«تأجيل الجسد»
اسكندر حبش
غالبا ما كنّا نمزح مع عباس بيضون، عبر استعادتنا جملة شهيرة له تقول «كان من الممكن تفاديها». في أيّ شيء يمرّ بنا، ولا يعجبنا أو لا نتوافق عليه، كنّا نستعيد هذه الكلمات القليلة، التي قالها عباس يوما لمهدي عامل في نهاية سبعينيات القرن المنصرم. تفيد «الخبرية» بأنه من المعروف عن مهدي عامل – وبعيدا عن كتبه النظرية والفكرية – أنه كان يحب كتابة الشعر (حيث أصدر عددا من المجموعات باسمه الحقيقي «حسن حمدان»). ذات مرة، أصرّ مهدي على قراءة قصيدة جديدة له، في لقاء في أحد البيوت ضم العديد من مثقفي البلد وكتّابه. الجميع أثنوا على القصيدة – (ربما خجلا) كما يروي عباس الحكاية – وحين طلب مهدي من عباس رأيه، أجابه زميلنا «كان من الممكن تفاديها».
لا أعرف إن كنت أرغب في استعادة هذه الجملة لأقول لك عن الحادث «كان من الممكن تفاديه». إذ لا أعرف إن كنت تفكر في قصيدة أو في رأي ما أو حتى كنت تكتب مقالتك في رأسك وأنت تقطع الطريق، قبل أن تصدمك السيارة لتؤول الأمور إلى ما آلت اليه من ألم وتعب ووجع، نتمنى أن تزول بأسرع وقت ممكن.
ومع ذلك، «كان من الممكن تفاديه»، تماما مثلما كان من الممكن تفادي هذا الكلام هنا، الذي يجبرنا أن نستعيد بعضا منك، بينما كان من المفروض أن تكتب أنت اليوم «إشكالك»، أي أن تكتب هذه الزاوية التي ثبتّها يوميا منذ أن جئت إلى هذه الصفحة، والتي كنت تريدها مساحة حقيقية للنقاش والجدل والرأي الثقافي، لا أن تستعيد مجرد عواطف وأحاسيس، أي كنت تريدها رأيا ثقافيا وقبل أي شيء، حتى وإن كنّا نختلف في وجهات النظر، حول العديد من الأشياء.
اعترف حقا، بأني لا أعرف ماذا أستعيد من هذه السنين الطويلة التي مرّت بكلّ ما حملته من صداقات ونقاشات وحتى مشاحنات، أجد اليوم أنها لم تكن لتستحق أن تأخذ منّا الوقت وأن تجعلنا نعاتب أحيانا بعضنا البعض. فأمام هذا الألم الذي يصيبنا يسقط بالتأكيد كل شيء، ربما لأن العاطفة أصدق من جميع هذه الثقافات التي كنا نريدها.
أتذكر يا صديقي. أول «إشكال» كتبته أنا، لم أكن أجد له عنوانا، فاقترحت عليّ عنوان «تأجيل الجسد»، وكان حول كتاب فرانسواز جيلو عن بيكاسو، حيث ربطته بـ«الاسم العربي الجريح» للخطيبي.
هل هو قدر ما، حين أرى اليوم، هذا الجسد الجريح، المؤجل، الممدد فـوق سرير المستشفى؟ لا بأس، المهم أن كلمتك لم تُجرح، إذ إننا ننتــظر أن تعود لتخـبرنا، على الأقل عن هذه الرحلة المفاجئة، إذ بالتأكيد سيكون عندك الكثير لتخبرنا به.
السفير