عن العروبة والمستقبل!
ميشيل كيلو
بين الخامس عشر والتاسع عشر من شهر أيار/مايو الحالي، عقدت في دمشق الشام ندوة شارك فيها قرابة مائة وخمسون باحثا وكاتبا ومفكرا عربيا، توافدوا إليها لمناقشة مسألة ‘العروبة والمستقبل’.
وكان عقد عام 1963 في دمشق الشام ‘مؤتمر اشتراكي عربي’ ركز مناقشاته على نمط الاشتراكية العربية، الذي سيبنيه انقلاب الثامن من آذار/مارس ‘القومي’ في العام نفسه، دون أن يتطرق أحد إلى العروبة ذاتها، لاعتقاد المؤتمرين أنها مفسرة بذاتها فلا تحتاج إلى نقاش: أليست هي ماهية ثابتة للعرب أفصحت عن نفسها بمجرد أن أزال الانقلاب العروبي الغلاف السياسي الرجعي الذي كان يلفها؟.. في تلك الفترة، قالت طرفة رائجة إن جماعة أرادت إحراج عضو في حزب البعث، فسألته عن معنى العروبة. فكر الرجل قليلا ثم قال بثقة واندفاع: ‘العروبة حقيقة ووجود’. يبدو أن تعريف الرفيق عبر عن العقل القومي السائد آنذاك، فالعروبة لا تعريف لها ولا تحتاج أصلا إلى تعريف: إنها ماهية العربي الأصيلة، الملازمة لجوهره، فليس من الضروري إعمال العقل والفكر في فمها، ما دام كل عربي يستطيع استخراجها من ذاته بالتذكر، كما قال مؤسس البعث الأستاذ ميشيل عفلق، أو بالحدس، حسب أقوال الأرسوزي، الذي اعتبر بعد عام 1970 مؤسس البعث الحقيقي.
لم يناقش مؤتمر عام 1963 مستقبل العروبة. لو أن أحدا طلب إلى المؤتمرين مناقشة هذه المسألة، لاعتبره هؤلاء مجنونا أو ناقص عقل، يشك في أن المستقبل للعروبة دون غيرها، بعد أن طوت صفحة العصر الانفصالي / الرجعي في حياة العرب، وقضت عليه في انقلاب الثامن من آذار، فكان زواله دليلا على المدى الذي بلغه توطن العروبة في القلوب والعقول، وبرهانا يؤكد أنه لولاها لما زال وانقضى، ولما كان ثمة أصلا حاجة إلى إزالته والقضاء عليه. لا تحتاج العروبة إلى تعريف أو تلمس علمي، فالمعرف لا يعرف، وإن كان من الضروري التفكير بطرق تحققها ـ الثوري طبعا – في المجتمع العربي، بعد صدورها عن نفوس أبنائه، مكمن قاعدتها الأبدية وحقيقتها النهائية، وانتقالها إلى الواقع الذي ستتظاهر في أبنيته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، فيكون في تمام تظاهرها التحرير التام والناجز للأمة، الذي لطالما انتظرته وتاقت إليه، وتحقق لها على يد البعث، بعد طول انتظار.
لا أبالغ إذا قلت إن ندوة دمشق الحالية صرفت نصف وقتها أو يزيد على تعريف العروبة أو ندب ما آلت إليه أحوالها البائسة، وأنها ما ألقته من نظرات عليها، حمل مسحة تشاؤم عميق من المستقبل العربي عامة، ومستقبل العروبة خاصة. حدث هذا بعد نصف قرن على مؤتمر 1963، الذي لم يتوقف عند معنى العروبة، الذي بدا له مسألة منتهية، فجاءت ندوة اليوم تعرفه، وغرقت في حيرة معرفية أخذت تسم أكثر فأكثر مواقف ولقاءات مثقفي العرب، ممن يستجير العالم العربي الرسمي بهم من حين لآخر، علهم يعيدون إنتاج خطابه القومي المفلس، وينجحون في وضعه داخل غلاف يختلف عن غلافه الراهن، ويعبرون عنه بلغة تختلف عن لغة أهل الحكم، بعد أن فقد شرعيته ولم يبق له غير الاستعاضة عن واقعها الهش بمدائح لفظية يغدقها عليه واحد من هنا وآخر من هناك.
انقسم المتحدثون في الندوة إلى تيارات متعددة، أبرزها تيار عبر عنه رأيان انتقد أولهما منظومة الفهم القومي الإثني للعرب، التي كان قد بلورها بين ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي مؤسسه ميشيل عفلق. وقد دعا أصحاب هذا النقد إلى التخلي عنها باعتبارها منظومة تفضي إلى مواقف استبدادية، إقصائية واستبعادية، تقصر مفهوم العروبة على العرب وتستبعد شركاءهم في الوطن من كرد وأمازيغ وأقوام جنوب السودان … الخ. اقترح هؤلاء النقاد محددا للعروبة يزاوج بين الإطارين الجغرافي والديمقراطي، يعيد إنتاج واقع العرب وسياساتهم في العروبة بما هي حاضنة عامة يتساوي فيها وأمامها وينتمي إليها كل من يعيش على الأرض العربية أو بين العرب، بغض النظر عن إثنيته ولغته وثقافته، ما دام شريكا لهم في الأرض ويجب أن يتمتع مثلهم بالديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة والمساواة والعدالة، وينال الاعتراف بحقوقه الخاصة: الثقافية واللغوية. وقال ثانيهما بالديمقراطية بديلا للفهم الإثني، وقدم مقترحات تفصيلية تعيد إنتاج العروبة انطلاقا من حقوق الإنسان والمواطنة ودولة الحق والقانون والنظام الديمقراطي، بعد أن بيّن بالتفصيل ما رتب عل الفهم الاثني من نتائج كارثية بالنسبة للعرب ولن يعيش معهم.
قدم تيار آخر ضم معظم المتحدثين، تكاملت تحليلاته ومقولاته بين مختلف الناطقين باسمه، قراءات تاريخية وأخرى نقدية للواقع العربي، الذي أنتجته خلال نصف القرن الماضي سياسات النظم، سواء كانت تسمى قومية أو قطرية، وأوصل العالم العربي إلى ما هو عليها من ضعف وعجز وهزيمة وفشل. انصبت الإسهامات الثرية والمتنوعة للمتحدثين على نقد ما هو قائم، وخاصة طريقة فهم العروبة خلال الحقبة الحديثة، وطرق ممارستها، والنتائج السلبية التي آلت إليها، وقدمت بدائل ميدانية ونظرية لها، بصفتها مرحلة من حاضر العرب لم يعد لديها ما تقوله لهم أو تفعله لأجلهم، وأنها تتحمل مسؤولية ما آلت إليه أحوالهم من تدهور يطاول حتى وجودهم ذاته.
لم يدافع أحد من المشاركين عن النتائج التي تمخضت عن سياسات ‘النظام العربي’، بل تسابق الجميع إلى نقد أشكال وتكوينات هذا النظام وإدانتها. وبينما اعتبر قوميو مؤتمر الستينيات ‘النظام القومي/الاشتراكي’ مصدر شرعية جديدا في السياسة العربية، غاب هذا الحديث عنه كمصدر للشرعية غيابا تاما عن نظرات وأقوال المشاركين في ندوة عام 2010، الذين أجمعوا على أن العروبة لم تكن مصدرا لشرعية أي نظام، لأنه لم يوجد نظام مارسها بمعايير تتفق مع حقائقها، ولأن النظم جميعها أخضعت المصالح القومية لمصالحها القطرية الضيقة، فأتت عروبتها قطرية ومشحونة بخلافات وتوترات وعوامل تفجر مزقت العرب خلال نصف القرن المنصرم وفرقتهم إلى شيع وقبائل متناحرة أو مقتتلة. بقول آخر: كانت عروبة 1963 ترى نفسها بدلالتين: أولاهما ضرورة تحديد المجال العربي كمجال قومي خاص بالعروبة دون غيرها، لا بد أن يفصل ويستقل عن الخارج الأجنبي، ويعطي، في الوقت نفسه، أولية مطلقة على المجال الخاص بالدولة القطرية، الذي سيعاد بناؤه في المجال القومي الأوسع، لن يكون هناك فعل ثوري ووطني، قومي ووحدوي، إذا لم ينجح تحويله إلى جزء تكويني من دولة العرب الواحدة الموحدة، مع ما سيترتب على ذلك من تبدل في معاني وآليات اشتغال الشأن العام. أما الدلالة الثانية فهي فتح المجال القومي على مكوناته البشرية الداخلية، دون إقصاء أو استبعاد أي واحد منها، أو حرمانه من منافع المجتمع العربي الموحد والاشتراكي. في ندوة دمشق بالأمس، كانت المطالبة الشديدة والواضحة بحقوق ‘الأقليات’ إدانة جلية لخروج ‘النظم القومية’ على ضرورة فتح المجال الداخلي أمام سائر مكوناته، العربية وغير العربية، ولمنعها من التعبير عن نفسها ونيل حقوقها، وإدانة للتعارض المطلق، الذي اصطنعته النظم بين المبدأ القومي والمبدأ الديمقراطي، فحال دون تحقيق أي تقدم في أي مجال وطني أو قومي أو اجتماعي، وحول العروبة من حامل تغيير تاريخي وتحديثي، إلى أيديولوجية تقليدية جديدة، حسب وصف أستاذنا ياسين الحافظ، أغلقت مجالها القطري وفصلته عن المجال القومي، بينما فتحته على مصراعيه أمام الخارج الأجنبي، وكورته على مجموعة إثنية غالبة أسرفت سلطتها في قمع وقهر المكونات الأخرى، الإثنية منها والسياسية، بحجة أنها أقليات متواطئة مع الأجنبي، في حريتها ومساواتها مع العرب ما فيه من أخطار داهمة على هؤلاء. إنها تقليدية جديدة تختلف عن القديمة في أمرين: نمط الخطاب القومي الذي تنتجه، لتموه حقيقتها، وشدة الإقصاء والقمع الذي تمارسه باسم عروبة تتبنى ضربا دينيا من علمانية سلطوية، أهم سماتها عجزها عن تقديم إطار جامع تنضوي مكونات قطرها فيه، مثلما تنضوي مكونات الأقطار التقليدية القديمة في إطار ديني أعيد إنتاجه بدويا وعشائريا وسلطويا.
رغم مداخلة الصديق عبد الحسين شعبان عن ‘العروبة والدولة الحديثة’، التي رأى فيها العروبة بدلالة الديمقراطية، وبين بالتفصيل النتائج التي ستترتب على تطبيق هذه الرؤية في الواقع القائم، وكيف ستبدل حال العرب إلى الأحسن في كل ميدان وعلى كل صعيد، ومداخلة الصديق أحمد برقاوي، الذي لم يكن أقل جذرية ووضوحا في تبيان كارثية النتائج التي ترتبت على الفهم الإثني للعروبة، وقدم رؤية بديلة له تنطلق من مساواة كل من يعيش على الأرض العربية أو مع العرب في الحقوق والواجبات السياسية والاجتماعية والثقافية، ومن ضرورة بناء نظام سياسي حديث يقوم على حقوق لإنسان والديمقراطية والمواطنة، ويحترم خصائص الجماعات العروبية: أكانت من أصل عربي أم غير عربي، ومن مداخلة الصديق يوسف سلامة، الذي أكد على ضرورة أن يبتدع العرب طرقا للتقدم والحرية في ظل أوضاعهم الراهنة، بوسعها إخراجهم منها، دون انتظار الدولة العربية الواحدة، التي قد لا تقوم في أي يوم، نتيجة لتبدل معنى الوحدة العربية وفشل النظم القومية في تحقيق أي وحدة، ومع أن الأصدقاء الثلاثة، وكذلك الأصدقاء عبد الإله بلقزيز، وكمال عبد اللطيف، وحلمي الشعراوي، ومحمد السعيد ادريس، وكثيرون غيرهم، أكدوا حتمية فشل أي تقدم اجتماعي وتوحيد عربي دون استناد السياسة العربية إلى مفهوم وواقع المواطنة، فإن هناك مسألة تطرق إليها معظم المنتدين، وخاصة منهم الذين ذكرتهم، كان يجب أن تكون موضوع نقاش الرئيس، هي التالية: إذا كان صحيحا أن المشروع القومي قد فشل، فلماذا لا نحدد أسباب فشله؟. لقد أقرت الندوة بفشل المشروع القومي، وتحدثت عن مأزق العروبة الراهنة، لكنها لم تجعل هذه المسألة موضوع نقاش رئيسي، كي لا أقول وحيدا، ولم تنطلق من إقرار لا لبس فيه بأن النظم العربية جميعها مسؤولة عن الفشل، الذي ترتب على ممارسات اتبعتها فملأت المجال القومي بالمشاحنات، وأبعدته عن التوحد بدل أن تقربه منه، وأحدثت انشقاقا خطيرا بين الحكم والشعب داخل كل قطر، وقوضت وحدة الشعب الوطنية، بتلاعبها بها واستنادها إلى مكونات شعبية معينة واستبعاد واضطهاد أخرى. لو انطلقت الندوة من الإقرار بالفشل وما نجم عنه، لكان موضوعها على الأرجح: لماذا فشلت العروبة، وكيف تخرج من فشلها؟. عندئذ، كانت الحوارات والمداخلات ستنصب على أخطاء وآثام النظم القائمة وسمات النظام البديل، الذي يستطيع إخراج العرب من بؤسهم. وكان المنتدون سيضعون يدهم على سبب الفشل، الذي يتلخص في أمر رئيسي: فصل المشروع القومي عن المشروع الديمقراطي، وإقامة تعارض لا سبيل إلى جسره بينهما. كان المنتدون سيقرون أن المشروع الديمقراطي هو اليوم المشروع القومي، وإن المشروع القومي هو عين المشروع الديمقراطي، فلا عروبة خارج الديمقراطية أو بغيرها، ولا ديمقراطية خارج العروبة أو ضدها. قال المحاضرون جميعهم كلاما حارا ومقنعا حول ضرورة الديمقراطية، لكن هذه المعادلة غابت عن الندوة، ربما بسبب مكان انعقادها والجهة التي دعت إليها. لو كانت حضرت، لخرج القوم بنتائج تختلف عن النتائج التي توصلوا إليها، على أهمية القسم الرئيسي منها، ولكانت الندوة حملت عنوان: الديمقراطية : حاضر العروبة ومستقبلها، بدل العنوان البارد والمحايد نسبيا: العروبة والمستقبل. ولكان المتحدثون قالوا بلغة لا غمغمة فيها: لن نقبل بعد الآن بغير الديمقراطية طريقا إلى العروبة كنظام سياسة وحياة، ولن تكون العروبة غير المواطنة الحرة في مجتمع مدني / ديمقراطي يحميه القانون وتجسده الدولة، تتحقق فيه كرامة الفرد ومصالح المجتمع وقوة الدولة وطابعها الأموي والقومي. لو فعلت الندوة هذا، لكانت قدمت رؤى واقتراحات جديدة، ثرية وواقعية لم يسبق أن قدمت ما يماثلها ندوة عرفها العصر الحديث حول العروبة وسبل خروج العرب من مأزقهم الشامل. لكنها لم تفعل ذلك، فبقيت علاقة العروبة بالديمقراطية برانية، رغم القول الصحيح نسبيا والمتكرر حول حاجة العروبة إلى الديمقراطية، والديمقراطية إلى العروبة، وظل الفصل قائما بينهما، لدى قسم كبير من المتحدثين.
عشنا طيلة قرابة نصف قرن حقبة ‘قومية ‘وعدتنا بالوحدة والحرية والاشتراكية، لكنها فشلت في تحقيق أي وعد من وعودها، لذلك قال المتحدثون في الندوة أنه لم يعد لعروبتها أي أفق مستقبلي، وأحجم جميع مثقفي العرب، الذين تقاطروا إلى ندوة دمشق عن الدفاع عنها أو عن تجربتها، وعن إعلان انتمائه إليها، وأتت محاولات تجديد الفكرة العربية، التي عرضت في الندوة من خارجها، وغالبا ضدها. إذا استمرت هذه العروبة، لن يبقى أي مكان لأية عروبة في مستقبل العرب، أو لن يبقى أي مستقبل للعرب: هذا ما قاله الجميع بألف تلميح وإشارة وصيغة، وفيه ما فيه من دلالات لمن يفهمون!.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي