متى ينام الرقيب..؟!
حكيم مرزوقي
• مقدمة غنائية للشيخ إمام: “دور ياكلام على كيفك دور، خلّي بلدنا تعوم في النور، ارم الكلمة ببطن الظلمة، تحبل سلمى وتولد نور”.
طلبت منّي إحدى صحف “الخليج” أن أكتب لها زاوية رأي في موضوع يخصّ البيئة ومشاكل التلوّث فأرسلت لهم مقالاً بعنوان “إذا دخلوا قرية أفسدوها”.
كنت أقصد المنشآت الصناعيّة التي تفضّ بكارة القرى ونقاءها، فما كان من إدارة التحرير إلاّ أن فرمت المادّة المكتوبة عن بكرة أبيها وحوّلتها إلى عنوان سطحي وتافه، سألت سكرتير التحرير محتجّاً فأجابني بقوله: “شو عم تجدبها…! ألا تعلم أنّك تكتب في صحيفة تنتمي لنظام ملكي.. وأنّ الآية التي اقتبست منها عنوان مقالتك تقول: «إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها»”.
ابتسمت في سرّي وأنا أعلم أنّ السيّد سكرتير التحرير لا يحمل جنسيّة البلد الذي يعمل لصالح جريدته وقلت له ممازحاً: “الحق معك، أنا أيضاً أعمل وأقيم غالباً بين سوريا وبلاد أخرى، ولم آت من تونس إلى هنا كي أصير معارضاً في بلد استضافني ولم يقل لي يوماً «خذ حقيبتك»، لكنّني لن أسكت عن الخطأ مثل شيطان أخرس، ذلك أنّي في استضافة كل السوريين وتهمّني مشاكل كل السوريين ومن المعيب أن تقول لمضيفك «قهوتك لم تعجبني».. حتى وإن كانت كذلك.. لكنّك لن تقبّله من جبينه إن كان مخطئاً”.
لديّ ولدان، أخوالهما من السوريين.. وليس لهما أعمام لأنّني وحيد في الأسرة والحياة وهذا القرن.. ولست نادماً على ما لم تقترفه يداي.. وعلى من لم ينجبه لي والدي من أشقّاء.
الرقابة العربية تشبه طريقاً طويلة وشاقّة لكنّها ليست موحشة، فالمفاجآت كثيرة والألغام أكثر.. والشهداء يعبّدون الدرب كعادتهم، لكنّنا لن ننساهم بكبسة زرّ أو زناد.
قال ملك عارف لنديمه الشاعر ممازحا ومتوجّسا: “إنّ في الأمر (واو)… ردّ الشاعر على مليكه بقوله: “إنّ في الأمر (إنّ) يا جلالة الملك”.. كان الأوّل يقصد الآية الكريمة: “والشعراء يتبعهم الغاوون”… أمّا الثاني فكان يقصد الآية القائلة: “إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها”… هكذا يلعب العارف مع العارف والرقيب مع الرقيب.. انظروا إلى بهجة المعرفة.
قصّتنا مع الرقابة لا تنتهي إلاّ بسكوتنا عن الكلام المباح ذلك أنّ شهرزاد ما زالت تسامر مليكها في سبيل الاستمرار.. وإلى أن يصيح ديك الفجر الذي تأخّر قليلاً، لكنّه قادم.. ولن يسبقه السيّاف الذي يسبقه سيفه.
مازال هناك ألف ديك وديك يخصّب ألف دجاجة ودجاجة تبيض ذهباً اسمه الكلمة التي قدّستها كل المعتقدات؟ مهما طار ريشنا ونتف.. وصنعوا منه أجنحة للآخرين.
غرائب الرقابة العربيّة لا تنتهي من ذاك الذي شطب لنفسه نصّاً كتبه بنفسه تحت ذريعة الإخلال بالأخلاق العامّة..!، إلى ذاك الذي عاقب أطفاله وحرمهم من قناة أفلام الكرتون لأنّهم لم ينصتوا بخشوع لخطاب حاكم البلاد.
أمّا أخطر أنواع الرقابة المزمنة فهي تلك التي تستوطن في داخلنا فيمسي القلم “كلبشة” وسقف تفكيرنا أرضيّاً لا يليق إلاّ بالصراصير والحشرات الزاحفة.
الكاتب الحقيقي هو ذاك الذي يغمس طرف لسانه في حبر القلب ثم يكتب حتّى لا يبتلّ في فمه سرّ أو ضغينة أو كلام.
الحاكم الحقيقي هو ذاك الذي لا يخيفه المتكلّمون بل الساكتون والمصفّقون، لأنّ الأيادي التي أدمنت التصفيق قادرة على الخيانة والإيذاء في كل لحظة.
الرقيب الحقيقي هو ذاك الذي يحرس الحريّة ويمنع المتسلّلين تحت رايتها من الثعالب وبنات آوى.
• كلمة ع الطاير: إن كان لا بدّ من قفص فاجعل قفصك السماء ولا تمدّ يدك إلاّ لتقطف النجوم.
– دي برس