لكنه كان شيطاناً تامّاً كاملاً، وشيطاناً معيارياً نمطياً من طراز هتلر’. وشروط جونسون لكي يكون أداء الأمم المتحدة لائقاً بأخلاقيات العالم الأوّل، الوحيد، هي التالية: وضع عملية ‘عاصفة الصحراء’ نصب أعين مجلس الأمن الدولي، كلما رنّ ناقوس على وجه البسيطة؛ وضمّ اليابان إلى الدول دائمة العضوية، لكي يكتمل عقد الجبابرة؛ وتطبيق إجراءات تكفل وضع دول العالم الثالث على هامش المنظمة الدولية، لكي لا يتكرر خطأ الرئيس الأمريكي هاري ترومان في منح الجمعية العامة حق اتخاذ القرارات، أو خطأ زميله دوايت أيزنهاور الذي سمح لشخص مثل همرشولد بإدانة فرنسا وبريطانيا جرّاء حرب السويس، مثلما أتاح فيما بعد وقوع ‘فضيحة’ السماح لـ’إرهابي’ مثل ياسر عرفات باعتلاء منبر المنظمة الدولية.
وإذا كان من واجب الولايات المتحدة أن تتولى دور الشرطي الكوني، يتابع جونسون، فإنّ من حقها على مجلس الأمن الدولي أن يتحوّل إلى ما يشبه المخفر الساهر على تطبيق القانون. ذلك يفضي إلى العمود الثاني، أي تحويل الأمن الجماعي من قوة سلبية تتحرك وفق مبدأ ردّ الفعل، إلى ‘كلب حراسة’ يقظ، قادر على التقاط رائحة الجريمة والحؤول دون وقوعها؛ وهنالك، بالتالي، ضرورة لتعديل ميثاق الأمم المتحدة بحيث يمتلك مجلس الأمن أواليات تدخّل ديناميكية. العمود الثالث يتفرّع عن الثاني، ويتصل بحقّ التدخل، وطرد ‘الأوهام الطوباوية’ و’الإيديولوجيات المضلِّلة’ حول ‘خرافة الإستقلال الوطني’. عشرات الدول في آسيا وأفريقيا لا تفقه حرفاً واحداً في أبجدية إدارة الدولة والمجتمع، يقول جونسون، وينبغي عدم التردد في استئناف العمل باتفاقية فرساي ونظام الإنتداب (الذي يرى جونسون أنه كان ناجحاً في كلّ مكان… باستثناء فلسطين، حيث ارتكب البريطانيون جملة أخطاء بحقّ ‘الحركة الصهيونية الديمقراطية’). ولأنّ مجلس الأمن الدولي هو مخفر الجبابرة، فإن جونسون ينيط به مهمة ‘إحياء الحيوية الإمبريالية، واستعادة المعنى النبيل لكلمة الإستعمار’.
العمود الرابع هو العمل الحثيث لاستيعاب الصين، وإعادة توجيهها في أقنية إيجابية وبنّاءة (رغم الماركسية والتوتاليتارية، كما يقول)، وذلك لضمان القدر الأقصى من الإنسجام في علاقات القوّة، ولدرء خطر الشرق. الصين عنده هي ‘صدّام حسين مضروباً بأربعين ضعفاً’، ولكنها تتحرّك ضمن معادلة جيو ـ ستراتيجية واقتصادية مكمّلة لحركة الغرب، وموازية لحركة اليابان والتنانين الآسيوية الصغيرة في أندونيسيا وتايوان وسنغافورة وكوريا.
وإدخال الصين في إيقاع الاقتصاد الدولي عنصر ضروري للعمود الخامس المركّب: المجموعة الأوروبية، اتفاقية ماستريخت، ‘الاتفاقية العامة حول التعرفة والتجارة’ GATT، معدّلات صرف العملة، وما إليها. ومنذ ابتداء هذا القرن الجديد، سوف تتكوّن كتلة شرائية هائلة من خمسة مليارات وربع المليار (هي مجموع سكان الصين والهند والباكستان وأندونيسيا وبنغلادش وفييتنام)، وستُفتح أسواق هائلة لا مفرّ من تقاسمها بين الكتل الثلاث الأوروبية والأمريكية والآسيوية، والصين بهذا المعنى مفتاح محوري في صناعة التقاسم، وفي ‘ضبطه’ و’حراسته’.
ضغط العامل الديمغرافي يقود جونسون إلى العمود السادس، أي تربية البشرية وفق القواعد الليبرالية الغربية، وتعليمها سبل الدخول السلمي في نظام العالم الواحد الوحيد، تفادياً لتحوّلها إلى قنبلة سكانية موقوتة، وحاضنة خصبة للتيارات الراديكالية والأصولية والإثنية. هذه ‘القوى السوداء’، كما يسمّيها، يمكن أن تنضمّ بسهولة إلى حال الجهل المقنّع في أوروبا وأمريكا الشمالية، بحيث تتحوّل الأجيال الجديدة إلى ‘أفواج رعاع’ لا مواطنين صالحين. وفات جونسون أن يقول، كما قال سواه: هنا سيكون مايكل جونسون، وليس فريدريش هيغل، هو الجدير بقيادة هؤلاء الرعاع نحو نهاية التاريخ. الإمبريالية الغربية المطلوبة أكملت عدّتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، ولم يعد ينقصها سوى الثورة الثقافية التربوية.
وهذه المسألة الثقافية هي التي تجعله يرى في جياع الصومال وأفريقيا تجسيداً لهدر الموارد، قبل فظائع الجوع والعطش والموت. العمود السابع في حكمة القرن الواحد والعشرين هو الحفاظ على الموارد وحسن استغلالها وتطويرها، وهي هنا تتجاوز الثروات الطبيعية إلى الدماغ والإبداع والمخيّلة والذوق والحساسية. ذلك يدفعه إلى أن يلاحظ، بقلق جلي، كيف أخذت جوائز نوبل تذهب إلى أبناء ماليزيا وكوريا وتشيلي وتركيا وسنغافورة والهند ومصر والكاريبي…
ليس غريباً، والحال هذه، أن تحظى افكار جونسون بالترحاب الشديد في أوساط المحافل اليمينية المتشددة، والرجعية، وأن يعطيها المحافظون الجدد في الولايات المتحدة مكانة الصدارة، وأن يمنحه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن ‘قلادة الحرّية’ الرئاسية (كان جونسون قد وصف الأخير بـ’خليفة ثاتشر’، ووصم بوش الأب بـ’رئيس الإستكانة’). ويُسجَّل له أنه كان في طليعة ناصحي رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، حين تولى المنصب في الولاية الأولى سنة 1997: ‘أخبرته أن يبقى ملتصقاً بالأمريكيين، فهم حلفاؤنا، ونحن مثل أسرة واحدة، وليذهب الأوروبيون إلى الجحيم، فلا تثق بهم، وخاصة فرنسا’!
وليس استذكاره اليوم لأفكار الأمريكيين ‘آباء’ الفلسفة الديمقراطية، متجاهلاً فلاسفة ومفكري العالم بأسره، إلا التكملة الطبيعية للصرعة القائلة بأنّ ضعف اللغة الإنكليزية في العالم المسلم هو السبب في تعثر الديمقراطية، أياً كان مقدار الصواب في إقامة الصلة بين الديمقراطية والتثقيف. والذي يحضّ الغرب على ابتداع أنظمة جديدة في الإستعمار والإنتداب والإمبريالية، كيف لا يجزم بأنّ الإسلام يبغض اللغة الإنكليزية… كرهاً بالديمقراطية!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –