رحيل جوزيه ساراماغو
توفي الكاتب جوزيه ساراماغو البرتغالي الاول الذي يفوز بجائزة نوبل للآداب، على رغم أن شعبيته في بلاده حدَّ منها تأييده المطلق للشيوعية، فضلا عن اسلوبه الجريء وفي بعض الاحيان كتابته النثرية الصعبة.
وأعلنت “مؤسسة جوزيه ساراماغو” ان الكاتب توفي عن 87 سنة في منزله بلانزاروت في جزر الكناري الاسبانية، بعد صراع طويل مع المرض. وأضافت انه قضى بهدوء وسط عائلته.
وكان ساراماغو رجلا صريحا، الامر الذي جلب له عداوة كثيرين، وقد انتقل الى جزر الكناري بعد جدل علني عام 1992 مع الحكومة البرتغالية التي اتهمها بممارسة الرقابة عليه.
ومع ذلك، قوبل منحه جائزة نوبل عام 1998 باحتفاء واسع في موطنه. وكانت هذه المرة الاولى تعطى الجائزة لكاتب ناطق البرتغالية التي يتحدث بها 170 مليون شخص في أنحاء العالم.
وصرح في مقابلة مع “الاسوشيتدبرس” عام 1998: “لقد اعتاد الناس ان يقولوا عني، انه جيد لكنه شيوعي، والان يقولون انه شيوعي لكنه جيد.
وعلق رئيس الوزراء البرتغالي جوزيه سوكراتس على وفاة الكاتب بأن ساراماغو “كان واحدا من شخصياتنا الثقافية العظيمة وغيابه جعل ثقافتنا أفقر”.
ولد في 16 تشرين الثاني 1922 في مدينة أزينهاغا قرب لشبونة وترعرع في العاصمة. ولأنه كان يتحدر من عائلة فقيرة، لم يكمل دراسته الجامعية، لكنه استمر في الدراسة واعالة نفسه من عمله في التعدين.
وكانت “مدينة الخطيئة” عام 1947 الرواية الاولى لساراماغو، وهي عبارة عن قصة عن فلاحين يعيشون أزمة أخلاقية. ولم تحقق هذه الرواية مبيعا جيدا، لكنها كانت كافية كي يقفز من العمل في محل للحام الى العمل في مجلة أدبية. بيد أنه في السنوات الـ18 التي تلت روايته الاولى، لم ينشر ساراماغو سوى القليل من الكتب التي تناولت رحلاته، فضلا عن الشعر، فيما كان يعمل صحافيا. ولم يعد إلى كتابة الرواية إلا بعد أربعة عقود عقب إطاحة الديكتاتور انطونيو سالازار بانتفاضة عسكرية عام 1974.
ولم تعم شهرة ساراماغو العالمية إلا في وقت متأخر من حياته بدءاً برواية “ميموريال دو كونفنتو” التي نشرت بالانكليزية عام 1988 بعنوان “بالتاسار وبليموندا”. وتعود أحداث الرواية الى حقبة محاكم التفتيش وتستكشف الصراع بين الأفراد والمؤسسة الدينية، وتدل على فكرة ساراماغو المتكررة عن الصراع ضد السلطة. وقد طفا هذا الصراع على السطح بجدل ساخن عام 1992 مع وكيل وزارة الثقافة البرتغالي عامذاك انطونيو سوسا لارا، الأمر الذي دفع الكاتب الى الانتقال الى جزر الكناري الاسبانية قبالة شمال غرب أفريقيا.
وحذف لارا اسم ساراماغو من المرشحين البرتغاليين لنيل جوائز أدبية أوروبية. واعتبر المسؤول البرتغالي ان رواية “الانجيل بحسب يسوع المسيح” لساراماغو عام 1991 تتضمن اهانة للمعتقدات الدينية للشعب البرتغالي وتوجد انقساماً في هذا البلد الكاثوليكي. وجاء في الرواية ان المسيح عاش مع مريم المجدلية وانه تردد في المضي الى الصلب.
ومنذ الثمانينات يعتبر ساراماغو واحداً من افضل الكتاب البرتغاليين المعاصرين. وقد ترجمت رواياته الى اكثر من 20 لغة.
وأثارت جرأته عاصفة احتجاج عام 2002 عندما قارن خلال زيارة له لرام الله في الضفة الغربية، المدينة التي كان يحاصرها الجيش الاسرائيلي عامذاك بما كان يجري في معسكرات النازيين في اوشفيتز وبوخنفالد.
لكن الناجين من المحرقة ومثقفين بينهم يساريون معارضون بشدة لسياسة الحكومة الاسرائيلية حيال الفلسطينيين، نددوا بتصريح ساراماغو، واصفين إياه بأنه خاطئ ومعاد للسامية.
وكان يقارن مراراً بالكاتب الكولومبي غبريال غارسيا ماركيز. وكثيراً ما وصفت كتاباته بأنها واقعية متأثرة بصوفية أميركية – لاتينية وخصوصاً لأسلوبه في المواجهة التي يقيمها بين شخصيات تاريخية وأخرى خيالية.
وأصدر ساراماغو نحو 20 كتاباً بينها “وجيز الرسم والخط” (1976) و”ليفنتادو دوتشار” (1980) و”سنة موت ريكاردوس” (1984) و”قصة حصار لشبونة” 1989) و”العمى” (1995) و”كل الأسماء” (2002) و”سنة موت ريكاردو ريس” (1999).
(أ ب، أ ش أ)
ساراماغو… الكاتب الاشكالي: لأنـّي لم أبرع في كتابة المقالات لجأت الى الرواية
فوزي محيدلي
ما الذي جعل خوسيه ساراماغو ذاك الطود الأدبي الذي شغل عالم الرواية في الربع الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من الواحد والعشرين؟ أهي فادته الستينية المتأخرة، وهو عجوز الى عالم الرواية ام ان السبب اسلوبه التجريبي الذي تمتد جملته أحيانا من صفحة كاملة؟ أم لعلها علمانيته التي وضعته ذات يوم في مواجهة مع صحافة الفاتيكان؟ أم لعل ذلك يكمن في دفاعه عن الضعفاء المضطهدين في العالم أمثال الشعب الفلسطيني حتى رمي باللاسامية؟
ساراماغو الذي شغل الأوساط الأدبية والسياسية والدينية في حياته انقسم الناس في آرائهم فيه فيه حتى في مأتمه!
اذن، رحل في منتصف حزيران الروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو الذي مزجت أعماله بين الأسطورة، وتاريخ بلاده والمخيلة السيريالية. وهذا الذي رحل عن 87 عاماً نال جائزة نوبل لعام 1998.
ولد خوسيه ساراماغو عام 1922 في عائلة متواضعة من الفلاحين الذين لا يملكون قطعة أرض، وذلك في قرية صغيرة على الضفة اليمنى من نهر الموندا وعلى مسافة مئة كيلومتر شمالي شرقي لشبونة. ولم يعرف اسمه الكامل حتى السابعة من عمره حين طلب منه تقديم وثيقة هوية في المدرسة الابتدائية. والاسم هو خوسيه دي سوسا ساراماغو..
أظهر الصبي اجتهاداً لا بأس به في المدرسة الابتدائية حتى انه بدأ يكتب دون أخطاء املائية في الصف الابتدائي الثاني، أما الصفان اثالث والرابع فأتمهما في سنة واحدة من ثم نقل الى مدرسة تكميلية لمدة سنتين، وتخلى من ثم عن الدراسية الثانوية ليتعلم، لأسباب مادية، مهنة الميكانيكي.
بعد تعاقبه على مهن مختلفة، عمل لدار نشر على مدار 12 عاماً ومن ثم عمل في الصحف فبلغ في أحداها منصب مساعد رئيس التحرير، وهو منصب أجبر على تركه بعد الأحداث السياسية في تشرين الثاني عام 1975.
عام 1947 ومع ولادة ابنته فيولانت (لم يرزق غيرها) ونشر روايته الأولى التي اعطاها عنوان “الأرملة” ولكنها ظهرت لوداع الناشر تحت عنوان “ارض الخطيئة”. وكتب رواية ثانية، “المنور”، يقال لم تنشر حتى الان، ومن ثم بدأ بكتابة أخرى لكن دون ان يتمكن من تخطي الصفحات الأولى حين قرر انه لا شيء عنده يستحق ان يقال. وبقي غائباً عن المشهد الأول طوال 19 سنة حين نشر ديوانه “قصائد ممكنة”. اعقب ذلك ديوان “فرح على الأرجح” في عام 1970 وفي عامي 1971 و1973 صدر له كتابا مقالات في الصحف اعتبرهما النقاد ضروريات لفهم افضل لأعماله اللاحقة.
بدأ عام 1955 وبهدف دعم ميزانية العائلة وبسبب حبه ايضا لهذه الحرفة ترجمة الكتب في أوقات فراغه، واستمر ذلك معه حتى 1981. ترجم ساراماغو بكل من موباسان، تولسنري، بودلير، هيغل.. من ثم استقبل بين 1967 و1968 للعمل كناقد أدبي. وفي عام 1969 انضم الى الحزب الشيوعي المحظور، لكنه حافظ خلال انتسابه على الاحتفاظ برأي نقدي للأمور، بين عامي 1957 و1980 دعم ساراماغو نفسه مادياً بعمل الترجمة من جديد، لكن مع نجاحاته الأدبية في الثمانينات من القرن العشرين كرس نفسه لكتابته الخاصة فقط.
صرح في عام 2002 حين قام مع كتاب آخرين بزيارة الضفة الغربية المحتلة، بأن اسرائيل متهمة “بجريمة تعتبرها في نفس مستوى ما حدث في اوستويتز لليهود. وقال لاحقاً على انه اتى على ذكر تلك المحرقة لاثارة رد من الاسرائيليين.
حين أحرز ساراماغو جائزة نوبل للآداب قالت صحيفة الفاتيكان ان الجائزة “ذات توجه ايديولوجي”، ربما بسبب رواية ساراماغو” الانجيل تبعاً ليسوع المسيح” التي اعتبرتها ايضا الحكومة البرتغالية عام 1991 مهينة للكاثوليك. وقد أدى قرار الحكومة لان يترك ساراماغو وزوجته الصحفية بيلار ديل ريو البرتغال والعيش في جزر الكناري، حيث استقر لبقية عمره..
أسلوبه
امتدحت لجنة نوبل “نثره المتعدد الأوجه”، و”غنى المخيلة عنده” وجو اللاواقعية المنسوج بمهارة في اعماله.
تميزت كتابته باستعمال الجمل الطويلة والقليل جداً من علامات الوقف والشيء الكثير من الاستطراد لوصف الطبيعة البشرية، لعلني كاتب مقالة الذي لعدم معرفته بكيفية كتابة المقالات يكتب بدلا منها الروايات”، حسبما صرح للغارديان عام 2002.
ولعل الناقد الكبير هارولد بلودم قد أولى ساراماغو حبه حين قال فيه انه “أكثر الكتاب المؤثرين الذين هم على قيد الحياة، والذي يتفوق على كل الكتاب الأميركيين والأوروبيين ايضاً.
ولا بد من الاشارة لدى التحدث عن اسلوب ساراماغو المتميز الى ان العديد من فقراته يمتد لصفحات دون توقف خدمة للحوار الذي اختار الا يحده بعلامات الاقتباس ومع تغير المتكلم يعمل ساراماغو على استعمال الحرف الكبير لبداية كلامه. واللافت ان عمله الجديد يشير او يأتي على ذكر أعماله الأخرى. في روايته الشهيرة “عمى” يتخلى ساراماغو تماماً عن اسماء العلم مختاراً الاشارة الى الشخصيات بميزة فريدة لديها، وهذا مثال على استعماله الأسلوب لتعزيز المواضيع المتواترة لديه الخاصة بالهوية فضلا عن المعنى المتضمن.
مواضيعه
تتعامل روايات ساراماغو مع سيناريوات مذهلة من مثل ذلك الوارد في روايته “الطوف الحجري” (1986) حيث شبه الجزيرة الايبيرية تنفصل عن باقي أوروبا مبحرة عبر المحيط الأطلسي. أما روايته “عمى” (1995) فثمة بلد غير مسمى يصاب بكليته بوباء غامض من “العمى الأبيض”، اما روايته “الموت على فترات” فتحكي قصة بلد لا يموت فيه أحد على مدار سبعة اشهر ابتداء من رأس السنة وتحكي كذلك كيفية تفاعل البلد مع المضامين الروحية والسياسية لهذا الحدث.
استعمال ساراماغو لمواضيع متخيلة كهذه يمكنه من تناول المسائل الأخطر، بل لنقل الأكثر جدية، مع تعاطف حالة بني البشر وشيء من الشفقة على عزلة الحياة المعاصرة الحضرية. تكافح شخصياته وتتصارع مع حاجاتها للتواصل ولتشكيل علاقات وروابط خاصة بالجماعة. كما وتكافح من أجل الحاجة الى الفردية ولايجاد معنى وكرامة للانسان خارج البنى السياسية والاقتصادية.
ولا بد من الذكر ان العديد من روايات ساراماغو لثمانينات القرن العشرين نقبت في حقب من التاريخ البرتغالي منها رواية “بالتلسار وبلماندا، قصة حب في بداية القرن الثامن عشر ورواية حصار لشبونة التي تحكي قصة مراجع نصوص لدى ناشر يكتب تاريخ فتح لشبونة في القرن الثاني عشر.
مجمل القول يلخصه كلام أحد النقاد البرتغاليين: “يتكلم ساراماغو عن مواضيع ذات اهتمام انساني عام ويعالج المواضيع الاجتماعية، الحب، الوله، العلم. انه يذهب الى ابعد من مشاكل البرتغال متناولاً مشاكل عالمية ذات ابعاد شاملة.
امتداد الخلاف الى الجنازة
يقال بأن ساراماغو تناول طعام الفطور صباح الجمعة 18 حزيران وتبادل أطراف الحديث مع زوجته قبل ان يستسلم لمرضه.
أعلنت البرتغال يومين من الحداد على الكاتب الكبير وقد رثته شخصيات سياسية عالمية من مثل لولا داسيلفا (البرازيل)، برنارد كوشنير (فرنسا) وزاباتارو (اسبانيا) كما ارسل اكاليل ورد كل من فيديل وراؤول كاسترو. أما صحيفة الفاتيكان لا اوسيرفاتور رومانو” فكتبت يوم الاحد عن ساراماغو “ايديولوجي معاد للدين”.
اقيمت جنازة ساراماغو في العشرين من حزيران لعام 2010 في حضور أكثر من عشرين الف شخص قدموا من بعد مئات الكيلومترات، الا ان الغائب الأكبر كان رئيس البرتغال آنيبال كافاكو سيلفا. وحين سئل سيلفا عن سبب عدم حضوره الجنازة قال انه “لم يكن له شرف معرفته” مع انه كما رئيس وزراء البلاد حين منعت الحكومة ترشيح رواية “الانجيل تبعاً ليسوع المسيح” لنيل الجائزة الأدبية الأوروبية”.
المستقبل
فاصلـة جعلـت سـاراماغـو كاتبـاً كبيـراً
اسكندر حبش
لم تكن هناك، في البداية، فكرة ما، جعلت من الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو الذي غيبه الموت نهار أمس عن 87 عاما، روائيا، بل إنّ فاصلة ـ نعم فاصلة ـ هي التي جعلت منه كاتبا كبيرا وشهيرا. ففي بداية ثمانينيات القرن المنصرم، وكان تخطى الخمسين من عمره، حاول أن يكتب رواية حول فلاحي منطقة «الألنتيجو»، مسقط رأسه في البرتغال، ليجد أسلوبه الذي ميّزه.
حول هذه القصة، قال مرّة في أحد أحاديثه الصحافية: «كنت أكتب رواية مثل الآخرين، وفجأة، وعند وصولي إلى الصفحة الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين، ومن دون أن أنتبه أو أفكر، من دون أن أتخذ قرارا، بدأت أكتب بالطريقة التي أصبحت أسلوبي الخاص في أن أروي، أي في هذه الطريقة التي تجمع بين الأسلوب المباشر وغير المباشر، التي تعتمد على إلغاء علامات التنقيط المقتصرة على النقطة والفاصلة. أعتقد أن هذا الكتاب لم يكن ليولد لو لم ينطلق من شيء سمعته. كان عليّ أن أجد النبرة، طريقة في نقل الإيقاع، موسيقى الكلمة التي نتفوه بها كما تلك التي نكتبها، لذلك أعدت كتابة الصفحات التي كنت سودتها».
بعد محاولة أولى غير مثمرة في أربعينيات القرن الماضي، وبعد رواية ثانية في منتصف السبعينيات، عاد ساراماغو (الذي يعتبر لغاية اليوم، الكاتب الوحيد، الذي حاز نوبل للآداب (عام 1998)، من الذين يكتبون بالبرتغالية) ليجد أسلوبه، في بداية الثمانينيات. وكان مفتاح هذا «القفل
الأسلوبي» التالي: تذوب حوارات ساراماغو في كتلة من النثر السميك. أي نجده يشير إليها بفاصلة، يتبعها حرف كبير (lettre Majuscule) ليشير إلى أن المتحدث أصبح شخصا آخر. تمخضت عن كلّ ذلك، روايات متعددة الأصوات، روايات «متاهية» (من متاهة) مثلما وجدنا ذلك في روايات «الإله الأكتع» و«سنة موت ريكاردو رييش» و«قصــة حصار لشبونة» (ترجمت الأخيرتان إلى العربية).
تتشابك الأصوات في روايات جوزيه ساراماغو لتشبه بذلك الأوبرا الموسيقية. فأصوات الشخصيات المتعددة تتطابق في مرحلة أولى لتعود بعدها وتتقاطع مع صوت الراوي (الساخر في أغلب الأحيان) الذي يفرض هيمنته الكليّة، حين لا يكون هذا الفرض آتيا من «صوت الأعلى»، كما رأينا في رواية «الإنجيل كما يرويه المسيح». ثمة إشارة إلى هذه الطريقة، في روايته «الطوف الحجري»: «في مختلف الفنون، وبخاصة في فن الكتابة، فإن الطريق المؤدية بين نقطتين ـ حتى نقطتين قريبتين ـ لم تكن يوما ولن تكون هذا الخط المستقيم».
تطلب منه هذا الأمر زمنا طويلا كي يستطيع الوصول إليه، ولأنه نجح في ذلك بدأ يعالج بسهولة فنا روائيا مليئا بالدوران والالتفافات كما المعتمد بالأساس على فكرة روائية، ليأخذ عبره الاستعارات والمجازات إلى آخرها. وقد شرح ذلك في حوار صحافي بالقول: «أنا في حاجة إلى أن أسمع صوتا يقول لي إنني في طور الكتابة، لذلك يبدأ المحرك بالعمل وإلا لن أتقدم في عملي أبدا. كذلك أنا في حاجة إلى فكرة قوية. يمكنني أن أنتظرها لثلاثة أسابيع أو ثلاثة أشهر، هناك بعض الأفكار التي تطفو في الجو، وحين أجــد الفكــرة التــي أكــون فــي انتــظارها أعرفها فورا».
كلامه هذا، عن الفكرة، يحيلنا على روايات عدة من رواياته: «قصة حصار لشبونة»، وذلك «المصحح» الذي يتدخل في نص المخطوط ليبدّل تاريخا بأكمله. إلى قصة شبه الجزيرة الإيبيرية التي تنفصل عن أوروبا لتصبح جزيرة مستقلة قائمة بحد ذاتها كما في رواية «الطوف الحجري»، إلى يوسف الذي ينتحر بعد أن تؤرقه المجزرة التي ارتكبت بحق الأطفال الأبرياء («الإنجيل كما يرويه المســيح»)، إلى ذلك الصباح الذي يستيقظ فيه الجميع (أو كلهم تقريبا) ليكتشفوا أنهم أصبحوا من العميان (روايــة «العمى»). بمعنى آخر ثمة دائما، عند ساراماغو، تلك الأفكار (حتى وإن كانت «مفتعلة» إذا جاز التعبير) التي تخبرنا عن هذه «الحصة الغنيّة» العائدة إلى مخيّلة خصبة.
بيد أن شهرة ساراماغو الواسعة، لم تكن أدبية فقط، بل هناك دور كبير للسياسة فيها: فارتباطه اليساري (عضو في الحزب الشيوعي البرتغالي منذ العام 1969) ساهم أيضا في بلورة هذه الشهرة وبخاصة أنه كان واحدا من الذين حركوا «ثورة القرنفل» التي ألغت دكتاتورية سالازار في 25 نيسان من العام 1974. كما أنه لم يكتم يوما حذره من الوحدة الأوروبية التي هاجم فيها انزياحها الليبرالي. كذلك نجد معاداته للعولمة وهو أحد الذين صاغوا بيان بورتو أليغري. لكن النقاشات الواسعة التي كان بطلها معاداته الدائمة للكنيسة الكاثوليكية، كما تصريحاته ضد الدولة العبرية وما تقوم به ضد الفلسطينيين، من أنها تعيد إنتاج نازية جديدة، أثارت حنق عديدين لم يتوقف لغاية الآن.
جوزيه ساراماغو: وداعاً «أرض الخطيئة»
حسين بن حمزة
برحيل الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، يفقد عالمنا أحد أعذب الأصوات السرديّة في الرواية المعاصرة، وأحد أشرس المدافعين عن فكرة العدالة الإنسانية. إلى جوار مسيرته الروائية المتفردة، حافظ صاحب «تاريخ حصار لشبونة» على التزامٍ سياسي نبيلٍ ونادر تجاه القضايا والمشكلات التي عاصرها. خلط حامل «جائزة نوبل للآداب» (1998) بين الفانتازيا والواقع في أعماله. السياسة رافقت الكتابة وتداخلت مع مناخاتها. التاريخ المتخيّل صار مادة روائية صالحة للوقوف في وجه التاريخ الزائف الذي تكتبه السلطات السياسية والدينية. لم يفعل ذلك في الكتابة فقط، بل تحوّل ذلك إلى سيرة شخصية أدلى فيها بانتقادات لاذعة أثارت جهاتٍ عديدة ضده، وخصوصاً الكنيسة الكاثوليكية إثر صدور روايته «الإنجيل بحسب المسيح» (1991) التي أجرى فيها تعديلات على سيرة السيد المسيح أو «ملء الفراغات في سيرته»، بحسب تعبيره. أثارت الرواية سجالاً عنيفاً لم يتوقف مع المؤسسة الدينية حتى آخر أيامه. وكان آخر تصريح له بمناسبة صدور «قابيل» (2009) التي سخر فيها من قصة آدم وحواء، إذ وصف الكتاب المقدس بأنه «دليل للعادات السيئة»، وقال عن البابا بنديكيت السادس عشر بأنّه «يتحدث باسم الربّ لتعزيز توجهات القرون الوسطى».
جوزيه ساراماغو حافي القدمين يسكن الزمن المستعاد
خوسيه ساراماغو… الكتاب المنتظر
ميريلس/ ساراماغو: في مملكة العميان…
ولد ساراماغو عام 1922. نشر باكورته «أرض الخطيئة» عام 1947، ثمّ انتظر عشرين عاماً كي يعود إلى الكتابة بديوان حمل عنوان «أشعار محتملة». انتسب إلى «الحزب الشيوعي البرتغالي» المحظور عام 1969، وشارك في ثورة القرنفل التي أنهت ديكتاتورية نظام سلازار، لكنّه لم يحصل على الشهرة إلا حين بلغ الستين من عمره مع رواية «الإله الأكتع» (1982).
حظي صاحب «العمى» بحفاوة مستحقّة في العالم العربي. ليس فقط عبر ترجمة الكثير من أعماله إلى لغة الضاد، بل من خلال مواقفه الشجاعة، وأهمّها زيارته مع وفد من الكتّاب العالميين لرام الله، ومقارنته الوضع في فلسطين المحتلة بمعسكر أوشفيتز في حقبة ألمانيا النازية. موقف أثار غضب إسرائيل كالعادة، لكنّه فتح عيون العالم على الآلام الفلسطينية المستمرة برعاية أميركا وأوروبا.
غياب ساراماغو، بهذا المعنى، خسارةٌ للأدب وللضمير الإنساني معاً.
موت ساراموغو: وداعاً نحات الماس
باسم النبريص
أن يقال عن روائي أنه “شيوعي”، فهذا فأل سيء عند قارئ مثلي يبحث عن الفن والمتعة. فكلمة الشيوعية – في الأدب – تستتبع آلياً مصطلح “الواقعية الاشتراكية”. وهذا المصطلح بدوره، بما له من ظلال ستالينية جهمة، أوقع الكثير منا
في خيبات أمل متتالية، تكاد تصل، بل هي وصلت بالفعل إلى حدّ الكفّ عن قراءة رواد تلك المدرسة، منذ سبعينات القرن الماضي، وربما للأبد. غير أني على يقين، بأنّ هذه المقدمة القصيرة، تظلم روائياً مُعلّماً ومَعلماً، كوخسيه سراماغو، إذا قُرنت أو رُبطت باسمه وبإنجازه الفني الخارق، مهما كان ذلك الإقران أو الربط.
فالحق أنّ سراماغو، أبعد الأدباء الشيوعيين طُرّاً عن أيّ مُقتَرب أيدولوجي، إذا تعلّق الأمر بالفنون عموماً، وبفنَي الشعر والرواية، اللذين مارسهما باقتدار فريد، خصوصاً.
خوسيه سراماغو، شيوعي موقفاً، وموقفاً فقط. ولهذا بقي إلى آخر ومضة حياة في جسده، عضواً في الحزب الشيوعي البرتغالي. أما أدباً، فشأن آخر مختلف تماماً، ولا يشبه أحداً ولا يشبهه أحد من الكتاب الشيوعيين في أربعة أركان المعمورة.
هو “نسيج وحده” بالتعبير التراثي، ليس بين الروائيين الشيوعيين، بل بين كل روائيي ومبدعي زمانه. روائيّ فاتح سكك ومُختلق عوالم. له مثل آباء الرواية الكونية، مجرّة إبداع وتخييل خاصة به. وفي هذا السياق، لا أخاف لو قارنته بأبي الرواية دستويفسكي.
إبداعه الروائي نخبوي بامتياز، لذا فقارئه نخبوي بالضرورة. ومع أنه من أكثر روائيي عصرناً مبيعاً، فهو أيضاً، وذلك سرّ عبقريته الباذخة، كان وسيكون من أكثرهم استدامة وقراءة في المستقبل. لذا لا نبالغ لو تنبأنا له بالاستدامة، شأن مؤسس الرواية الحديثة وجَدّها: ثربانتس، وشأن أبيها: دستوفيسكي.
ومن حسن حظنا كقراء عرب، أنه مترجم ومتاح لنا، وعلى أيدي مترجمين أكفاء.
تبقى نقطة مهمة بخصوص الترجمة: سراماغو الشاعر لم يصلنا بعد. ونأمل أن يتصدى لهذه المهمة الجليلة والنبيلة، مترجمون شعراء وعن البرتغالية مباشرة – إن أمكن. أما بخصوص رواياته، فثمة ثلاث روايات مهمة، من إنتاجه الأخير، لم تُترجم بعد للعربية. وهي روايات عظيمة، كما قرأنا في الإعلام الثقافي وفي المتابعات.
إنّ لديّ حلماً عظيماً، أن يُترجم هذا المبدع العملاق كاملاً للعربية – شعراً ورواية ومقالات. فهو، إضافة إلى صفاته المعروفة والرائجة، متأمل عظيم وواحد من قلة من المتأملين على مستوى العالم، يتمتع بنفاذ روحي ومعرفي، قلما أُتيح لغيره.
إلى ذلك، لا أعرف روائياً ديموقراطياً مع قارئيه مثل سراماغو. لعلّه الوحيد الذي يترك في كل عمل فني له مساحة كبيرة لقرّائه، حتى ليبدو هذا من خصائص فنّه الروائي، ومن علاماته القارّة.
إنني حزين عليك يا سراماغو. فقد فاجأني خبر موتك في الشريط الإخباري بقناة الجزيرة، أثناء ما كنت أتابع فلماً وثائقياً عن زميلك خوان غويتيسيلو. يا للمفارقة! ظهرتْ صورتك في متن الفيلم، خلال زيارتكم لرام الله وغزة، وظهر اسمك في الشريط الدوار أسفلها مُقترناً برحيلك!
لقد عرفتكما معاً، وقابلتكما وأحببتكما، مع رفاقكم الآخرين، عندما زرتم غزة. واليوم، الجمعة 18 حزيران تموت، هناك في معتزلك بجزيرة لازاروتي، بعد قضاء ليلة هادئة.
بفقدك، خسرنا كفلسطينيين واحداً من أكبر أصدقائنا الأحرار. وضميراً ندر أن يوجد ضمير مثله إصغاءً وشرفاً ونزاهة.
كنت نحات ماس في الرواية والشعر، وصاحب مواقف لا يُبارى. لذلك فنم هادئاً مستريحاً:
لقد أتممت مهمتك على أكمل وجه، وإنّ أمثالك، أبداً .. لا يموتون.
خوسيه ساراماغو الروائي المدهش وضمير المثقف
فخري صالح
يعد الكاتب الراحل خوسيه ساراماغو (1922-2010) أعظم كاتب برتغالي معاصر على الإطلاق، إذ حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1998، وكان في سن السادسة والسبعين. وهو الكاتب البرتغالي الوحيد الحاصل على هذه الجائزة الكونية التي وضعته في مقدمة المشهد الروائي العالمي ونبهت القراء في عشرات اللغات إلى أهمية هذا الكاتب البارز الآتي من الجزء الأفقر من شبه الجزيرة الأيبيرية، إذ ترجمت رواياته إلى أكثر من خمس وعشرين لغة، من بينها العربية.
ولد خوسيه ساراماغو عام 1922 في قرية صغيرة تقع شمال لشبونة، تدعى أزيناغا، لعائلة من الفلاحين اضطرت بسبب الفقر أن تنزح إلى لشبونة. وبسبب فقر العائلة كذلك ترك ساراماغو تعليمه الثانوي ليعمل ميكانيكياً وصانع أقفال. وقد تنقل بين العديد من المهن والأعمال فعمل في دار للنشر مدة اثني عشر عاماً، وصحافياً، ومساعد محرر في إحدى دور النشر البرتغالية حيث أجبر عام 1975 على ترك عمله بسبب الأوضاع السياسية في البرتغال في شهر تشرين أول (أكتوبر) من ذلك العام. وكان الكاتب البرتغالي قد انضم إلى الحزب الشيوعي البرتغالي عام 1969.
بسبب هذه الأوضاع التي كانت تمر بها البرتغال عمل ساراماغو مترجماً ما بين عامي 1975 – 1980، ثم كرس وقته للكتابة بعد عام 1980 عندما بدأت شهرته الأدبية تتعدى حدود بلاده إلى لغات العالم المختلفة. وكان اسمه بدأ بالانتشار عالمياً بعد أن أصدر روايته «بالتازار وبيلموندا» عام 1982، وهي رواية تدور أحداثها في برتغال القرن الثامن عشر. نشر ساراماغو ما يزيد على ثلاثين كتاباً في الرواية والشعر والمسرح وكتب الرحلات والنقد والمقالات. لكن الشهرة التي حازها، ومنح استناداً إليها جائزة نوبل للآداب عام 1998، ترتكز بصورة أساسية إلى رواياته. وكان قد نشر أولى رواياته في الأربعينات، ولكنه أضطر بسبب الأوضاع السياسية في البرتغال، التي كان يحكمها دكتاتور البرتغال الشهير سالازار (1932 – 1968)، أن ينصرف إلى العمل لإعاشة نفسه وعائلته في ظروف كانت الدكتاتورية البرتغالية تمنع فيها نشر الكتب وتصادرها إذا لم يعجبها النهج السياسي لصاحبها. ولهذا تأخرت شهرة ساراماغو إلى الثمانينات، أي بعد سقوط النظام الدكتاتوري البرتغالي (1974) بسنوات عدة، وكان ثاني عمل روائي ينشره الكاتب هو «دليل فن الرسم والخط» (1977) الذي يبشر بأعماله المقبلة، وينسج مادته حول عملية ولادة ذات الفنان معتمداً في ذلك على السيرة الذاتية للكاتب وانطباعاته ورحلاته وتأملاته الشخصية حول الفرد والمجتمع. لكن الرواية التي لفتت الأنظار إليه حقاً هي روايته الملحمية «بالتازار وبيلموندا» (1982)، التي حولها المؤلف الموسيقي الإيطالي آزيو كورجي إلى أوبرا بعنوان «بيلموندا».
تدور أحداث «بالتازار وبيلموندا» في لشبونة عام 1711، أي في ذروة انتشار محاكم التفتيش في البرتغال، حيث يعود بالتازار (26 سنة) من المعركة، بعد أن فقد يده اليسرى، ليلتقي بيلموندا (19 سنة)، وهي فتاة يقوم المجتمع باتهام أمها بالهرطقة حيث تجلد على مرأى من الناس جميعاً ثم تُنفى الى أنغولا مدة ثماني سنوات. ويقوم بالتازار بمساعدة شخص آخر في بناء آلة طائرة يحلق فيها مع بيلموندا بين الواقع والخيال.
إن «بالتازار وبيلموندا» هي في نظر العديد من النقاد نص غني متعدد السطوح والمعاني يستخدم الخيال والرؤية الحدسية ليكشف عن المعاني التاريخية والاجتماعية والمنظور الشخصي لبرتغال القرن العشرين.
الرواية الثانية، التي ركزت الأضواء على موهبة ساراماغو الأدبية، هي «عام مصرع ريكاردو رييس» (1984). أحداث هذه الرواية تدور عام 1936 (أي أثناء حكم دكتاتور البرتغال سالازار)، والشخصية الرئيسية فيها هي قرين الشاعر البرتغالي المعروف فرناندو بيسوا حيث يعود القرين إلى البرتغال، قادماً من البرازيل، بعد وفاة بيسوا. وينسج ساراماغو مادة روايته بأسلوب الواقعية السحرية، مذكراً القارئ بأجواء كتاب أميركا اللاتينية مثل غابرييل غارسيا ماركيز وخورخي لويس بورخيس، حيث يتردد شبح فرناندو بيسوا الميت على الشخصية الرئيسية في الرواية. ونحن نعلم من سياق السرد أن شخصية الرواية الرئيسية هي نفسها من بين اختلاقات الشاعر الميت فرناندو بيسوا، ومع ذلك فـــــإن شبــــح الشاعــــر وقرينه الشخصي يتبادلان في صفحات هذا العمل تأمل الوجود وشروطه. وفي زيارة شبح بيسوا الأخيرة لقرينه يغادران، شبح الشاعر وقرينه، العالم الأرضي معاً.
«الطوف الحجري»، التي أصدرها الكاتب عام 1986، تحكي عن حدوث صدع في جبال البرانس يتسبب في انفصال شبه الجزيرة الأيبيرية (البرتغال واسبانيا) عن القارة الأوروبية حيث تتجه شبه الجزيرة إلى المحيط الأطلسي سابحة على غير هدى، وتعلن الجماعة الأوروبية عن عدم قدرتها على التعامل مع هذه الكارثة الجيولوجية فيسود الذعر بين السياح وقاطني المنطقة، وتشكل جماعة من سكان الجزيرة المبحرة في الأطلسي فريقاً يدعو إلى الخلاص الروحي والجسدي في عالم فقد سكانه السيطرة عليه. ومن الواضح أن هذه الحكاية، التي ينسجها ساراماغو بالأسلوب الواقعي السحري نفسه الذي استخدمه في روايتيه السابقتين، تثير مشكلة علاقة شبه الجزيرة الأيبيرية، والبرتغال خصوصاً، بالقارة الأوروبية والسلطة السياسية فيها حيث تبدو شبه الجزيرة الأيبيرية هامشية في حسابات الجماعة الأوروبية وخصوصاً في حسابات اللاعبين الكبار في هذه الجماعة.
في عمله الروائي التالي «تاريخ حصار لشبونة» (1989) يحكي حكاية رايموندو سيلفا، المصحح في إحدى دور النشر البرتغالية (ولنتذكر أن ساراماغو نفسه عمل فترة طويلة من الزمن مصححاً في إحدى دور النشر). حكاية سيلفا ذات سطوح عدة، فهو يقوم بتغيير تاريخ البرتغال والقارة الأوروبية معيداً كتابة هذا التاريخ من خلال تغيير المنظور في كتاب يسرد تاريخ حصار لشبونة عام 1147 ويقوم سيلفا بتصحيحه. إنه يضع كلمة «لا» في كل موضع ترد فيه كلمة «نعم» مغيراً مسار الأحداث في تاريخ الحصار.
الحكاية الأخرى في «تاريخ حصار لشبونة» هي حكاية المصحح نفسه، العازب ابن الخمسين سنة، مع محررة دار النشر، التي تصغره بخمسة عشر سنة. إن المصحح يكتب تاريخ حصار لشبونة، ويحكي في الوقت نفسه عن حصاره هو لحبيبته د. ماريا سارا، بحيث تتحول الحكاية إلى تأمل للتاريخ في ماضيه وحاضره، في العام منه والشخصي. ولعل هذه الطريقة في الكتابة الروائية تمكن ساراماغو من تأمل ثيمة إعادة كتابة التاريخ التي تشغله كثيراً في رواياته.
العمل الروائي التالي لساراماغو هو «الإنجيل بحسب يسوع المسيح» (1991)، وقد أثار هذا العمل ضجيجاً كبيراً في البرتغال ولم يسمح وزير الثقافة البرتغالي في حينه بطبعه في لشبونة، كما ثارت عليه الكنيسة الكاثوليكية البرتغالية، مما دفع ساراماغو إلى نشره في إسبانيا والرحيل عن لشبونة إلى إسبانيا ليعيش في لانزاروت. الرواية هي إعادة كتابة لتاريخ المسيح، حيث يقوم الكاتب بتحويل المسيح إلى كائن أرضي. لكن النقاد يأخذون على ساراماغو تركيزه على علاقة المسيح بمريم المجدلية والمشاهد الحسية في هذا العمل، وهو ما جعل البعض يتهمه بالإلحاد.
«العمى: رواية» (1995)، وقد تحولت إلى فيلم عام 2008، رواية مدهشة أخرى خطها قلم خوسيه ساراماغو، وهي تحكي، من دون أسماء شخصيات أو أماكن، عن موجة من العمى تصيب مجتمعاً ما حيث يتحول الجميع الى عميان باستثناء امرأة تكون شاهداً على هذا الوباء. ولكي تمنع الحكومة انتشار الوباء ترسل جنوداً لكي يقوموا بحصر العميان ومنعهم من الخروج. في جو الحصار هذا يسود العنف والاغتصاب، ويكشف الكاتب عن قسوة المشاعر والعواطف الإنسانية الفالتة من عقالها. ومن الواضح أن ساراماغو ينسج في عمله هذا حكاية فلسفية عن عمى البشر الأخلاقي وانحرافاتهم وضلالهم مما قد يقود إلى نوع من التدمير الذاتي للإنسان.
اللافت في مسيرة ساراماغو الأخيرة هو دخوله عام 2005 عالم كتابة المدونات على شبكة الإنترنت، وقد نشرت مقاطع من هذه المدونة قبل شهور قليلة. في تلك المدونة، التي حاول فيها الكاتب البرتغالي مسايرة روح العصر، وجه ساراماغو النقد لرئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير وللجماعة الأوروبية، وللممارسات الوحشية التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين ما يذكر بنقده العنيف لإسرائيل وتشبيهه ما تفعله بالفلسطينيين بأفران الغاز النازية، عندما زار رام الله عام 2002 متضامناً مع الفلسطينيين أثناء الحصار الذي فرضته إسرائيل بعد انتفاضة الأقصى.
لقد مثل ساراماغو بالفعل ضميراً للمثقف والإنسانية، فلم يكن يهمه التصريح بما يراه بغض النظر عن جماعات الضغط وأصحاب المصالح ومحركي السياسات في العالم، ومن ضمنها الحركة الصهيونية العالمية التي هاجمته بعد تصريحاته ضد إسرائيل، بعد أن شاهد بعينيه التنكيل بالفلسطينيين وآلة القتل الإسرائيلية التي تعمل ليل نهار.
الحياة
غياب الكاتب البرتغالي الحائز نوبل الآداب جوزيه ساراماغو 1922- 2010
هرّ العولمة سوف يلتهم فأر حقوق الانسان، نقطة على السطر
من الضروري ألا ننتظر وصول “مخلّص” يحل مشكلاتنا ويقول هذا هو الدرب الصحيح
ينبغي لنا جميعا أن نشارك في عملية التغيير والأدب وحده لا يستطيع فعل شيء
مات جوزيه ساراماغو. مات الأشد نقاء بين الملعونين الذين حاورتهم، وأكثر مشاريعي المتحققة اقترابا من الحلم. مات العجوز الشاب، الفارع الذكاء والموهبة، الذي أعطى ما يزيد على ثلاثين مؤلفا في الرواية والشعر والمحاولة والمسرح، والذي تُرجمت أعماله الى أكثر من 30 لغة، من “سنة موت ريكاردو ريّس” الى “العمى” و”الكهف” و”الوعي”، مرورا طبعا برائعته “الإنجيل بحسب يسوع المسيح”.
مات جوزيه ساراماغو. أتلقى الخبر بينما أنا في روما، حيث تحتفل ايطاليا بصدور روايته الأخيرة “قايين”. مات “الماركسي عدو المسيحية”، على ما كتبت أمس هنا بلؤم صحيفة “لوسرفاتوري رومانو”، التي غنمت فرصة رحيله كي تنتقده بشراسة بدلا من ان تنعاه. أصلا، غالبا ما ركز الاعلام في حديثه عن ساراماغو على الجدال الذي أثاره كتابه “الانجيل بحسب يسوع المسيح” واعتراض الفاتيكان على نيله النوبل، وعلى ماركسيته، وكونه عضوا ملتزما في الحزب الشيوعي منذ عام 1969. ساراماغو في كل حال، لم يكن ممّن “يديرون ألسنتهم في أفواههم سبع مرّات قبل أن يتكلّموا”، ولم يتردد يوما في قول ما يجول في ذهنه: “إن أيدي الحكومات المتسخة تخصص موازنة ضخمة لشراء القفّازات لإخفاء قذارتها”، كان لا ينفك يكرر. كما أنّه متمرد ولا امتثالي بامتياز: “البيروقراطية والهرمية مفهومان باطلان تماما: لماذا سأقبل الإعتراف بأنّ شخصا ما هو أعلى مني مقاما ورتبة؟”.
ولد سارماغو عام 1922 في كنف عائلة فقيرة من قرية ريباتيجو. والده كان شرطيا، أما جدّه وجدته فكانا فلاّحين. فقد أخاه الذي يكبره بعامين في عمر السنتين وقد آلمه فقدانه كثيرا. في مراهقته اضطر الى ترك المدرسة بسبب ظروف والديه المالية الصعبة، وعمل في صناعة الأقفال. مارس بعدذاك مهنا كثيرة اخرى، على غرار مصحح وحدّاد ورسام صناعي. صدرت روايته الأولى “أرض الإثم” عام 1947، إلا انه لم يجد ناشرا لروايته الثانية “المنور”، فلم تر النور. بعد صمت من نحو عشرين عاما، أصدر الكاتب مجموعة شعرية في عنوان “القصائد الممكنة”، ثم مضت عشر سنين اضافية قبل ان يكرّس نفسه كليا للكتابة. “ماذا كنت تفعل طوال ذلك الوقت؟”، سألته يوم التقيته، “هل كنت تنتظر؟”. أجاب: “لا، الانتظار لا يجدي. ثم انتظار ماذا؟ كيف يمكن ان نعرف ما إذا كان ذلك المنتظَر سوف يأتي يوما؟ جلّ ما في الأمر هو اني نهضت في احد الصباحات وقلت لنفسي: لقد حان الوقت لكي تكتشف ما إذا كنتَ قادرا على ان تكون ما تزعم أنه حقيقتك، اي كاتبا”. هكذا دخل ساراماغو الأدب من بابه العريض فعليا عام 1977 مع “موجز في الرسم والنسخ”، وكان يومذاك قد اصبح في الخامسة والخمسين من العمر، ومن بعدها توالت نجاحاته ولم تتوقف، نذكر منها “بالتاسار وبليموندا” (1982)، و”قصّة حصار لشبونة” (1989) و”كل الأسماء” (1997) الخ…
سارماغو “حيوان سياسي”، وكان ذلك جليا في كل أعماله. “أنا لا أريد تغيير العالم ولا قلب الأنظمة”، قال لي عندما قابلته. “لست مخلّص الإنسانية، ومن الأكيد أني لا أملك الحلول. أستطيع فقط أن “أقول” الخطأ، بكل بساطة وتواضع. أن اقول حقيقة الأمور، أن أطرح السؤال، أن أشير بإصبعي الى المشكلة”.
نورد هنا في ما يأتي أبرز ما قاله لي ذلك “النبي” الرؤيوي الذي اشتهر بتشاؤمه، يوم أجريت معه حوارا في إسبانيا لـ”ملحق النهار”، غداة صدور روايته “الوعي” عام 2004.
• التشاؤم هو فرصة خلاصنا الوحيدة، والتفاؤل شكل من اشكال الغباء. أن يتفاءل المرء في أوقات كهذه ينمّ إما عن انعدام اي إحساس وإما عن بلاهة فظيعة. لستُ اقول إن كل شيء سلبي وقاتم، لكنّي أعني ان الأمور السلبية في العالم هي اكثر من أن نتجاهلها أو أن نغض الطرف عنها. يبدو لي خطأ جسيما أن نحتمل وجود الامور السلبية بسبب بعض الايجابيات المقابلة لها. هذه لا تشفع بتلك.
• لقد تحولت الديموقراطية الى كاريكاتور خلال الأعوام الأخيرة، الى مهزلة، الى فقّاعة صابون. أظنّ ان الجميع بات يعلم أن هذه الصيغة فاشلة. يقال لنا باستمرار: الديموقراطية هي أهون الشرور، لكن “أهون الشرور” ليس بالحلّ المرضي ولا الكافي، وتكرار تلك اللازمة مرادف لعملية غسيل للأدمغة، إذ انّه يمنع الناس من البحث عن بديل أفضل. الديموقراطية ليست نقطة وصول بل نقطة انطلاق، وقد مضت أعوام كثيرة على ولادتها من دون أن يتغيّر فيها شيء الى الأفضل، من دون ان يتوقف التلاعب الفاضح، المباشر أو غير المباشر، بالرأي العام، من دون أن يُشفى السياسيون من مرض الفساد والجشع وإخفاء المعلومات والخضوع الذليل للسلطة الاقتصادية.
• ما ينقصنا اليوم هو “الإختلاف”، وأعني الغرب تحديدا في كلامي. المجتمع الغربي ينزع الى التماثل، الى نوع من التجانس الزائف الذي يطمئن الناس، ودوري ككاتب هو ان اقلق هؤلاء المطمئنين البؤساء. أنا لا أكتب لكي اهدئ من روع القارئ، ولا لكي احارب الموت كما يزعم البعض- وهي اسخف فكرة سمعتها في حياتي. بل اكتب لكي أوقظ، وأيضا لكي أفهم. الناس تنتظر الأسئلة، حتى وإن كانت “تعرف” في لاوعيها ما الخطب.
• صوتي الروائي عرف منعطفا حاسما عندما كتبتُ “العمى”. لقد افتتح ذلك الكتاب مرحلة جديدة في حياتي ككاتب، إذ شعرتُ بأن المشاغل والمخاوف التي أملكها إزاء مصير البشرية تستطيع ان تجد مكانا لها في الرواية، على نحو مجازي طبعا، وبعيد عن الوعظ. فأصبحت رواياتي أكثر التصاقا بالواقع، واكثر فلسفية على السواء. حتى نيّتها الروائية مختلفة، إذ هي تتوق الى أن تتخطى المظهر والقشرة وأن تلمس الجوهري، نبض الكائن الحيّ. وليس الكائن فحسب بل أيضا العلاقات بين الكائنات في هذا المجتمع المزري حيث نتخبط، وحيث القيم الانسانية إما تختفي وإما يُداس عليها بوحشية أكبر يوما بعد يوم.
• إننا نستخدم عقولنا للتدمير أكثر مما نستخدمها للبناء، لانتهاك الحياة بدلا من الدفاع عنها. لقد نسينا التضامن والواجب والاحترام، ومجتمعنا يتحول تدريجا عشّ أفاعٍ. أسلوب عيشنا خاطئ الى اقصى الحدود وسوف يودي بنا الى الكارثة.
• كل شيء في المستقبل سوف يمرّ من خلال الميدان السمعي البصري، وسنشهد شكلا آخر من اشكال التواصل مع الأدب والفن عموما. ولا بد أن إنسان الحاضر، إذا ما تمّ زرعه في المستقبل، فسوف يشعر بغربة صاعقة، كما لو أنه في عالم من الاقزام او من العمالقة. مَن يعرف ما الذي سيحصل غدا مع كل ما يتم تحقيقه في مجال الهندسة الجينية، ومع قدرة العلماء المتزايدة على تغيير المعطيات الجينية للأجنّة، كلون الشعر وشكل العينين ودرجة الذكاء، الخ؟
• إننا نعيش في عالم همّه الرئيسي الظهور والهيمنة، بدءا من الشركات الضخمة المتعددة الجنسية وصولا الى الفرد. يبتعد الواحد منّا عن الآخر، ونمعن في انتهاك حقوق الانسان، أي حقوقنا.
• العولمة الاقتصادية وحقوق الانسان عنصران غير منسجمين، بل متنافران الى اقصى الحدود. هرّ العولمة سوف يلتهم فأر حقوق الانسان، نقطة على السطر. نحن نعيش عصرا تبدو فيه حقوق الانسان، من وجهة النظر الرسمية، راسخة ومحترمة ومطالبا بها ومدافعا عنها، لكن الواقع غير ذلك: وهذا قد يحملنا الى ديكتاتورية من نوع جديد، مختلفة عن سابقتها في انها ليست مثلها بيّنة وواضحة، سهلة الرصد مما يتيح لنا الكفاح ضدها، بل هي مستترة كسرطان خبيث لن نستطيع نرصد هول خرابه إلا بعد فوات الأوان.
• لقد أدركنا درجة استيعاب مرعبة للفظاعات التي تدور حولنا. ثمة خمول وبلادة خطيران، لا بل ثمة خدر شامل. الناس تتململ أحيانا إثر بعض الصدمات العنيفة، لكنها تعبّر عن ردود فعلها في شكل موقت، وبعد يوم أو اسبوع على الأكثر تعود الى روتينها الأعمى والأصم والأبكم. عندما أصبح في وسعنا أن ننتقد ونجادل، أدرنا ظهورنا وانحنينا على أنانياتنا المفترسة.
• ينبغي لنا جميعا أن نشارك في عملية التغيير. الأدب وحده لا يستطيع فعل شيء. كل الأعمال الأدبية العظيمة التي كُتبت على مرّ التاريخ لم تستطع أن تحول دون الوضع الكارثي الذي نعيشه. من الضروري ايضا ألا ننتظر وصول “مخلّص” ما، يأتي ليحل جميع مشكلاتنا ويقول لنا: “علينا أن نمشي في هذا الإتجاه”. لا أحد يملك الحق في أن يقول: “تلك هي الدرب الصحيحة”. في وسعه أن يقترح ربما، ولكن في سبيل المناقشة لا الفرض. أثمن ما نملكه جميعا بين أيدينا هو الشك، لا اليقين. الشكوك هي التي تدفعنا الى التفكير، اما اليقين فيتسبب بالشلل والجمود، لا بل يحوّلنا مومياءات. الشك يخصب ويحيي.
• لم اشعر يوما بالحاجة الى ان أكون صاحب سيرة مهنية لامعة، ولا بالحاجة الى الشهرة والمجد، ولا بالحاجة الى تصفيق الناس لي. جل ما أردت فعله هو أن أكتب، فكتبت. أنا لا أؤمن بالاعاجيب، ولكن يجب أن اقرّ بأن حياتي كانت أعجوبة حقيقية، لأنني من دون ان افعل أي شيء، من دون ان أضع خطة مفصّلة أو أن اندفع نحو طموح محدد، تمكّنتُ من أن اشعر بأني ضروري. لم يكن همّي يوما ان اكون في الاضواء.
• بيسوا لطالما سكنني. ويحلو لي أن أفكّر أني أنا أيضا ربما سكنته، فمعه اضمحلّت الحدود بين الواقع والوهم، وكان على حق في ذلك. الأموات “الحقيقيون” لا يمكن أن يموتوا إذا ظللنا نفكّر فيهم. فذاكرتنا متصلة بهم، وأعمالهم بقيت لدينا، مثل كل ما فعلوه وتركوه وراءهم. فإذا توقفنا عن الهجس بفكرة أنهم ماتوا، فسوف نستطيع ان نهزم الكثير من العوائق التي نبنيها بين الاحياء والأموات، وسنتمكن من العيش معهم من خلال الذاكرة. ولست أعني فقط ذكريات الماضي، اي كل ما كان قيد الوجود يوما ورحل، بل أيضا ذكريات المستقبل، اي الأمور التي نقوم بها أو لا نقوم بها وتترك أثرا لا يمحى على غدنا.
• في التاسعة عشرة من عمري، عندما كنتُ أُسأل عما أريد أن أكونه مستقبلا، كنتُ أجيب دائما أني أود ان أصير كاتبا. ثمة أحلام تحتاج الى الوقت لكي تنضج على الشجرة، ومنها هذا الحلم. يجب ألا نقطف أحلامنا وهي فجّة، وإلا لن نستمتع في التهامها. أنا انتظرت كثيرا، إذ لم ينضج حلمي إلا بعدما صرت في خمسيناتي. آنذاك فقط بدأت أصدّق أنه لديَّ ربما شيء أقوله وأنه يستحق القول فعلا. وعندما يسألني أحدهم كيف أدركتُ هذه النقطة، الجواب الوحيد الذي أجده هو الآتي: “أنا لا أكتب فحسب، بل أكتب ما أنا عليه”.
• من المهم أن يحافظ الإنسان على جوهره، على حقيقته، وذلك ما نحن في صدد خسارته للأسف: حقيقتنا.
• أعيش مع كتابتي علاقة خاصة، اقارنها بنموّ شجرة. إن الشجرة التي نزرعها تنمو، وتنمو على نحو يبدو متوقعا وغير متوقع في آن واحد. هو متوقّع لأننا إذا كنّا زرعنا شجرة زيتون مثلا، نعرف ما سوف تكون النتيجة، فمن السهل تمييز اشجار الزيتون. ولكن ثمة كمية كبيرة من المفاجآت التي تنتظرنا، إذ ليس هنالك شجرة زيتون واحدة تشبه اختها تماما. على النحو نفسه، يُزرع الكتاب ويتجذّر وينمو وفق منطقه الخاص.
• لا أؤمن بالإلهام. بل لا اعرف حتى ما هو. الكتابة هي عملي. إنها ما اقوم به. ما اعرفه هو أنه يجب عليّ ان اقرر الجلوس الى مكتبي، وليس الإلهام ما سيدفعني الى الجلوس. شرط الكتابة الأول هو الجلوس، ثم تأتي الكتابة. أحيانا افكّر ان بناء رواية يشبه بناء كرسي: ينبغي أن يتمكّن الإنسان من الاستقرار عليه بتوازن. لذلك يجب أن أتأكد من انه يملك اربع أرجل ثابتة ومتينة. فكرسي بثلاث أرجل يعد بسقطة مؤذية لا بل مميتة احيانا. كذلك يشبه الأمر قصة حب مبنية من طرف واحد: لا مفر من ان تدمّر نفسها بنفسها.
• العاشق يصبح إنسانا مختلفا. لو كان في وسعنا ان نغرم جميعا واحدنا بالآخر وأن نظل مغرمين حتى آخر الدهور، فلا شك في أن كوكبنا سوف يصبح آنذاك كوكبا سعيدا. الحب شكل من اشكال كسر الوحدة، وإن كان لا يلغي وجودها. نعم، قصص الحب التي اكتبها خارجة على المألوف، ولكن ليس لي الفضل في ذلك. جمال قصّة حب ما، تحدده طبيعة المرأة الطرف فيها. إن امرأة استثنائية لا بد ستجعل قصة الحب بينها وبين رجل استثنائية أيضا. لنكفّ نحن الرجال عن التباهي والادعاء والتوهّم بأن لنا دخلاً في الموضوع. لنتواضع قليلا ونعترف بأن المرأة هي ربّان السفينة الحقيقي.
• إن رؤيتي للدين تقوم على فكرة جوهرية، هي اني لا أؤمن بوجود الله: لا بلحية ولا بدونها، لا ساخطاً ولا متسامحاً، لا محبّاً ولا منكبّاً على مراقبتنا كناظر مدرسة يدوّن اخطاءنا وزلاتنا. دماغي وعقلي لا يستطيعان قبول وجود إله. كل الآلهة على مر الأزمنة ولدوا من مكان واحد: من الخوف من الموت. فكرة أن الطيّبين سيلقون تعويضا بعد موتهم تبدو لي سخيفة وفي غاية العبثية. الأكيد هو ان الديانات لم تنفع الانسانية في شيء. فمنطق كل واحدة هو أنها هي الأفضل، هي الأصحّ، وما تبقّى باطل. إنه لأمر يبعث على الجنون. الدين يتلاعب بالانسان بلا خجل، ولم يقرّب يوما الشعوب بعضها من بعض، بل العكس تماما.
• إذا حاول كل واحد منّا ان يجعل اليوم التالي أقل سوءا من اليوم الحاضر، فسيكون ذلك إنجازا مهما. اعتقد انه من الفحش أن نعاني هنا على الأرض هذا القدر من المشكلات، وان نصرّ على رغم ذلك، مثلا، على السفر الى كواكب اخرى. أنا اؤمن بمنطق الأولويات، وإذا ما تأملنا المجتمع الإنساني عموما، فسوف تكون الأولوية الأبرز في رأيي هي ايجاد حلّ لمشكلة الجوع. غالبا ما اقول إن الفجور لا يكمن في الإفلام الإباحية، بل في ان ثمة اناساً يموتون في قرننا هذا بسبب الجوع وبسبب الحروب العبثية.
• رأيتُ في فلسطين اناسا مجبرين على العيش كمنفيين على ارضهم، وما لا أستطيع فهمه في هذا النزاع بالذات هو عجز الإسرائيليين عن استخلاص درس إنسانية وتسامح من العذابات التي عاناها الشعب اليهودي. بل على العكس من ذلك: هم عانوا التمييز والتعذيب، فدأبوا في ممارستهما بدورهم.
• منذ 11 ايلول، اكتشف الأميركيون هشاشة الحياة، تلك الهشاشة التي عاشتها بلدان العالم الأخرى في الماضي، أو تعيشها الآن بعنف مرعب. لقد ادرك الأميركيون- أو على الأقل آمل أنهم ادركوا- أصوليتهم وأنانيتهم ووقاحتهم التي تجعلهم لامبالين إزاء ما يحصل خارج حديقتهم الصغيرة. لقد اكتشفوا الآخر. واكتشفوا الخوف معه. فهنيئا لهم بهذا الوعي!
• بعد موتي قد يذكرون في الصحف اني كنت كاتبا ونلت جائزة نوبل للآداب، ولكن إذا كان من الممكن ان يضيفوا الى هذه المعلومة أني ساهمت في شكل ما في تعزيز السلام على هذه الأرض، فأتمنى ان يوردوا هذه الجملة قبل خبر جائزة نوبل.
جمانة حدّاد
النهار
في رحيل خوسيه ساراماغو: عندما قال لي جدي ‘الليلة سننام تحت شجرة التين’!
ابراهيم درويش
كان اخر كتاب اصدره الروائي البرتغالي المعروف وحائز نوبل عام 1998 خوسيه ساراماغو (1922 -2010)، هو ‘المفكرة’، وهو عبارة عن مدونات ومقالات سياسية تشجب اسرائيل وجورج بوش وسيلفيو برلسكوني والاصولية. وبه انهى ساراماغو حياة حافلة في النشاط الادبي والسياسي، وجعلته الصوت الباحث والموثق لروح البرتغال في ماضيها وحاضرها. وبالنسبة لمؤيدي اسرائيل في الغرب فقد ربطوا بينه وبين تصريح القاه عام 2002، اثناء زيارة تضامنية قام بها مع عدد من الكتاب الى رام الله، ووصف فيها معاملة اسرائيل للفلسطينيين بانها لا تختلف عن الهولوكوست. وقام هذا الكاتب اليساري النزعة، الذي توفي يوم الجمعة (18 حزيران (يونيو)) في لازارناتو في جزر الكناري بالمنافحة عن التاريخ وبؤس الانسان وعذاباته. فعبر سلسلة من الروايات التي جمعت بين التجريبية السيريالية والحياة الريفية، وبين الطلائعية والتقليدية، اضافة لاعمال شعرية ومسرحية اخرى، قدم ساراماغو تاريخا روائيا للعنف والديكتاتورية ومحاكم التفتيش، وقدم صوته وصورته في عدد من الشخصيات الروائية، وهو وان بدأ ينشر اعماله الادبية في سن مبكرة الا انه انتظر طويلا كي يحتفى به وباعماله. فقد كتب مرة انه لو مات في سن الستين لمات وكأنه لم يكتب شيئا، ذلك ان اول عمل روائي لقي نجاحا، كان روايته ‘دليل للرسم والخط’ (1977). وتمثل حياته الادبية خطا من التقدم والعمل الجاد في الكثير من الاعمال، اولها ميكانيكي لمساعدة عائلته الفقيرة، ومصحح في دار نشر وكاتب غير متفرغ ومترجم بعدها في دائرة للتحرير والانتاج في دار نشر، وعمل في عدد من الصحف المحلية، منها فترة قصيرة محررا ادبيا في جريدة ‘سيرا نوفا’، وعمل بعد وفاة الديكتاتور انطونيو سالزار عام 1970 معلقا سياسيا في صحيفة ‘دياريو ليسبوا’، ونظرا لمواقفه الثابتة وافكاره اليسارية، حيث انضم الى الحزب الشيوعي الممنوع في البرتغال عام 1969، فقد تم طرده من عمله عام 1975. وكان الطرد بمثابة الرحمة المزجاة له، لانه كرس حياته للكتابة والتأليف، وتذكر ساراماغو الحادث قائلا: ‘كان طردي احسن حدث ‘حظ’ في حياتي’، ومضى يقول ‘لقد جعلني اتوقف مليا وافكر، وكان بداية لحياتي كاتبا’. كل هذا على الرغم من انه مارس الكتابة كهواية وعمل يومي في سن مبكرة، ولكن الكتابة لم تكن خيارا محبوبا بالنسبة لشاب ينتمي للطبقة الكادحة وابن عائلة فلاحة هاجرت للمدينة كانت بحاجة للمال والدعم اليومي لتوفير لقمة العيش. وكان اول كتاب اصدره عام 1947، وهو كتاب ‘ارض الاثم’، الذي نفدت نسخه من المطابع ولم يلق الكتاب النجاح الكبير في حينه، حيث عبر عن ارتياحه لاختفاء العمل من المجال العام. وانتظر ساراماغو عشرين عاما اخرى كي ينشر كتابا جديدا، ليس من اجل تأكيد ابداعيته، ولكن لانه اصبح معارضا لنظام سالزار. ومن هنا انخرط في سلك الكتابة الصحافية، التي ظلت الطريقة الاثيرة لدى الكاتب كي يعبر ويسجل مواقفه تجاه احداث الساعة وما يجري في العالم، فمن خلال الكتابة الصحافية كان قادرا على النقد والتعليق على ما يجري في العالم من انتهاكات وخروقات لحقوق الانسان. وفي الوقت الذي واصل فيه ساراماغو كتابته الصحفية كفعل يومي سياسي، فقد تطورت كتابته الادبية وطرأ عليها الكثير من التغييرات. ففي الفترة ما بين عام 1966 – 1976 نشر ثلاثة اجزاء ضمت اشعاره، ونشر مجموعة اخرى من اربعة اجزاء ضمت اعماله ومقالاته التي تناولت الكثير من الموضوعات السياسية والاجتماعية. واخذ ساراماغو وقتا طويلا في التجريب الروائي قبل ان يتوصل الى اسلوبه الخاص، فقد عانت محاولاته الاولى، التي بدأت تظهر منذ عام 1970، من مشكلة حشد الكثير من المعلومات التاريخية والسياسية في الرواية الواحدة كما بدا في روايته ‘الانبعاث من الارض’ (1980) ويبدو الكاتب متأثرا في هذه المرحلة بالكتابة الروائية الاجتماعية عند كل من بلزاك وزولا. ومع مرور الوقت بدأ يكتشف ويستكشف ارضا للرواية، التي صارت تأتي له عبر فكرة او اسم ادبي او حتى جنس من الاجناس الكتابية، وهو ما بدا في روايته ‘دليل للرسم والكتابة’ و’عمى’.
وكانت اولى رواياته، التي حققت نجاحا، هي ‘عام موت ريكاردو ريس ‘(1984)، التي قامت على واحد من الاسماء المستعارة، التي كان يستخدمها الشاعر المعروف فردينادو بيسوا. وعادة ما قارن النقاد اعماله هذه بكتابات فرانز كافكا وخورخي لويس بورجيس. تناول ساراماغو في رواياته الكثير من الموضوعات، منها محاكم التفتيش وشرور الامبراطورية والاستعمار. ومع الاهتمامات السياسية ونقد الدين، حيث لم تكن الفاتيكان ولا المؤسسة الثقافية في البرتغال راضية عن كتاباته، اضاف ساراماغو، خاصة في اعماله الاخيرة ابعادا فلسفية وقيامية، كما في روايتي ‘كل الاسماء’ (1997) و’المغارة’ (2002) وهما الروايتان اللتان تناول فيهما الكاتب فكرة موت الفرد بسبب البيروقراطية. ومعها اهتم ساراماغو بقوة الكلمة واثرها كوثيقة عن الحياة وكسجل، ومن هنا فالتفاصيل الصغيرة تظل مهمة، والباحثون في حياته وجذور عائلته لاحظوا ان كاتب سجلات اخطأ واضاف اسم ساراماغو، وهو لقب عائلته الى اسمه الاول خوسيه ولم ينتبه احد الى هذا الخطأ الا بعد ان انضم عام 1929 الى المدرسة، وهنا خطأ اخر وهو ان تاريخ ولادته في شهادة الميلاد في يوم 18 تشرين الثاني (نوفمبر) بدلا من 16 من الشهر نفسه.
الكاتب والشخصية والمتدرب
وهذا الحس الباحث عن الحقيقة والتاريخ والواعي للماضي يظهر في مقال كتبه ساراماغو عن تجربته الروائية والبذور التي ادت لولادتها من قاع التجربة في الريف ومن جذور تاريخ ‘الامبراطورية البرتغالية’ والسلب والنهب ومحاولة تصحيح الماضي والمستقبل والحاضر الديكتاتوري. ففي المقال الذي ترجمته للانكليزية مارغريت جول كوستا عام 1999 تحت عنوان ‘كيف اصبحت الشخصية معلما والكاتب متدربا’. القى فيه خوسيه ظلالا على تجربته الروائية، ورحلته من قرية صغيرة وعائلة فلاحة من قلب البرتغال ليصبح اهم كاتب برتغالي في القرن العشرين، وقد منحته نوبل الجائزة عام 1998 بعد ان كان اشهر كاتب حي في الادب الناطق باللغة البرتغالية. وفي المقال اضاءة على اهم المحطات التي رافقت تجربة الكاتب، الذي عمل في اكثر من مهنة واصبح موثق تاريخ وحاضر البرتغال، واتسمت اعماله ببحث تاريخي عن اسباب العنف وحس تاريخي بالظلم وجشع الانسان وبيروقراطية المؤسسة، التي غيرت اسمه وتاريخ مولده ووثائقه وسجلاته الرسمية.
الجد والجدة كابطال في الرواية
وبالعودة للمقال ففيه يصف علاقته مع جده وجدته لامه وحياته اليومية معهما، التي كانت تبدأ في قرية ازينغا من اقليم راباتيخو قبل الفجر، ومعه يبدأ روتين الحياة الزراعية اليومي من فلاحه ورعاية للماشية التي كانت في حالة جده رعاية الخنازير. ويصف جده، الذي يرى انه من احكم الناس الذين عرفهم، بالامي الذي لم يكن يقرأ او يكتب، وكيف كان هذا الجد واسمه جيرمينو وجدته جوزيفا في ليالي البرد القاسية يذهبان الى حظيرة الخنازير ويأخذان اصغر خنزير ويضعانه في فراشهما كي يمنحاه من الدفء الانساني ما يقيه شر البرد في الحظيرة، وهو رأى في هذا العمل جزءا من طبيعتهما الانسانية ولم يكن دافعهما الرحمة، مع انهما لم يكونا شخصين سيئين.
حياة خوسيه في القرية كانت مثل كل حياة الفلاحين، ندح الماء من البئر او عين القرية العامة وحمله على الكتف، ومن ثم حمل المجراف والمضي لمساعدة جده الراعي. وخوسيه الصبي في تلك الايام كان يعين جده في حفر وحراثة الارض حول البيت وقطع الاخشاب من اجل نار المساء والطبخ. وكان يجمع العيدان اليابسة من حقول القمح كي تستخدم كفراش تنام عليه الحيوانات. كان للصيف جوه الخاص، ففي الايام الصافية يختار الجد مع حفيده شجرة تين معروفة كي يناما تحتها ويتمتعا بهدوء الليل ونسيم القرية العليل، حيث يقول الجد: ‘خوسيه، في هذه الليلة سننام تحت شجرة التين. كان خوسيه يعرف اي شجرة تين من الشجرتين المعرشتين حول البيت. والسبب في اختيار الجد لتلك الشجرة بالتحديد لانها الاقدم عمرا والاكبر و’لانها كانت دائما في مكانها، شجرة تين’ كما يقول.
حكايات لا نهاية وبداية لها
في تلك الليالي كان الجد يحكي للحفيد، الذي يدمن على السؤال، حكايات يختلط فيها الحسي بالخيالي ويظهر فيها ابطال اسطوريون، حروب بالعصي وكلمات تستعيد حكمة الاجداد ووشوشات الذاكرة، التي كانت تبقيه مستيقظا حتى يهزمه النوم. يقول خوسيه انه لم يكن يعرف ان كان جده يتوقف عن الحكي بعد نومه حتى لا يترك الاسئلة، التي طرحها الحفيد بدون جواب، والتي كانت تأتي على صيغة ‘ثم ماذا حدث بعد ذلك’، ام لا، لكنه يواصل قائلا ان الجد الحكيم ربما كان يحكي القصص لنفسه حتى لا ينساها او يعيد صياغتها بطريقة جديدة. وكأي صبي نشأ خوسيه وهو يحمل فكرة ان جده هو حامل كل المعرفة في العالم. وفي الصباح كان يستيقظ خوسيه ويطوي غطاءه ويمشي حافيا، حيث كانت قهوة جدته وفتافيت من الخبز تنتظره للفطور، ويشير هنا الى انه ظل يمشي حافيا في القرية حتى بلغ سن الرابعة عشرة. وكان السؤال الاول الذي توجهه له جدته على طاولة الفطور: هل نمت جيدا؟ وان كان رأى منامات مرعبة بسبب قصص جده، لتذكره ان الاحلام تظل خيالات واحلاما غير حقيقية. وعلى الرغم من احترامه لجدته ومعرفتها بالحياة، الا انه كان يرى انها لم تكن على مستوى المعرفة التي يملكها جده، الذي كان يحرك العالم بكلمتين. وعلى خلاف كلماتها المشجعة اكتشف خوسيه ان الجدة كانت تؤمن بالمنامات، فعندما كانت تغلق الباب كانت تعلق ان العالم جميل، ويسكنها الحزن للتفكير انها ستتركه يوما وتموت. فهي لم تقل انها كانت خائفة من الموت، بل كانت حزينة لانها ستموت كما يقول. ويتذكر الروائي جده حاكي الروايات وناسج الذكريات ان الجد عندما احس بقرب الموت ذهب لكل شجرة من اشجار بستانه يحضنها ويقول لها وداعا.
احد الاجداد بربري من شمال افريقيا
هذه الذكريات عادت اليه عندما ادخل جده وجدته التي كانت تتمتع بجمال غير عادي في الاعمال الروائية كان يقوم مثل جده بمحاولة استعادة الحكايات والتأكيد انه لن ينسى وجوه احبابه والايام الجميلة. ويصف عملية تشكيل وجهي جده وجدته وتلوين حياتهما ذات الايقاع البطيء المملل، بانها مثل محاولة لاعادة تشكيل خريطة غير متماسكة. وشبه المحاولة هذه بمحاولة اخرى لاستعادة احد اجداد اجداده، الذي يقول انه كان من البربر، من شمال افريقيا، فالمحاولة قادته الى وصف لصورة قديمة لوالده ووالدته، صورة تعود الى 80 عاما، ومن خلال نظرات ووقفة الوالد والوالدة امام الكاميرا يستعيد حس الرهبة من الكاميرا، والجدية البادية والحياء على الوجهين والسلام والجمال. متذكرا ان اليوم التالي بعد الصورة سيطوى مثل اي يوم اخر. ومثل اي كاتب حدث نفسه قائلا ان اليوم سيأتي لكي يكتب عن هذه الاشياء، جد كبير من شمال افريقيا وجد راع للخنازير وجدة جميلة وام واب وسيمان.
كان خوسيه يعتقد ان محاولة استعادة الصور والاشياء الجميلة هي طريقة سهلة لقراءة التحولات في الشخص الذي كانه والذي آل اليه، لكنه اكتشف ان الامر ليس بهذه السهولة لان البيولوجيا والجينات لا تحدد الخط الذي يتخذه الشخص في الحياة. فبالنسبة لخوسيه، ما افتقدته شجرة العائلة ليس الاشجار التي تصله بالحياة التي انفصلت عن ‘قرمية’ الشجرة، ولكن الشخص الذي يحفر في اصل الشجرة، والقادر على الكشف عن طبقات التربة وطبيعة الفواكه. وتظل محاولته تشكيل صورة جده وجدته في عالم الرواية وتجريدهما من اللحم والشحم طريقة مناسبة له كي يبدع في وقت لاحق شخصياته الروائية، وهي الرموز ايا كانت جماليتها وكفاءتها، جيدة ام سيئة تؤشر للشخص الذي وصل اليه ساراماغو اليوم وامس وغدا ‘خالق الشخوص الروائية ومخلوقها’ في الوقت نفسه.
مبدع الشخصية الروائية ومخلوقها
وعليه فهو يقول ‘حرفا بعد حرف وكلمة بعد كلمة وصفحة بعد صفحة وكتابا بعد كتاب، فالشخوص التي ابتدعتها تجذرت او جذرت نفسها في الشخص الذي صرته’ وبدونهم او بدون الشخصيات، التي صنعها وصنعته، يشك في امكانية وجوده. وخوسيه في رسمه الطريقة التي يتفاعل الكاتب الراوي مع شخوصه ويمسك بالضرورة باقدارها هم في الحقيقة من قادوا طريقه وحددوا قدره وهذا باد في شخصية خطاط غير محترف اسمه ‘اتش- حرف هاء’، وهو بطل روايته ‘دليل للرسم والخط’، فالبطل يمثل رحلته ورحلة المؤلف معا ـ لانه علمه الصدق وكيف يحترم بدون حزازة او شعور بالاحباط، وعلمه حدوده كبشر: فهو ان كان غير قادر على المغامرة والخروج خارج حدود قطعة ارضه فقد اختار الحفر فيها وعميقا، ومع الحفر البحث في جذور العالم وهو مشروع كبير. نتائج الحفر والكتابة، التي نبعت منها تظل جزءا من التراث الانساني فليس لخوسيه، وهو يعترف بهذا الحق، بالحكم عليها ولكنه له الحق بالقول ان كل الكتابات التي انتجها سياسية، اجتماعية او ابداعية ظلت وفية للهدف والمبادئ التي آمن بها ونافح عنها.
فقراء خرجوا من قاع الارض
فابطال رواياته هم من نفس عينة الفلاحين والبسطاء الملتصقين بالارض والذين خرجوا من تربة سهول الينتيخو وهم من نفس عينة جده جيرمينو وجدته جوزيفا، ممن اجبروا على الكدح كي يعيشوا وينالوا الفتات في ظروف صعبة وغير انسانية. ويقول ان هؤلاء البسطاء الكادحين كانوا ضحية للكنيسة ‘الدين المؤسس’ والدولة وملاك الاراضي، والظلم الذين حل بهؤلاء الابرياء الذين حاكمتهم عدالة عشوائية المنهج. وجاء التعبير الاول والحقيقي عن هذا الحس الملتمس والملتصق بالفقراء في روايته ‘انبعاث من الارض’، التي تتحدث عن ثلاثة اجيال من عائلة مو- تيمو- منذ بداية القرن العشرين حتى عام 1974، اي الثورة التي اطاحت بالديكتاتورية. هؤلاء علموه الصبر والاستمرار في الحياة حتى وان كانت ظروفها قاسية، وهم من علموه اضافة الى رجال وشعراء البلاد، خاصة ذلك الذي كتب مجد البلاد ورثى سفنها المحطمة والامال المتعثرة، والذي كان عبقري اللغة البرتغالية وعميدها الاول، ويشير الى معاناة الشاعر الذي دق على ابواب كل النبلاء والملوك، ويلاحظ ان كل العظماء عانوا في مرحلة ما في حياتهم من ذل اللحظة وقسوتها، العظماء الكتاب الذين كانوا يحملون تحت آباطهم روائعهم وينظرون حولهم، وهم الفقراء وغيرهم الاغنياء، ممن عانوا مع سفن ‘الاكتشاف’ حتى العميان، وهم يتساءلون اي الفقراء الكتاب ما الذي سنفعله في هذا الكتاب؟
بيسوا العالم ‘فرجة’
شعر خوسيه بالدين للجد والجدة والتاريخ والماضي، الا انه تعامل مع التاريخ بعين الناقد، فهو في روايته ‘بالتسار وبيلموندا’، التي تعتبر رائعته حاول ان يؤكد على اهمية توازن العالم بين سبع شموس وسبعة اقمار، وهو ما يعنيه اسما البطل والبطلة بالتسار وبيلموندا، احدهما كان مخترعا لآلة لا تطير الا من خلال الارادة الانسانية وامرأة كانت ترى ما يقبع تحت الجسد الانساني، وخلالهما ملك يبني اكبر كنيسة في الدنيا، وفي داخل الرواية استعادة لتاريخ البرتغال في القرن الثامن عشر. فهذه الرائعة جاءت نتاجا، كما يقول للقصص التي استمعها من جده في القرية، ومن دروس الشعر التي تلقاها من استاذه وهو في الكلية التكنولوجية في لشبونة، ومن الكتب والاشعار التي قرأها في المكتبات العامة وهو عامل ميكانيكي، حيث كان يقرأ بدون ارشاد اي كتاب يقع في يديه. وفي المكتبة العامة ولدت رائعته الاخرى ‘العام الذي مات فيه ريكاردو ريس’ وهو الاسم الذي استعاره من قصيدة نشرت في مجلة ‘اتينا’، واكتشف لاحقا ان الاسم مستعار، وهو واحد من اسماء عدة استخدمها فريناندو بيسوا، وهو الشاعر الذي حفظ كاتبنا اشعاره وكتب ان العالم هو ‘فرجة’ واختار خوسيه له عام 1936 كي يعيش اخر ايامه، وهو العام الذي احتلت فيه قوات النازية اراضي الرين واعلن فرانكو الحرب في اسبانيا وانشأ فيه سالزار الميليشيا الفاشية في البرتغال، وانهى الكاتب الرواية بعبارات متشائمة وقاتمة تقول ‘هنا حيث ينتهي البحر وتنتظر الارض’، مما يعني ان عصر الاكتشافات البرتغالية قد انتهى وقدرها هو الانتظار. لكن الكاتب المتدرب- خوسيه شعر بان هناك امكانية للخروج من ارق الانتظار وجر اليابسة، وهي شبه جزيرة ايبريا الى البحر جنوبا، حيث نزعها من سياقها الاوروبي ونقلها لتتوسط بين مستعمراتها القديمة البرازيل وانغولا ليذكرها بالتاريخ والاستغلال وحملت الرواية اسم ‘الطوف الحجري’. فرحيل اوروبا جنوبا جاء من اجل تصحيح الخطأ القديم الذي ارتكبته ضد الجنوب. ويعتقد ان الفكرة جاءته بعد لقاء مع الصحافية الاسبانية بيلار ديل رويو، التي تزوجها فيما بعد وقررا الانتقال والاستقرار في جزر الكناري، واصبحت الصحافية مترجمته الرسمية للاسبانية. ابطال الرواية رجلان وثلاث نساء وكلب يرحلون في شبه الجزيرة المتحركة وفي الرحلة بحث عن النفس والتحول الذي ستتعرض له الشخصيات بعد استكمال الرحلة.
تاريخ حصار لشبونة
والرواية وان كانت محاولة من الكاتب البحث عن اوروبا الاخلاقية بتصحيح التاريخ وذات طابع مستقبلي الا انه تذكر انه عمل في مرحلة من حياته مصححا في دار نشر، ومن هنا قرر العودة للارشيف وهناك امكانية لتصحيح الماضي وعليه جاءت روايته ‘تاريخ حصار لشبونة’، وبطلها ريموندو دي سيلفا ـ رجل عادي ما يميزه انه يرى ان هناك وجهين للحقيقة، احدهما خفي والاخر ظاهر، وانه لا يمكن معرفتها بدون النظر اليها اي الحقيقة من كل الجوانب، ومن بطل الرواية تعلم خوسيه الشك بالتاريخ والدين، ومن هنا جاءت روايته ‘الانجيل بحسب السيد المسيح’، والرواية لا تبحث في تناقضات العهد القديم، بل تطرح اسئلة عن الشهادة والفداء والانتظار. في هذه المرحلة من حياته الروائية يشير خوسيه الى ان مشاهد او لحظات كانت تقوده لكتابة رواية او مسرحية، فالاحتفال بمرور 1200 عام على حرب بين المعمدانيين والكاثوليك في المانيا قادته الى كتابة عمل عنها وعن العمى الذين يصيب المؤمنين، الذين خاضوا حربا دينية ليس من اجل الهين او الهة، ولكن من اجل اله واحد. فهذه الحرب الدينية ادت لاقتناع الكاتب المتدرب او المجرب ان الدين عوضا ان يجمع الناس ويقربهم يتحول الى عامل تفرقة وانقسام، فالدين يؤدي الى عمى، ومن هنا جلس الكاتب لكتابة ‘عمى’، وهي محاولة لتذكير البشر انهم عندما يتخلون عن عقولهم فسيخسرون كرامتهم التي ستهان كل يوم ممن يتمتعون بالسلطة. ثم وفي محاولة اخرى ومن اجل التطهر من شرور العمى جلس الكاتب وكتب روايته ‘كل الاسماء’، عن شخص يبحث عن اخر لاعتقاده ان الحياة لا شيء فيها مهم ويستحق السؤال.
عمى: الفيلم
يذكر انه في عام 2008 قام المخرج فرناندو ميرليز بتحويل روايته عمى الى فيلم سينمائي، وكانت الحكومة البرتغالية قد احتجت على ترشيح روايته ‘الانجيل حسب السيد المسيح’ لجائزة الاتحاد الاوروبي الادبية. ويظل ساراماغو من اهم كتاب الرواية في القرن العشرين ومن اعظم الكتاب البرتغاليين الذين حققوا شهرة خارج حدود بلدهم، خاصة ان اهم الاعمال الروائية بهذه اللغة لم تأت من البلد الام ولكن من كتاب امريكا اللاتينية، البرازيل تحديدا، حيث بيعت اكثر من مليوني نسخة من اعماله حول العالم، فيما يباع اكثر من 150 الف نسخة من كل طبعة من رواياته في بلده وامريكا اللاتينية.
‘ ناقد من اسرة ‘القدس العربي’
القدس العربي
قصص تروي قصصا
الياس خوري
لن يكون العالم بعد موته مثلما كان في حياته. كان جوزيه ساراماغو الذي عاش اعوامه الأخيرة في بعيد جزر الكناري، أشبه بشجرة نتفيأ ظلها، كلما استبد بنا العطش الى العدالة. هذا البرتغالي النبيل والشجاع، كان مدرسة في الأخلاق. من صدامه مع الكنيسة الكاثوليكية بعد صدور روايته الكبرى: ‘الانجيل بحسب يسوع المسيح’، الى احتقاره لزمن برلوسكوني واضرابه من أسياد ديكتاتورية المال، الى موقفه ضد الاحتلال الاسرائيلي حين قام مع مجموعة من الكتاب العالميين بزيارة شاعر فلسطين محمود درويش في رام الله، من أجل التضامن مع نضال الشعب الفلسطيني خلال انتفاضة الأقصى، عام 2002. وفي رام الله قارن بين معسكرات الاعتقال الجماعية في فلسطين وبين معسكرات الابادة النازية.
كان هذا البرتغالي العجوز، الذي نضبت حياته قبل ان ينضب قلمه، نموذجا للمعنى الأخلاقي للمثقف والكاتب. كان الأكثر جرأة، والأقل احتفاء بمغريات هذا الزمن. ولعل صديقنا الشاعر الكبير سعدي يوسف حين أطلق على نفسه لقب الشيوعي الأخير، كان يتصادى مع هذا الشيوعي البرتغالي الذي لم ينحن لعاصفة الرأسمالية المتوحشة، وبقي امينا حتى النهاية لقضيتي المساواة والعدالة.
سوف يُكتب الكثير عن سيرة هذا الكاتب الذي احترف الكتابة في الخمسين. أصوله المتواضعة، عدم اكماله لدراسته، انضمامه الى الحزب الشيوعي، عضويته في البرلمان… وسوف يتوقف الكثير من المعلقين عند تصريحه الشهير الساخر الذي قال فيه: ‘اعتاد الناس ان يقولوا عني، انه جيد لكنه شيوعي، والان يقولون انه شيوعي لكنه جيد’.
غير ان سرّ ساراماغو الكبير اسمه الحكاية. امتلك هذا الكاتب سحر المزج بين الحكاية الكنائية والخرافة، كان واقعياً في تجاوز الواقع، وتاريخانياً في تأويل التاريخ، ومهندس اشكال ورؤى.
لا تستطيع أن لا تتوقف طويلا عند حكاية العماء الذي يضرب جميع ابطال روايته ‘العمى’، فتصير العلاقات الاجتماعية صفحة سوداء يكتب عليها بياض العماء حكاية استغلال الانسان للانسان. كما لا تستطيع ان لا تنذهل من نقطة انطلاقة روايته عن المسيح. يسوع الناصري الذي نجا من مذبحة الأطفال التي صنعها هيرودس، سوف يحمل وزر خطيئة والده، الذي هرب بإبنه من دون ان يقوم بإبلاغ الآخرين، فدفع الأب وابنه حياتهما على الصليب ثمناً لهذه الخطيئة ‘الأصلية’.
عالم من الكنايات والأفكار، وسحر اسلوبي يأخذ الفكرة الى تجسيدها الحكائي، محولا الحكاية امثولة عن المصير الانساني.
من ‘حصار لشبونة’ الى ‘كل الأسماء’ و’سنة موت ريكاردو رايس’ وصولا الى ‘الفيل’، كانت رحلة ساراماغو مع الرواية تلخيصاً مكثفاً للتأمل في أحوال الانسان، ومدوّنة كبرى عن ضرورة الأدب، وحاجة الانسان الى فيئه الروحي، في قراءة تجربته التاريخية مع البحث عن المعاني.
‘نحن قصص تروي قصصاً، بمعنى ما’، كتب الشاعر فرناندو بيسوا. كأن مؤلف رواية ‘سنة موت ريكاردو رايس’، وهو أحد أسماء بيسوا المستعارة، جعل من كل عمله الروائي تجسيداً مكثفاً لهذه العبارة.
رواية المتاهة المتعددة الصوت، النثر الكثيف الذي ينعطف في دوائر تنتقل من صوت الى آخر، السخرية والفكاهة التي تضبط الايقاع الروائي، جعلت من أعمال ساراماغو احدى العلامات الكبرى لأدبنا المعاصر، وللفن الروائي الذي يتجدد مع كل قصة أو حكاية ترويها قصصنا لبعضها البعض.
هذا الروائي الذي ولد في قرية أزينهاغا عام 1922، وعمل ميكانيكياً قبل ان يصير صحافياً ومناضلاً وكاتباً، عبر برواياته من قرن الدم والجريمة الى قرننا الذي تصطبغ بداياته باللايقين والدم.
غير أن ساراماغو، (نوبل للأدب 1998) قدّم معنى جديداً للالتزام الأدبي. شارك أدباء امريكا اللاتينية الكبار في اطاحة الواقعية الجامدة، ورسم رؤية جديدة لمعنى التحرر من كل قيد، جاعلا من الرواية عالماً مرسوماً بحبر المعرفة وسؤالاً متجدداً عن المعاني الضائعة.
عام 2002 قفز ساراماغو الى مقدمة المشهد الفلسطيني. ذهب الى رام الله، وتجوّل في الوطن المحتل، ورفع صوته عالياً في مواجهة عهر الاحتلال ووحشيته.
كان يجب أن يأتي صوت الضمير من مكان ما. امتلك هذا العجوز الرائي شجاعة تخلّى عنها اغلبية المثقفين في زمن يسعى الى تحويل المثقف تقني معرفة، والكاتب والفنان مهرجاً في خدمة وسائل الاعلام.
ولأن التزام الضمير وحدة لا تتجزأ، جاءت مواقف ساراماغو الفلسطينية جزءا من مواقفه النقدية في البرتغال واوروبا. غادر وطنه وهزىء من دور النشر التي يمتلكها الميلياردير الايطالي المهرّج الذي صار رئيساً للوزراء، وانتقد الاتحاد الأوروبي في نزعته النيوليبرالية، التي ستجعل بلاداً كالبرتغال واسبانيا واليونان، مجرد مشهد خلفي لرأسمالية متوحشة سوف ترمي جنوب اوروبا في الفاقة والديون والأزمات.
كان ساراماغو صديقاً للكلمة، وصديقاً لفلسطين.
عالم من دون ساراماغو لن يشبه بالتأكيد عالماً ملأه هذا الكاتب العظيم بالحكايات والمواقف والرؤى.
تحية الى ساراماغو.