انعكاسات هجرة الجزيرة : تركوا مدارسهم وهجروا منازلهم الى مصير مجهول!
كمال شيخو
هي حال الفارين من الجزيرة, هجروا على شكل جماعات, بعد ان ضاقت بهم الحياة, لا يعرفون الى أين يتجهون, همهم تأمين لقمة عيشهم والحصول على خيمة تأويهم وتستر عليهم, حالهم صعبة, يعيشون حياة يومية قاسية يندر فيها الأكل والماء النظيف, حياتهم أشبه بحياة المشردين.
انعكاسات الهجرة على النازحين:
تقول الدكتورة هناء برقاوي وهي أستاذة في قسم علم الاجتماع بجامعة دمشق: تعرف الهجرة عامة الانتقال من مكان الى أخر طلبا لتغير الواقع الذي يعيش فيه الفرد, الى أماكن تتوفر فيها الأساليب والإمكانيات اللائقة لعيش كريم, فالعامل الاقتصادي أساس حركة السكان. ونتيجة التبدلات المناخية اجتاحت موجة جفاف المناطق الشرقية-الشمالية, ونتج عنها هجرات أخذت شكلين:
الأولى: هجرة منفصلة كهجرة كل من لديه القدرة على العمل وبقاء كبار السن وممن ليس لديهم القدرة على العمل في الموطن الأصلي. الثانية: هجرة جماعية متصلة وهي هجرة كامل أفراد الأسرة.
فالمهاجر لجأ الى النزوح بعد ان أجبرته الظروف على ترك مدينته, وقصد مدينة أخرى للبحث عن فرص جديدة للعمل, وتنعكس هذه الظروف الاجتماعية والنفسية والانفعالية بشكل سلبي على حياة المهاجرين, لان هناك وشائج تربط هؤلاء بموطنهم الأصلي ولاسيما المنزل الذي يعد لأي شخص وطن, لان الوطن هو البيت الكبير, هؤلاء تركوا منازلهم بعد بقوا سنين لبنائه, كما ان البيئة الاجتماعية التي تربط بين الأسر المهاجرة من الأقارب والأصدقاء فقدت تلك الروابط والوشائج الاجتماعية التي كانت تربط الجميع.
وأشار تقرير بعثة منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) الى المناطق الشرقية-الشمالية ” السكان يعانون من عدم القدرة على الحصول على ماء نظيف، ويتوجّب عليهم أن يشتروا الماء، يسبّب سوء تغذية ومشكلات صحية للأطفال والنساء الحوامل، باعتبار أنّهم يعانون بشكل مضاعف، حيث تكثر الأمراض، مثل الإسهال، والأمراض التنفسية، وأمراض الكلية. كما زادت معدّلات زيارات السكان إلى المراكز الصحية، مشيراً إلى أنّ هذه المراكز مجهّزة بشكلٍ ضعيف، ولديها كميّات محدودة من الدواء، أو أنّها غير موجودة أصلاً. ومن أسف، أصاب هذا الوضع التعليم الأساسي للأطفال أيضاً، كما تشير إلى ذلك معدّلات التسرّب من المدرسة التي صارت أعلى. بحسب تقديرات البعثة، فإنّ الجفاف أصاب حوالي 160.000 عائلة قروية (حوالي1.3 مليون نسمة)، من بينها 75.641 عائلة (803.162 نسمة) أصيبوا بشدّة، ويمكن اعتبارهم من الفئة الحسّاسة للغاية ”
وتتابع الدكتورة هناء برقاوي: لا نستطيع ان نقيس حياة هؤلاء المهاجرين بحياة البدو الرحل. لأن الأخيرة اعتادوا الترحال من مكان الى آخر ولا يوجد لديهم مكان مستقر لان مصير استقرارهم مرتبط باستقرار ماشيتهم لأنهم يبحثون عن الكلأ والماء لتلك المواشي, والحالة تختلف هنا لان هؤلاء المهاجرين حديثا اعتادوا على حياة الاستقرار والسكن في منزل له سقف وجدران, لذلك يعانون من حالة نفسية صعبة جدا ولاسيما أنهم استقروا في خيم هي أشبه بمنازل. فكل أفراد العائلة يقطنون مساحة واحدة وصغيرة بعدما اعتادوا على الحرية في المنزل الذي تركوه في وطنهم الأصلي. فالخيمة تعني لنا في حياتنا المدنية الترفيه, فنحن نقوم برحالات كشافة او بغرض السفر الى احد الأماكن السياحية, فنصطحب معنا خيمة لنصبها والبقاء فيها ولكن ليوم او يومين, لأننا في بعض الأوقات نحتاج الى تغير الجو العام بشكل مؤقت. فعندما نتخيل ان هناك عائلة كاملة –رب الأسرة والزوجة والأبناء- ينامون فيها جميعا ويستقرون في تلك الخيمة وبشكل دائم وتصبح لهم الملاذ الوحيد, نعلم تمام وقتها ان حياتهم صعبة جدا. كما يفقد فيها كل أفراد الأسرة خصوصيتهم كون الخيمة ضيقة جدا, وأصبحت لهم الوطن الجديد وهي تقضي كل حاجياتهم من نوم وطبخ وغسيل واستراحة…الخ
زيادة نسبة تسرب التلاميذ من المدارس:
بسمة طفلة تبلغ من العمر 12 عاما, كانت متفوقة في دراستها, الا أنها بسبب هجرة أهلها تركت المدرسة رغما عنها, بعد ان وصلت الى الصف الرابع الابتدائي, تؤكد والدة بسمة أنها كانت تحصل على الامتياز دائما في المواد الأدبية الحفظية كالعربي والنشيد, لأنها كانت تحب الأناشيد وتحفظه, ولكن الظروف أجبرتها ان تعمل في الحقل مع أخوتها لتامين مستلزمات عائلتها, بعد ان ضاقت بهم الحياة في قريتهم ( 47 تبعد عن الحسكة 47 كلم باتجاه الجنوب) فهذه القرية كل اعتمادها على الزراعة البعلية وفي السنوات الأخيرة اجتاحت موجة من الجفاف مناطقهم مما أجبرهم على تركها.
وأصدرت مديرية التربية في محافظة الحسكة مؤخرا تقريرا يذكر فيه أن عدد التلاميذ المتسربين للعام الدراسي 2009-2010 بلغ 8074 تلميذا وتلميذة. منهم 3191 في الحلقة الأولى و4883 متسربا من الحلقة الثانية. وكانت أعلى نسبة من المتسربين في المناطق الجنوبية من محافظة الحسكة. كما أغلقت المديرية حوالي 24 مدرسة، كما تم دمج العديد من المدارس مع بعضها في الأرياف نتيجة ازدياد معدّلات التسرّب المرتفع الناتج عن هجرة الأهالي واصطحابهم أولادهم إلى خارج مناطقهم المحلية.
وعن ارتفاع معدلات التسرب المدرسي في الحسكة, تتابع الدكتورة هناء برقاوي كلامها: نتيجة هجرة الأسرة بشكل كامل من مناطقهم الأصلية الى الإمكان التي قصدونها طلبا للعيش, سينقطع الأبناء عن مدارسهم لسفرهم مع أهاليهم. وحتى بعد انتقالهم قد لا يلتحقون بالدوام المدرسي, نتيجة الأعباء المادية التي ترهق الأسرة كونها تؤمن لقمة العيش فقط, مما يؤدي ازدياد أعداد المتسربين من المدارس, وللعدة عوامل اقتصادية واجتماعية لا يرغب هؤلاء الاطفال في الدراسة مما ينعكس سلبا على حالتهم النفسية والاندفاعية في التعلم.
وتضيف الدكتورة هناء: يشكل العائد المادي جزء من الاستقرار لأي أسرة مؤلفة من عدد من الإفراد, الا ان الاستقرار الكامل لهذه الأسرة هو بقاء معيل الأسرة معهم, فاغلب الحالات المهاجرة هو سفر رب الأسرة فقط للبحث عن فرصة عمل جديدة لتامين قوت أسرته, لذلك تفقد تلك الأسرة الحميمة بين أفرادها. ويواجه المهاجرين صعوبات عديدة في الحياة الجديدة ولاسيما العامل الذي يشعر بحالة غربة في المكان الجديد وفي عمله الجديد كونه هاجر نتيجة الظروف الصعبة التي اجتاحت المناطق الشرقية-الشمالية, اي انها هجرة إجبارية وليست اختياره, مما شكل لديه حالة من الغربة انعكست على نفسيته ورافقته بشكل دائم. وهو محكوم بالبقاء الى ان تتحسن الظروف في منطقته, مما يزيد من سوء في حالته هذه.
غياب الخطط التنموية في الجزيرة وضعف استقطاب الاستثمار:
من جانبها أشارت المهندسة بلسم ناصر عضو مكتب التنمية الزراعية في الاتحاد العام لنقابة العمال بدمشق, الى الدور الحيوي لاتحاد نقابة العمال في وضع حلول لهذه المشاكل المتفاقمة وإنعاش لخطط تنموية جديدة في تلك المناطق, وتقول: اقترحنا ان يبادر الاتحاد العام لنقابة العمال المشاركة بوضع بدائل كإنشاء مصانع ومعامل لتصنيع الحليب ومنتجاته او معامل الأعلاف وتشجيع الصناعات الزراعية لان الواقع الاقتصادي في سورية يقول ان الزراعة هي قاطرة التنمية. كما يجب على المنظمات الشعبية لعب دور الاستثمار في هذا القطاع باستثمار أموالها في مجال التنمية الاقتصادي الزراعية, بدلا من استثمارها في مشاريع الترفيه وبناء الشاليهات, وحث الحكومة ومشاركتها على أحداث مناطق صناعية جديدة في المناطق الشرقية-الشمالية, للحد من ظاهرة الهجرة من الريف الى المدينة, والعمل على نقل المدينة بخدماتها الى الريف, كما يجب من الضرورة العمل على وضع سياسات زراعية يساهم فيها رأس المال مع الخبرة والمعرفة العلمية لدعم هذا القطاع الحيوي القادر على أيجاد فرص كبيرة لتشغيل اليد العاملة غير الفنية والمهنية.
وعن ضعف الاستثمار في المناطق الشرقية-الشمالية, علل الدكتور مصطفى عبد الله الفكري عميد كلية الاقتصاد والتجارة بجامعة دمشق, ضعف الاستثمار الأجنبي وحتى المحلي في المناطق الشرقية- الشمالية عامة الى ان المستثمر يبحث عن مكان يتوفر فيه الشروط الآتية: تواجد المواد الأولية مع توفر اليد العاملة بالإضافة الى قرب المنتج من سوق التصدير. وتتركز القوة العاملة السكانية في العاصمة دمشق وريفها ومحافظة حلب, وهذه المناطق الثلاث تستحوذ على 65% من نسبة الاستثمارات الأجنبية في سوريا, وباقي المحافظات لا تستحوذ الا على 35% من أجمالي حجم رأس المال الأجنبي.
وتضيف النقابية بلسم ناصر: يجب ترشيد رأس المال للاستثمار في قطاع الزراعة لتامين احتياجات الدولة من القمح يستوجب عليه توفر كافة الاحتياجات التي يتطلبها زراعة الفلاح للقمح وتوفر البذار في مؤسسة الإكثار وبأسعار منافسة, والتنسيق بين مكاتب استلام القمح ومكتب الحبوب والدوائر المختصة على استلام هذا المنتج من أصحابه وبأسعار مناسبة لهم للاستفادة منه. كما يجب العمل على تشجيع الفلاحين على زراعة مواسم وأصناف جديدة, من بينها الكمون التي تشكل مصدر هام لاستقطاب الرأس المال الأجنبي والتي تصل صادراته سنويا الى 6 مليار ليرة سوري, كما يتميز هذا المنتج بتشغيل عدد كبير من اليد العاملة, فالمطلوب اذا تفعيل دور هيئة البحوث الزراعية وغيرها من المؤسسات البحثية والاهتمام بها ودعمها لأنها ترشدنا الى السياسات الصحيحة في هذا القطاع.
مواقف نبيلة رغم سوء حالهم:
ينتمي قسم كبير من السكان الذين تركوا مناطقهم نتيجة موجات الجفاف والقحط المتتالية, الى الطبقات الوسطى, وكان بعضهم ملاكي أراضي وأصحاب أعداد كبيرة من المواشي, الا ان سوء الأحوال في مناطقهم, أجبرهم على الرحيل منها.
ابو سمير من قرية كشكش التابعة لمنطقة الشدادي جنوب الحسكة, كان لديه حوالي 100 رأس غنم, كان يعيش هو وعائلته على هذا المورد الرئيسي, وكان يجني لهم دخلا جيدا, وبعد التبدلات المناخية التي أثرت على المنطقة عامة, أصبح يبيع مواشيه على دفعات, ولم يتبقى منها أي شيء.
يصف ابو سمير حالته بالقول: اربي الأغنام منذ سنين, فهذه كانت مهنة أبي وجدي, وأنا بدوري ورثت هذا العمل منهم, لدينا خبرة جيدة بتربية المواشي, وكانت تؤمن لنا حياة كريمة, الى ان أصابت منطقتنا الجفاف والقحط, وأثرت على مراعينا ولم يعد بمقدورنا تربيتها, لارتفاع أسعار الأعلاف وغلاء المواصلات لأننا بحاجة الى التنقل من مكان الى آخر بشكل دائم, فأجبرنا على بيعها كاملة, وهاجرنا انا وعائلتي الى دمشق للحصول على عمل جديد, الا انه لم يحالفنا الحظ الا العمل في الزراعة, وهذا العمل لا يحتاج الى خبرة.
وعن الهدف الرئيسي لهذه الهجرة الجماعية يقول ابو سمير: قررنا الهجرة انا وعائلتي كاملة لسبب واحد فقط, اذا بقينا في قريتنا بدون عمل فكيف سنعيش؛ أما سنلجأ الى السرقة ونصبح قاطعي طريق, او سنقوم بأعمال أخرى منافية لقواعدنا الاجتماعية, لذلك فضلنا الرحيل لنصون كرامتنا. ولست انا الوحيد فاغلب سكان القرية هاجروا, بعضهم جاء الى هنا والبعض الأخر سافر الى الأردن, ولم يبقى فيها الا من لديه وظيفة او ابن في دولة خليجية.
ويشير التقرير الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبالتعاون مع هيئة تخطيط الدولة, ان نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر في سورية هي 11.4% فقط, الا ان هناك تقارير صدرت مؤخرا عن مديرية الزراعة في محافظة الحسكة, تشير الى ارتفاع نسبة الفقر في المحافظة حيث بلغت حوالي 80% في الأعوام الأخيرة بدءا من العام 2007 الى الآن.
وعن سوء حال السكان في تلك المناطق, يشير تقرير الفاو: ” لقد أثّر الوضع الناشئ، بشكل فعلي، في مقدرة السكان المتضرّرين من الجفاف على الإيفاء بحاجات أسرهم من الغذاء، وعلى مقدرتهم على الاستمرار أو استعادة معيشتهم، وبالتالي أصبحت الوجبة اليومية للأسرة أكثر صغراً ممّا كانت عليه قبل الجفاف». ويفيد تقرير البعثة، بأنّ أكثر من 80 % من الأسر التي زارتها البعثة، تعتمد على الخبز والشاي المحلي بشكل خاص لسدّ حاجاتها الغذائية (أي تعادل فقط 42 % من إجمالي 2100 سعرة حرارية في اليوم)، دون أيّ استهلاك للفواكه ”
الفارين من الجفاف بالرغم من سوء أحوالهم المعاشية وصعوبة حياتهم, فضلوا هذه الواقع على ان ينحرفوا ويزاولوا أعمال منافية لضوابطنا الاجتماعية, وهم يعلمون جيدا ان الوضع الاقتصادي المتردي هو السبب الأساسي لانتشار الجريمة في المجتمع, لذلك فضلوا العمل بنصف الأجر والسكن في الخيم, لصون كرامتهم. هذه الموقف النبيلة من أناس بسطاء؛ الا يستحق النظر فيها من قبل المعنيين, وان تعمل الحكومة على حل أزمتهم!!
كلنا شركاء