صفحات ثقافية

من حكايا المهاجرات في شمال أميركا

null

عندما يصبح لصوتك مذاق الوطن ـ البيت الأول

تورنتو ـ جاكلين سلام

كلما تعرضت بلاد ـ أيّ بلاد ـ لحروب قصيرة، طويلة، حامية أو باردة، حزم المواطن البائس أحزانه وحقائبه ولجأ إلى أي مهجر متاح. كلما أمعن الديكتاتوريون في خرابهم وقمع مواطنيهم، كلما تراءت البلاد البعيدة، المكان الأصلح للعيش بكرامة وحرية. من الصعب التهكن بما تحمله هذه التجارب من إشكالات ضاربة في العمق وبالغة التعقيد. هنا نعاين بعض الحقائق من خلال حكايات هذا الكتاب المعنون بـ “عندما يصبح لصوتك مذاق الوطن” فنقرأ مقالات وقصصاً وأشعاراً كتبتها نساء من جميع القارات، من الصين، الهند، ايران، فلسطين، البرتغال، ايطاليا، نيوزيلاندا، باكستان، جنوب أفريقيا، الاورغواي، هولندا وغيرها من دول العالم. جميعها كتبت في الأصل باللغة الانكليزية. بعضهن كنّ يعملن في مهن جيدة وأغلبهن متعلمات وحائزات على شهادات علمية وخبرة عمل في البلاد الأم. قامت بتحرير الكتاب سيدتان مقيمات في كندا، هما نيلا سمية كارتن من كينيا وبرابجوت بارمان من الهند، العاملتان في حقول حقوق المرأة والإنسان، معاينة شؤون الأسرة والحد من العنف الموجه إلى المرأة. ومن هناك ولدت فكرة تحرير هذا الكتاب، فالتجربة العيانية الميدانية دعتهما للعمل على دعوة النساء المهجريات من أصول متفرقة للكتابة عن تجربتهن. هذا وأن مايسمى بالصدمة الثقافية التي يواجهها المهاجرون الجدد من أي بلد إلى شمال أميركا، أدت إلى تأسيس مايسمى بمراكز الجالية، افتتاح جمعيات وروابط لتوفير المعلومات القانونية والإجتماعية والميدانية العملية التي تساعد المهاجرين على كسر حاجز العزلة والضياع والبحث عن الهوية والعمل. كما أوجدت مراكز خاصة لتقديم العون للمرأة تحديداً وللأسرة بشكل عام، وذلك لما تواجهه من صعاب جراء الاختلاف في العادات والتقاليد التي تتصادم غالباً مع أعراف وقوانين البلد المضيف.

شهرزادات المهجر الجديد:

في هذه الحكايات نجد الطبيب الجراح يشتغل قصاباً، الممرضة المختصة تشتغل في تنظيف المشفى. المهندس والتكنولوجي، الطبّاخ ومزيّن الشعر… كلهم يحتاجون إلى “كورس” جديد لتعديل خبراتهم وتأهيلهم للعمل من جديد وفق أبجدية وأحكام البلد الجديد. ونجد الأمل والنجاح والرغبة في الاندماج حاضرة أيضاً. السنوات الأولى تفرض على المهاجر(ة) مجازفة وانخراطاً في أشغال يعفّ عنها أبناء البلد الأصليين، إلى أن يكتسب المهاجر “خبرة” ويتقن اللغة الجديدة، بما فيها اللهجة والأعراف. وتواجهنا أيضا صور أصبحت نمطية ويعرفها كل من يعيش تجربة المهجر وهي العلاقة الشائكة بين أفراد الأسرة والاختلاف بين الأجيال، بين الأبناء الذين يولدون في هذه البلاد، يتعلمون لغتها ويكتسبون تقاليدها، فيبدأ الصدام بينهم وبين الوالدين، وخاصة الملتزمين منهم المتمسكين بشدة بتقاليد البلد الأول. وتزداد الاضطرابات قسوة في قصص نساء قادمات من باكستان وايران وافغانستان، حيث التراتبية الذكورية والتفرقة الجنسية متوارثة. نقرأ في إحدى هذه القصص تبايناً ثقافيا واجتماعيا حاداً بين ثلاثة أجيال وذلك من خلال قصة تحكي تجربة الجدة في افغانستان، والتي تم تزوجيها من قبل أهلها لطفل صغير، وذلك فقط كي تقوم بخدمة الأسرة ووالد الزوج، بعد أن توفيت زوجته. هذه الجدة التي عاشت مثل هذه الظروف البائسة، تقدم إلى كندا كي تشرف على التعاون مع حفيدتها على تربيتها مولودها القادم. الإبنة في هذه القصة، تضطر للهجرة إلى كندا بعد عقد زواج مع أحد الأشخاص، كي تسرع بالتخلص من حملها الذي كان نتيجة اغتصاب تعرضت إليه الفتاة في سن مبكرة. وبقي هذا الجرح يحفر خارطة الألم في روحها وكيانها. أما الحفيدة التي ولدت وعاشت في هذه البلاد فتقع في مأزق الخلاف مع والدها ووالدتها في مرحلة المراهقة والشباب، ولا تستطيع تقبل توصياتهم لها وتدخلهم في طريقة حياتها وتأديتها الشعائر الدينية والاجتماعية. تعيش الحفيدة في صراع مع محيطها الأسري، تقيم علاقة غرامية مع شاب من غير دينها وبلدها، وتثمر العلاقة عن حمل، لكنها تقرر وصديقها إجهاض هذا الحمل “الغلط” فتواجه المشكلة مع والدتها التي ترفض فكرة الإجهاض، وتواجه الخلاف مع جدتها التي تجد في كل هذا عاراً كبيراً لا يمكن السكون عنه.

تحكى هذه الأسرار من خلال شخصية الطبيبة النفسانية التي تعقد جلساتها الفردية مع كل امرأة على حدة.

في قصص أخرى نقع على مسألة العمل في المهجر، وهي مسألة شائكة مانزال نقرأ عنها المقالات في الصحف اليومية، وماتزال مطروحة للنقاش على مستويات حكومية متفرقة. بالتأكيد ليست كندا بحاجة إلى سائقي سيارات يحملون شهادة طبيب أو مهندس، ولسنا بحاجة لحراس بنايات يحملون شهادات جامعية وخريجي فنون وآداب. ولسنا في حاجة إلى عامل(ة) تنظيفات في مقهى يحمل شهادة في علم النفس أو الاجتماع. بعضهم يتمكن من اجتياز امتحان “تعديل الشهادة” والدخول في ميدان العمل الطبيعي، وبعضهم تنهكه المحاولات ويقع في الإحباط وينصرف إلى تحصيل لقمة العيش أياً كان مصدرها. وهذا مانقرأه في قصة كاتبة ايرانية تصور معاناة الطبيب الذي يعمل قصاباً، والأثر الذي تحدثه الصدمه حين يتعرف ابنهما على حقيقة عمل والده الذي “كذب” عليه ولم يخبره شيئاً عن طبيعة عمله الجديد. هذه الإشكالات تترك ظلاً ثقيلاً على العلاقة الزوجية والحب الذي كان يربط بين أفراد العائلة، كما يتمدد ظل هذه العلاقات لينعكس على شبكة العلاقات الاجتماعية مع الأفراد والأصدقاء الذين هاجروا باختيارهم طلبا للجوء الانساني هرباً من عسف حكومات بلاده، وهرباً من الحروب أو الاضطهاد الديني والعرقي والقومي.

وفي قصص أخرى تبرز إشكالية الثقة المفقودة بين الأم والأب والابنة، التلصص والمراقبة التي تلاحق كل خطوة تقوم بها الفتاة عند خروجها من البيت وعودتها. هذا إلى جانب رغبة الأهل بتقديم ابنتهم أمام المعارف والأصحاب، كمثال للالتزام بالعادات كما هي عليه في بلد المنشأ. وفي كل الأحوال تنال الأم تقريعاً من قبل الأب، كونها المسؤولة عن تربية وتوجيه الأولاد.

تطالعنا إشكالية أخرى في حكايات المهاجرين، وهي المراوحة مابين فكرة العودة إلى البلد الأم، وعدم المقدرة على ذلك. وبالطبع هناك من يختار العودة بعد أن تضنيه الطريق ويكتشف أن البلد، بكل مواصفاته المناخية والاقتصادية والاجتماعية، لم يكن على مقاس الحلم الذي جاؤوا من أجله مختارين أو مكرهين. ويطالعنا هذا في مقالة تكتبها امرأة عن تجربة والديها اللذين قدما من البرتغال وفي ظن الوالد أنه سيعمل بعض السنوات ليجمع المال الكثير ومن ثم يعود إلى بلده الأول. لكن الوالد يقول لزوجته فيما بعد “لو كنت أعرف أن هذه هي الأحوال في كندا لما قدمت من الأصل”. وبعد سنوات من المعاناة يقرر الوالدان العودة الى هناك، وتبقى الابنة هنا، وبينهما الهاتف والذاكرة.

وفي قصص وقصائد النساء الصينيات تطالعنا مسألة الحنين إلى البلد الأم والارتباك حيال الظرف السياسي في هذا البلد وذاك، مسألة التفرقة العنصرية، والرغبة في الهرب من بلد “كولونيالي سابقا” إلى بلد الأم الذي كان واقعاً أيضاً تحت سطوة كولونيالية.

قصص وكتابات متفاوتة في قيمتها الإبداعية، ترفع صوتها وترسم الصورة باللغة الانكليزية وباللهجة “المكسورة” لتكون صوت الذين وقعوا في التجربة. تقدم صورة عن تجربة الذين تخطوا إشكالات السنوات الأولى ووضعوا أقدامهم راسخة في لبنة المجتمع الجديد، وأصبحوا جزءا فاعلاً في ثقافة البلد الجديد وأدبه واقتصاده أيضاً. ويمكنني القول إن المهاجر العربي قد نجح في ترويج نكهة “الشاورما، الحمّص، التبولة، المشاوي الكباب والفطائر..” إلى جانب الرقص الشرقي. وحتى الصحف العربية المطبوعة هي قسمها الأكبر مخصص للإعلان عن هذه البضائع. ولايستغرب القارئ إذا أتى يوماً إلى مطعم عربي ووجد في خدمته شاعرة أو مهندس. إنها السنوات الأولى ومابعدها. “السنوات الأولى”! جملة حائرة تستحق التأمل. لامقياس زمني لهذه السنوات الأولى. وقد تمضي سنوات تتعدى نصف قرن ويبقى المهاجرـ المنفي، كأنه “قادم جديد”، من حوله كل أصناف التجارب الحسنة والحزينة، وفي قلبه بوصلة تتجه دوماً نحو ذاك الذي يسمونه “البيت الأول”. ذاك الذي سرقه أبناء الصراصير.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى