مــن أصدقــاء عبــاس بيضــون.. باقــات كــلام
لم يضئ عباس بيضون قلمه بعد، ولم يخبر أصدقاءه عن الحادث الذي تعرض له ذات ليلة بموهبته الحكائية المعهودة، فبعض العتمة لا تزال تربض على مخيلته. هو مسكون ببعض القلق، نعم، لكننا بتنا مطمئنين تماماً على صحته، إذ قد يغادر المستشفى غداً، بعدما تعافى تماماً من جروحه. ينتظر أسابيع قليلة كي يطلق قدميه للريح، ويطلّق سريره الذي كثيراً ما كان سبباً في انزعاجه. هو في سريره يقرأ جريدة الصباح، ويقلب في بعض الكتب التي تصله إلى المستشفى، لكنه يؤجل القراءة المكثفة والكتابة المركّزة إلى موعد ليس بعيداً.
منذ اليوم الأول للحادث كان علينا أن نتلقى وكل أصدقائه القريبين اتصالات يومية لا تتوقف، من لبنان والخارج. أصدقاء كثر علقوا أوقاتهم للسؤال عن صحة عباس، معهم مثقفون يعرفون جيداً أن من تعرض لحادث خطر هو واحد من أخطر المثقفين العرب، بل علم من أعلام الشعر في العالم. لم تهدأ الأسئلة، فعدد كبير من الأصدقاء كرروها يومياً، وعبروا عن خوفهم ثم عن اطمئنانهم، ثم عن فرحتهم بخبر مغادرته القريبة للمستشفى.
كان عباس يبدو مرتبكاً أمام عيون زواره في المستشفى، لا يحب لحظات الضعف تلك، وإن كان يُكبر فيهم حبهم واهتمامهم ودعاءهم الحار له بالشفاء. إلا أن بعض الأصدقاء رأوا أن يكتبوا له بعض كلام لطيف، وهو يستعيد نفسه بالقراءة، فتكون نصوصهم أول ما يقرأ، ويكون الحب أول عنوان للصداقة، ثم تكون هذه الصفحة في «السفير الثقافي»، التي طالما لوّنها بجرأته ونقده وأفكاره، وعوّد العديد من القراء انتظارها على جمر الأحداث الثقافية وحتى السياسية، حاملة باقات الكلام المهداة إلى ذاكرة عباس.
تطول لائحة المهتمين بالسؤال عنه عبر الهاتف من الخارج، حتى أن البعض تكبدوا مشقة الحضور للاطمئنان من قرب، كما فعل فخري كريم رئيس مجلس إدارة جريدة ومؤسسة المدى، الذي زاره أكثر من مرة. وكان الفنان مرسيل خليفة العائد للتو من سفر آخر من زار صاحب قصيدة «يا علي» أمس. وبلفتة كريــمة كان رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط زاره للمرة الثانـية، ولمرة ثالثة زاره أيضاً وزير الصحة محمد خليفة. وتطول اللائحة، لكنــنا نعتذر عن ذكر العديد من الشخصيات، فالمجال هنا مفتوح لنصوص تمسّد قلب عباس وتفتح عينيه واسعتين على بحر من المحبة.
الآتــي إلــى الشــعر من غربة صديقٌ يُحسَب حسابُه
خالدة سعيد
في الستينيات، يوم كان أدونيس يحرر الصفحة الثقافية في جريدة «لسان الحال»، لصاحبها الراحل جبران الحايك، جاءني بمجموعة أوراق وقال لي، على عادته حين يعجب بنص، «خذي انظري».
كانت نصوصاً غير موزونة، أدهشتني شعريتها، وفاجأني ألقها وتوترها، فاجأني بالأخصّ غياب كلّ قصد جمالي بالمعنى المعروف الغالب. كان فيها فورية وفوران بل عنف لاجمالي عفوي مدهش. فكرت في نفسي: من أي منبت سرّيّ وعر ثريّ يطلع هذا الفتى؟ وقلت لأدونيس: عرّفني إليه.
عندما طلب مني عباس كتابة مقدمة لأعماله الشعرية، سألته عن تلك النصوص التي طالما طالبته بنشرها. فقال إنها نصّ «البحر» المنشور مع قصيدة «صور». لا ذاكرة عباس في هذه الأمور مرجع ولا ذاكرتي عادت كذلك.
صحيح أنّ نصّ «البحر» هو من تلك الأجواء، لكنه، بحسب انطباعاتي، أقلّ عنفاً (على الرغم مما يميزه من العنف). فوق ذلك، يقول عباس إنّ نص «البحر» كتب في مطالع السبعينيات، وكانت مجلة «مواقف» قد بدأت الصدور منذ 1968. وبالتالي ما كنت سأعيد تلك النصوص الأولى إلى عباس قبل أن تُنشَر في «مواقف». لكنني لم أناقش عباس لأنني لم أملك دليلاً يطمئن ويحسم.
وعندما أفكر في عباس تحضر تلك النصوص الغائبة الحاضرة في بدائلها، يحضر شعور غامض بدغلٍ شعريّ ضاع منّا؛ ولا تفارقني الرغبة في البحث عمّا تكون النصوص العديدة التالية التي أضاعها هذا الشاعر المسرع في المكان والزمان. أتذكّر الآن شعراء صمتوا أو توقفوا عن الإعلان عن أعمالهم، ولا يهدأ في رأسي البحث عما يمكن أن يكونوا قد كتبوه، عمّا يمكن أن يكتبوه في الصمت؛ كما لا يفارقني الهلع من احتمال ضياع هذه الممكنات النادرة. ولا أتوقف الآن عن تصور ما يمكن أن يجتمع في رأس عباس، وهو راقد في سرير الإصابة، من غيوم الشعر المثقل بالأسرار.
عبّاس صديق حاضر، لكنه قلّما يحضر عمليّاً، لأنه قلّما يتذكّر موعداً (لا أقصد مواعيد العمل)؛ وإذا تذكّر جاء متأخراً. وإذا تأخّر فإنه يُنتَظَر. حتى أستاذه في السوربون جمال الدين بن شيخ انتظره ذات يوم طويلاً، كي يصل ويلقي مداخلته أو بحثه حول الشعر الحديث. لكنه متى وصل نظنّ أننا نحن من أخطأ حساب الوقت.
عباس بيضون من مجموعة مثقفين (في لبنان خاصة) لا نقدر أن نرسم ضفاف معرفتهم، ولا حدود قدرتهم على المفاجأة، وعلى ابتداع الرأي والموقف.
وهو صديق حقيقيّ بلا أي التباس. حقيقيّ إلى درجة أنه لا يمكن أن يجامل صديقاً أيّاً كان الموقف. وأنا شخصيّاً أستشيره (متى استطعت) وأحسب حساب جوابه، لأنّ جوابه جواب عارف لا يعرف المجاملة. ويدهشني في عبّاس احتفاله بالآخرين في شكل خاصّ. أقرأ ما يكتبه حول الشعراء، وأحتفظ به وأعود إليه.
ولا يمكن أن ننسى أنّ عبّاس بيضون من نخبة في لبنان قادرة على التوجّه، بلهجة واحدة ودرجة واحدة من الحرص والعدل والصدق والمعرفة، إلى جميع الأطراف المتناحرة. هذه النخبة التي منها عباس هي صوت ضميرنا الجمعي الأصفى.
وعباس فوق ذلك كله والد الرائعين بانة وزكي.
خالدة سعيد
(باريس)
«حيث يوجد الخطر ينمو أيضاً مـا يســاعد علــى النجــاة»
عيسى مخلوف
في باريس، رأيتُ فيكَ ما فاتني أن أراه في لقاءاتنا المتقطّعة في بيروت، وكذلك في غرناطة حيث التقينا مرّة وكنّا قريبين من لهاث لوركا المنتشر فوق التلال القريبة من «قصر الحمراء» وحدائق «جنّة العريف»، وقريبين من نشيده الذي لم يتمكّن من إخماده القَتلَة. ألا تزال تذكر؟
في المرّة الأخيرة، ذهبنا معاً إلى متحف «غيميه» للفنّ الآسيويّ وشاهدنا معرضاً للفنّان الياباني هوكوساي الذي ترك أثره على عدد كبير من الفنانين الفرنسيين في القرن التاسع عشر. على غير عادتك، لم تتحدّث كثيراً ذلك اليوم. وكلامك الذي يفتتن بنفسه ويفتن سامعيه لم يتدفَّق كشلاّل. لحظة صمت رافقتنا إلى المقهى المجاور، ربّما لأنّ أعيننا كانت مثقَلَة بثمار ما رأت وحلّ فيها ما يشبه الخَدَر الجميل. استوقفتني تلك اللحظة يا عبّاس لأنّها انطوت على إشارة، والإشارات، كما تعرف، تبقى في حالة حَمل دائم.
اللقاء الذي سبق هذا اللقاء جاء قبل يوم واحد من عودتك إلى بيروت، وكنّا احترنا بين معرضَين جديدَين: الأول في «متحف بيكاسو» ويتضمّن أعمالاً لبيكاسو مستوحاة من أولغا، المرأة التي عاش معها الفنان علاقة عاصفة ككلّ علاقاته العاطفية، والثاني في «متحف الفنّ الحديث»، وكان معرضاً استعادياً شاملاً لبيار بونار.
لستُ أدري لماذا وقع الاختيار على بونار. ربّما لشعورنا بأنّ متحف بيكاسو بعيد، داخل منطقة «الماريه»، وأنّ ذلك يتطلّب منا وقتاً أطول، وكنتَ تحصي وقتك وتجعل الثواني تنوء بما كنت تريد حينها أن تحمّلها إياه.
داخل المعرض لفتتني عينكَ التشكيلية وثقافتها المرهفة. ونسيتُ لبرهة أننا نأتي من مكان يندر التواصل فيه الآن بين أنواع الفنون المختلفة، وبينها من جهة وبين المعرفة ككلّ، من جهة أخرى.
كان حاضراً في حديثنا وتجوالنا بين أقسام المعرض، الفنان اللبناني الراحل شفيق عبود الذي كان يروي لنا مازحاً كيف أنه، لفرط تأثره ببونار، يشعر بأنّ الفنان الفرنسي يسرق منه أفكاره. كان عبّود يعيش هاجس الكمال نفسه الذي عاشه بونار. ومن المعروف عن هذا الأخير أنه كان يلاحق أعماله في المتاحف، متحَيّناً الفرصة «لروتشتها» بالريشة التي كان يخفيها في جيب معطفه… لا أزال أذكر بأيّ طريقة تحدّثتَ عن بونار وكيف وصفتَ لعبة اللون والضوء في أعماله التي تفيض بالضوء. ولفتتكَ اللوحات التي تمثّل المرأة وهي تستحمّ، والمرأة الخارجة من حوض الماء. في تلك اللوحات، لا يعود استحمام المرأة حدثاً عادياً على الإطلاق.
أتذكَّر الآن وأذكّركَ بذلك كلّه، مع أنّي أعرف أنّك لا تحتاج إلى من يذكِّرك بهذا الموضوع، وأنّ بعض اللحظات التي نعيشها لا تدخل في خانة الذكريات لأنها من طبيعة ما يحضر على الدوام.
تأخرتُ عمداً يا صديقي في الكلام على الأمسية الشعرية التي جمعتنا معاً في «المركز الثقافي المصري» إلى جانب أحمد عبد المعطي حجازي وحسن طلب. كانت العاصمة الفرنسية يومها مليئة بالتظاهرات، وكان الطلاّب يجوبون الشوارع، فيما كنتَ أنت، من وراء زجاج المركز المطلّ على حديقة اللوكسمبورغ، تتحدّث، بجرأتك المعهودة، عن واقع الشعر. تشير إلى «الشعراء» الذين أحيوا تلك الأمسية وقد شبّهتهم بالفرسان الذين أبوا إلاّ أن يموتوا واقفين وجاؤوا ليشهدوا على النهايات. كنتَ وأنتَ تعلن حقيقة الوضع الذي آل إليه الشعر كأنما تعلن عن خسوف ما، وفي الخسوف، في الغالب، شيئا من نهاية العالم.
كنتَ تتحدث عن موت الشعر بالطبع، لكن بأسلوب مختلف. بأسلوب يبدو معه الشعر حياً أكثر من أيّ وقت مضى. وكان كلامكَ دقيقاً وجارحاً، وكان عابثاً. لكن هل تظنّ أنّ ما آل إليه الشعر ينفصل عما حوله، أم أنه جزء مما آل إليه العالم نفسه والذي يظنّ أنه قادر على العيش بدون الشعر وبدون الأسطورة والحلم والفنّ والفكر والفلسفة والجماليات؟ وبقدر ما كنت تستطرد في الكلام، كان يحضرني «دونكيخوته» لثرفانتس. فهل تحوّل شاعر الزمن الحديث إلى دونكيخوته، أم أنّ الزمن الذي يشيح بنظره عن الشعر، إنما يبتعد عن المفاهيم الثقافية التي ينتمي إليها هذا الصنف من الإبداع، ماضياً في اتجاه ثقافة أخرى، من نوع آخر؟
قلتَ في تلك الأمسية إنّ الشعر لا ينازع، بل يموت. تكلّمتَ على موته بجمال آسر وبشيء من السخرية العالية المبطّنة بوعي ثقافي وسياسي عميق. شعرتُ وأنتَ تنعى الشعر كأنكَ تنعى مرحلة تاريخية بأكملها، وتنعى ثقافة عرفتها البشرية منذ خمسمئة عام قبل الميلاد، أي منذ أن تمّ ابتكار الحوار الفلسفي على ايدي الفلاسفة الإغريق. ذاك الحوار الذي لا يقلّ أهمية، في مسار الإنسان وسيرورته، عن ابتكار الكتابة، وقبلها اكتشاف النار. بل إنّ اكتشاف الحوار هذا كان ناراً أخرى أخذت البشرية إلى فكر عصر الأنوار وفلسفة القرن التاسع عشر وصولاً إلى النصف الأول من القرن العشرين. كانت الأسئلة الفلسفية التي طرحها فولتير وديدرو وكانت ونيتشه، بداية مواجهة جديدة للإنسان مع نفسه ومع الكون…
لماذا لا نقول إننا على عتبة زمن جديد يا صديقي، بل داخل هذا الزمن الذي يحتاج منّا، بغية التعبير عنه، إلى لغة بل لغات أخرى جديدة؟ وأنتَ من أولئك الذين ينحتون تلك اللغة بأدوات معرفية ونقدية، وتنحتها أيضاً في سجالاتك وفي ما تغذّيه من حوار نفتقده الآن، لكننّا سنتابعه معك، بلا شكّ، في وقت قريب. وسنردّد معاً قول هولدرلين: «حيث يوجد الخطر، ينمو أيضاً ما يساعد على النجاة».
عيسى مخلوف
(باريس)
حالــة تخصنــي أيــها الشــاعر
يمنى العيد
ها أنت تستعيد وعيكَ بعد أن غادرك أياماً، لا ندري إلى أين… ربما إلى استراحة، وربما إلى جولة داخل أقانيم الزمن!!
تستعيد وعيك، أو يعود إليك، ربما نادماً وآسفاً على فراق من له كل هذا العالم الداخلي، الثري، وقد أتحت لهذا الوعي التجوال فيه.
تستعيد وعيك، فنعد أنفسنا، نحن أصدقاءك ومحبيك، بعودتك القريبة إلى سابق عهدنا بك، إلى لقائك على صفحات جريدة «السفير»، وفي مكتبك فيها، نقرأك، وتحدثنا بطلاقتك المدهشة.
أيها الصديق القديم، العزيز دوماً. لا أدري ما الذي جعلني أعيش معاناتك بعد أن استعلمت عن تفاصيل الحادث الذي وقع لك. لعلها حالة مماثلة تخصني وقد ركدت طويلا في الذاكرة، أو لعله ذلك الزمن المديد الذي كرّس لصداقتك حضورا خاصا عندي، أيقظه هذا الحادث المفاجئ الذي وقع لك ورحت أتملاه غير مصدّقة!!
اعذرني أيها الصديق على قول ما قد لا تكون قادراً اليوم على التفكير فيه. ولكن تمثلي لمعاناتك ألح عليّ، وعلى ما جاء من الكلام إلى فمي وقلمي، فحررته بقوله.
دعني إذاً أخبرك الآن عن إعجابي الفائق بما قرأته لك مؤخراً في الملحق الثقافي لجريدة «السفير». عنيت النص المقتطع من كتاب سيرتك «مرآة فرانكشتين» الذي ننتظر، بشوق، صدوره.
استوقفني ما ذكرته عن علاقتك بالحنين، إنه مدهش، فهو يعبّر عن حالة إنسانية مرهقة. وحد من الكتابة الإبداعية القادرة، شأن كتابتك، على نقلها من الخاص إلى العام.
أما ما تقوله عن علاقة الولد، الذي هو أنت، بالآخرين الذين كنت، كما تذكر، ترتجف منهم، فإنه بتأكيدك أنك طرت قليلاً، وبالتالي علوت فوقهم، فيرتقي إلى مستوى الأدب السحري.
لقد ذكّرني ما قرأته من سيرتك بقصيدتك الطويلة عن صور. ولئن كانت هذه القصيدة، «صور» هي من أجمل ما قرأته، يومذاك، شعراً، فإن ما قرأته من سيرتك، «مرآة فرانكشتين»، هو من أجمل ما قرأته من أدب السيرة الذاتية.
إنه حَفرٌ داخل الذات يتسم بالعمق والصدق والجرأة، أي يتسم بما يميز كتاباتك كشاعر، وسارد، ومثقف يكتب في السياسة والفكر والأدب.
أيها الصديق الجميل نحن بانتظار عودتك إلينا معافى. محبتي ودعائي لك بالشفاء القريب.
يمنى العيد
شــكراً لأنــك نجــوت
نجوى بركات
شكراً يا عباس لأنك نجوت. هكذا سنحبّك أكثر. سنحبّك لأنك عاندتَ وقاومتَ وأظهرتَ أن لك جسداً ذا صلابة وقوة رغم كل ما يبدو عليه من ضآلة وخرق، وروحاً تطفو كالزيت فوق مياه التخلّي، وقدَراً متواضعاً بالرغم من غواية تكرار مصير أبيك وأخيك. وسنحبّك يا عبّاس أكثر لأنك جنّبتنا مرثيةً أخرى وحداداً ومواتاً لا ينقطعان، ولأنك رأفتَ واستجبتَ فخلّصتنا من نهاياتٍ لا تني تطحن أفئدتنا وتكشط أرواحنا الرقيقة المهلهلة.
شكراً لأنك نجوت وأنت شاعر «الانتحار» و«شقيق ندمنا» والرائي القاطن «مدافن زجاجية». أعرف كم يشبه شفاؤك المعجزُ هذا كراهيتَك للقسوة ونفورَك من العنف، رحمةً مقيمةً فيك أبداً، وصبراً وقدرةً على تحمّل طعنات الحياة. وشكراً لأنك أدركـتَ أنك لو متّ، كنا سنقتلك عجزاً وقهراً ونكاية بالله.
الآن وأنا على يقين من أنك عائد أيها الحبيب، لك منّي سلام وقبلة وكرسيّ فارغ متروكٌ لك، «لمريض هو الأمل».
نجوى بركات
(باريس)
مـــن شـــدّة الشـــعر
صبحي حديدي
أرجو، في البدء، أن ترى هذه السطور النور وقد صار في وسع عباس بيضون أن يرى وجوه أحبّته، الحاضرين معه هناك، في بيروت، والشاخصين إلى سريره من أربع رياح الأرض. ثمّ لعلّي، كما فعل كثيرون غيري، أستذكر في هذه المحنة مجموعة بعينها، «لمريض هو الأمل»، تعينني في عيادة هذا المريض الحبيب، كما تشدّد الأمل في أنه سيتعافى قريباً.
وقبل سنوات، في تعليق على هذه المجموعة، استذكرت أنّ عباس يكتب قصيدة نثر ممتازة منذ مطلع السبعينيات، وليس منذ أواخرها كما هو شائع. ولقد جرّب وجازف وتمرّس وأنجز، وكانت أطوار مشروعه الشعري مُلزَمة موضوعياً بالاختمار في سياق مزدوج الضغوط: مآلات القلق التعبيري المضطرم الذي اكتنف نماذج «الموجة الأولى» من قصيدة النثر العربية الخمسينية والستينية، وأقدار السكينة التعبيرية التي هيمنت على الكثير من نماذج «الموجة الثانية»، وهدّدت مراراً بزجّ قصيدة النثر في عماء أسلوبي مستكين إلى شكل واحد متماثل، خامل أو مُعْرِضٍ عن التجريب.
ولم يكن في وسع عباس أن يتنصّل من مفاعيل الضغط الأوّل حين كان الزخم التطويري العارم يقود قصائده الناضجة الأولى بعيداً عن نهايات الموجة الأولى، كما لم يكن من حقّه أن يتخفّف من استحقاقات الضغط الثاني حين أخذت القصائد ذاتها تلعب دوراً ريادياً إزاء بدايات الموجة الثانية. وهكذا ظلّ الصوت الأبرز الذي حمل أعباء تلك الحقبة «العالقة»، وتحمّل عواقبها أيضاً! على سبيل المثال، قصيدته الطويلة «صور» (كُتبت عام 1974، وصدرت في كتاب عام 1985)، لم تكن باحة خلفية لأيّ من الكبار أبطال الموجة الأولى، ولكنها في الآن ذاته لم تكن ملاذاً طليعياً يستريح في فيئه السواد الأعظم من الحائرين، أبطال الموجة الثانية: كانت «صور» معياراً رفيعاً لشعرية أخرى تتعامل مع التحدّيات الجديدة التي لا مهرب منها، وكان عباس أشبه بأقصى القياس في تدوين قواعد ذلك التعامل.
ننتظره، إذاً، نحن قرّاء الشعر، لأنّ حاجتنا إلى ذلك القياس الأقصى ليست ماسة جمالياً فحسب، بل هي عارمة «من شدّة الشعر» أيضاً، كما كانت دعد حداد تقول.
صبحي حديدي
(كاتب سوري مقيم في باريس)
عباس بيضون حاضراً في مهرجان «سيت» الشعري
محمد علي اليوسفي
عندما اتصلت بي مديرة مهرجان «سيت»، السيدة مايتي فاليس بلاد، لتهيئة قراءة من أشعار عباس بيضون، أؤديها بالعربية بينما تقرأ ترجمتها الممثلة إيزابيل بوشلستراد، لم تكن أمامي إلا مشكلة واحدة: النصوص العربية غير متوافرة. طلبت محرك البحث غوغل، لكن المشكلة كانت في عدم توافر اللغة العربية على لوحة المفاتيح. وقبل محاولة اللجوء إلى اللوحة الافتراضية خامرني شك في أن إعدادات الحاسوب قد لا تتضمن اللغة العربية الأمر الذي سيدخلني في متاهة البرمجة، وربما التخريب! لذلك غيرت وجهة البحث إلى صور عباس بيضون. وعندما رأيت صورة له في موقع «جهة الشعر» استبشرت خيرا… وتوفيقا.
وكانت النتيجة أفضل من ذلك بكثير: فالقصائد الموجودة بالفرنسية، والتي لا بد من البحث عن أصولها العربية في الأنترنت كانت هي نفسها وبالترتيب نفسه أيضا:
رئيس التحرير الزائر- عباس بيضون – في ملف من إعداد ناظم السيد.
هكذا عثرت على قصائد الحديقة الألمانية (يوميات برلينية) المتكونة من أربعة وعشرين مقطعا، تفي بالحاجة وربما تزيد عن الوقت المخصص للقراءة مع الترجمة.
[[[
يكفي ان تصير هنا لتستحق كل شيء.
لغتك ونقودك باطلة، حياتك صنعت في مكان آخر لكن تعال
ايها الغريب تعال وتستحق كل شيء.
لن يسألك احد عن اسمك، ان جرحا في صدرك يعني اكثر بالتأكيد. مفتاح صغير سيعطيك كل هذه الابواب. لا تنظر اليه حائرا كاللص، انه ليس اكثر من مفتاح صغير. لا تخف من هذه القدرة ستنساها بعد وقت. النافذة تعطيك ايضا الخريف والبحيرة. انك تملك كل شيء وعليك ان تعرف متى ترده.
الجمال يستمر طويلأ بعد ان نتوقف عن انتظاره. الكتب تبقى طويلأ بعد ان ننساها. تعال ايها الغريب يكفي ان تصير هنا لتستحق كل شيء.
[[[
قبل الموعد المحدد يوم الخميس 29 تموز/ يوليو، وكان بين السابعة والثامنة مساء بتوقيت فرنسا، امتطينا الحافلة التي ستأخذنا إلى بانوراميك سانت – كلير. والمكان كما يدل اسمه البانورامي يقع على تلة عالية تشرف على البر والبحر والسماء.
كان الطريق مذهلا في تعرجاته. لكن المفاجأة الأكبر كانت في قوة الرياح العاتية! تشبثتُ بأوراق عباس بيضون، المبعثرة دائما، حتى في سيت:
[[[
أوحلت السماء، تفكر أن الرائحة المحبوسة لا بد ستهرب من البراد، ان عليك أن تحمل عارك بعيدا عن الغرفة. تقول بأي سرعة تتكوم الصحف. لماذا وضعت طعاما على طاولة الكومبيوتر؟ حيث على أسوأ الأفكار أن لا تترك اثرا؟
إنهم يعرفونك من قمامتك ونحن لا نملك سرا أمام الخادمات.
السماء أوحلت وهكذا يمكنك أن تهرب بجريمتك. الطبيعة تترك بلا خجل قذارتها على الطريق، السماء تبصق بلا احتياط.
تستطيع أن تدفن بلا حرج قميصك الوسخ لكنك لا تقدر على أن تتحرر من كلمة غير مناسبة.
أوراق كثيرة على الأرض، حتى لغتك تترك بقايا…
لكن الخادمة من بين كل الأشياء المرمية تعيد كل
كلماتك المكروهة.
على العكس ستجد فوق سريرك نقودك الصغيرة وبطاقاتك.
وحدك عليك أن تغرقها.
ثم ان أحدا لن يعرف أنك وضعت كلمات كثيرة زائدة في قصائدك. المعاني المسروقة بعناية، والتي كبدتك رحلات طويلة، ضائعة بينها. هناك أيضا الطفيليات المتسللة من حقول جيرانك، عليك وحدك أن تغرقها.
[[[
ومع هبوب الريح التي تغلبنا عليها؛ إيزابيل وأنا، بمزيد التمسك بأوراق عباس، وعلى الرغم من زئيرها المتواصل، كان الميكروفون قادرا على إحضار ارتباكات عباس بيضون، للمنصتين إليه، عبر وسيطين، ولا شك أن عباس وصل إليهم أيضا من خلال التقديم لسيرته الذي قرأته إيزابيل، وتفاصيل الحادث كما تحدثت عنه أنا… وصلهم ممزوجا بأنين الريح وحفيف الأوراق واضطراب الموج … هناك في الأسفل…
محمد علي اليوسفي
([) شاعر وكاتب من تونس
لستَ مِن شعراء الطرق الآمنة
مريد البرغوثي
أنت لست من شعراء الطرق الآمنة على أي حال. إنه حادث مرور يا عباس. دعنا نحصره في هذا الحيّز: صدمة فمستشفى فعلاج فشفاء فعودة إلى ما تتقنه في كل الأحوال: الكتابة. الكتابة في تعريفها العفيّ، أي الكتابة التي تجد لها أنصارا حقيقيين وخصوماً حقيقيين، ثم عودة إلى ملحق «السفير» الذي أعطيته وأعطاك لنكون نحن الرابحين، ثم عودة إلى المرور مجددا عبر الطرق التي تريد وتختار كما يليق بشاعر مجازف أدمن الصدامات التي تؤدي إلى جدل لكنه بلا نزف. أنت لست من شعراء الطرق الآمنة، وهنا بالضبط موقع قلبك وعقلك وخطاك. معناك في شجارك الدائم مع «بستانيّ حياتك». ولأن الدنيا عدوّة لكل شغَف، سوف تستمر في المجازفة الجميلة. إنه حادث مرور يا عباس، غادره بسرعة وعد حتى نتشاجر معك قليلاً، وربما كثيراً لكن بدون مرارة، فمن هدايا الثقافة لأهلها أن نجد من يخالفنا الرأي برأي هو صاحبه الأوحد.
عباس بيضون، لك السلامة.
مريد البرغوثي
(شاعر فلسطيني مقيم في القاهرة)
كـــم أحبّـــه
هدى بركات
لن تقول لي نجوى أختي الحقيقة. تعرف أني معطوبة. تعرف كيف عطبني موت جوزيف الذي ما زلت أجره بين أسناني ولا اعرف أين ألقيه، في اية غابة، لابتعد من اجل ما تبقى لي من قلبي سليماً من تآكل جوزيف المستمر. قلت لن تقول نجوى الحقيقة فلأتصل بعزة. إن كان… ستقول عزة.
ـ ألو… شويا عّزة؟ عباس؟
ـ قالوا لكِ؟ كيف عرفتِ
ـ عرفت ماذا يا عزة؟
بما انها لم تغص ولم تبكِ ولم… وراحت تتكلم عن العناية الفائقة… في الاتصال الثاني قالت: نصفه الأسفل محطم و… قلت مش مهم نصفه الأسفل…
وأنا أفكر ان الإنسان يموت من نصفه الأعلى… ثم اتصلت عّزة وقالت انه الآن نفد، لم يعد من خطر على حياته. موجوع ودائخ قليلاً.
ثم اتصل جورج وقال فرحاً: صحي عباس وتكلم قال انه جائع… وبالفرنسية! تندّرنا على نحو ما نفعل دائماً حين يتعلق الأمر بعباس.
[ [ [
في الباص الذي استقل الى عملي رحت امشي، الى جانبه على الرينغ كنت غضبانة أكثر مني عاتبة. أنا اصلا لا استطيع تخيّله متريضا. وعلى الرينغ؟!
هذه المرة بالغت كثيراً… لن يكون لك تندرنا بذهولك وشرودك وبسهوك؟؟ الذي نقرنه دوما بالعبقرية… تبا للأفكار البركانية التي تبقبق دائما في رأسك، وتبا للاشعار. التفت يمينا ويساراً حين تقطع الطريق… على الرينغ!
أنا المعجبة بعباس على طريقة اعجاب المراهقين بالبيتلز لم اكن أحبه من اجل الثقافة والأدب. ولم اكن موافقة على خوفنا الدائم عليه من الانتحار، او عمليا من كل شيء.
لا يكون سعيداً في الحياة من له رأس عباس، أفكاره وحدة الذكاء المقرون بهذا القدر من الحساسية. لذا لم احدثه يوما عن ذلك البكاء السري اعجابا بما يكتب… دائما كنت اريد ان اسحبه الى المنطقة العادية التي للبشر «الموزونين».
كان عباس ينام عندنا مرة في الاسبوع، على الشرفة البحرية في شقة الروشة التي هجرنا إليها كنت اتقصد ألا أكون متفهمة وظريفة وأنا آمرة ألا يحمل معي الصحون الى المطبخ حتى لا يزرع الزيت والصلصات على البلاط الرخامي. أقول له وهو يحلق ذقنه «سكّر الحنفية، ما في ميّ». وفي الغرفة التي كانت له، الخالية إلا من سرير وكرسي كنت اضع يدي على خصري واقول: كيف تنجح في خلق كل هذه الفوضى من لاشيء؟ وعلى الدرج: حاول ألا تضيّع حقيبتك هذه المرة… حاول.
لم يكن يعجبني ان «أرث» عشيقاته كصديقات. لكن كثيرات منهن اصبحن صديقاتي بالفعل لكثرة ما تعلّقت بهن كخشبة قد تسحب عباس الى شاطئ جسده… ان هذا هو قلب مشكلتي معه: اخاف عليه من فصام لا أكف مفزوعة عن رؤيته بين رأس عباس وجسمه… هكذا اتخيّل ان «رأسه» لم يكن هناك حين ضربت السيارة جسمه… لذا ربما بقي رأسه سليما… اقول هكذا لنفسي في الباص…
لا يحق لي هذا الخوف عليه، الذي يشبه خوف الأمهات. منذ تعرفت اليه في كلية التربية التي كان يطل عليها ليضبط قواعد النقاشات الحادة ويذهب، وأنا انظر إليه على تلك المسافة التي تجعلني وأنا اضحك لنوادر عثراته ونسياناته وسهوه اشعر بانقباض في القلب… وفي أيام يثقل فيها عليّ ذلك الانقباض كنت اقول لنفسي: يعجبه هذا الدور وهو يستغرق فيه… تمثيلاً… خبيث عباس، يصنع حبّنا صناعة.
حين تزوج، رحت افتش في بيته الجديد في عبرا عن مدى اهتمام زوجته به… في نظافة المغسلة وترتيب المآكل في البراد والثياب في الخزانة. قلت لعزة… عزة انتبهي له… العروس يبدو تنقصها الخبرة… قالت عزة لا عليك.
انقطعت «رقابتي» القريبة على عباس حين غادرت البلاد. غلبت فرنسا القوة التي كانت لي في اشكال حب الأصدقاء. صار هذا الحب في قعر قلبي ولا تلزمه الجلسات على الشرفات البحرية والسمر لساعات والمواعيد المتلاحقة. وصار الأصدقاء قليلين، وصرت أخاف ان التقيتهم كثيراً ان أزعل منهم… هكذا، لأي سبب، فصرت أراهم قليلاً وأرتضي بحب الكهول هذا.
ماذا سأقول لعباس حين سألتقيه في بيروت؟
الحمد لله أنك لم تمت؟ الله سترني؟
الأرجح أني سأخترع طريقة خفيفة لطيفة لأقول كم إني أحبه.
هدى بركات
(باريس)
هِبة عودتك
منصورة عز الدين
متجاهلةً تماماً أنه لقائي الأول بك، بادرتك بمجرد لقائنا في دوسلدورف بسيل متدفق من الكلمات. أنا المنحازة بطبيعتي للصمت، كنت كأنني أعرفك من قبل، ليس فقط ككاتب وشاعر أقرأ له منذ سنوات، إنما أيضاً كصديق قديم تأجل لقائي به لسبب أو لآخر. ساهم ميشائيل كليبرغ بكتابه «الحيوان الباكي» في خلق هذه الألفة. إلا أن الدافع الأساسي لها هو موهبتك في مد الجسور بينك وبين الآخرين مهما بلغت درجة حذرهم مع غيرك.
لم يكن لدينا الكثير من الوقت، كان علينا حضور افتتاح مشروع «الشرق الجديد: القاهرة ـ بيروت» بعد ساعة فقط من وصولنا دوسلدورف. بعد الافتتاح تحدثنا طويلاً. في الصباح التالي سألتك إن كنت ترغب في مرافقتي في جولة بالمدينة حتى يحين موعد قراءتنا مع إيتيل عدنان. مشينا لساعات في دوسلدورف القديمة. نقاشنا، الذي امتد لأكثر من ساعتين، في ذلك المقهى على ضفاف الراين، أعود إليه من وقت لآخر، وأندم لأنني لم أسجله. لم أكن أعرف وقتها أن «عمل الذاكرة الوحيد هو النسيان».
كتبت لي صديقة عزيزة، وأنت لم تفق بعد من أثر المخدر، أنك تحتاج إلى معجزة، وأنها تؤمن بالمعجزات الصغيرة، فقلت لنفسي المعجزات الصغيرة تليق بالشعراء، تليق خصوصاً بعباس بيضون، ذلك الباحث عن الشعر خارج الشعر.
في ندوتك، هناك في دوسلدورف، أعلنت أنه ليس لديك مفهوم للشعر، ولست حتى واثقا من وجوده، وأن الدليل الوحيد عليه هو القصائد الموجودة. وأنا أقول لك الآن إن الدليل على وجود الشعر هو وجود شعراء مثلك، يعيشون الشعر طوال الوقت، ويبحثون عنه خارجه. وهل كانت رؤيتك لصورة ميك جاجر المعلقة في ذلك المطعم الصغير إلا ضربا من الشعر؟ تأملتَ الصورة من مكاننا بعيدا عنها، قبل أن تسأل إن كانت إحدى لوحات فرانسيس بيكون. أخبرتك بعدما اقتربت منها أنها صورة لميك جاجر لكنّ وجهه مموه بالدخان الكثيف لسيجارته. «تبدو لي كبورتريهات بيكون» رددت بهدوء فاتحاً أمامي باباً سحرياً لرؤية الروابط العميقة بينها وبين لمسات بيكون المزلزلة.
سامحني، أشعر بأن كل الكلام مبتذل وفائض على الحاجة أمام ما تشعر به من ألم. الحياة نفسها تبدو أحياناً كما لو كانت دراما بلهاء، لكنها (أي الحياة) لم تبخل على قرائك وأصدقائك ومحبيك ـ لحسن الحظ ـ بهبة عودتك إليهم. فكن بخير دائماً.
منصورة عز الدين
(كاتبة مصرية)
ملحق السفير الثقافي
إرتكابات بيضونية
عناية جابر
غافلني عباس بيضون واستغلّ فــــترة سفــري وغيابي عن البلد وذهب في مشيه اليومي الذاهل، مُستدرجاً سيارة الى صدمه، ما لبث أن أكل حديدها الصلب نتفاً من جسده، داخله وخارجه.
غافلني وكنت، أنا التي أمارس أمومتي عليه وعلى كافة زملائي في المكتب، لنصحته به.
لو لم أكن على سفر، بالكورنيش البحري يمارس عليه هوسه بالمشي، حيث مشهد المياه المتنامي الى ما لا نهاية، حيث الممّر الرحب للمشاة والإضاءة الناعسة الخلاّبة، وفي المقابل الرحمة الإيحائية يُشعلها القرب الغامض من الماء.
كان لهذا المشي على الكورنيش البحري الذي كنت لنصحته به لو لم يكن غافلني في أثناء سفري، سطوة روحية لا تُثمّن على سلامته. لكنني كنت مسافرة، وغافلني وذهب يمشي على الأوتوستراد بهناءة أرنب في حرج، لا يُعكرّ صفو خطواته فحيح سيارات مسرعة، مؤرقة في تبرّؤئها من المشاة العابرين، كل العابرين متيقظين وغير متيقظين، فكيف بعباس المتعثّر العبور أساساً بين مكاتبنا وكراسينا وفناجين قهوتنا.
على ‘الرينغ’ وفي المناخ المُسمم من ذكرى الحرب الأهلية المتخثّرة فيه، أطلق عباس لرجليه حرية المشي والإرتفاع قليلاً حدّ الطيران. والحال أن مشيه هناك قاطعاً ‘ الرينغ’ لم يكن الأول، سبقته مرّات من الإرتكابات البيضونية التي أخبروني عنها في ما بعد.
شريط من الرعب أراه يلتصق بعادات لعباس جهد الى نكرانها، وأرخى عليها ظلاً في فسحات صمته. عادات يصطفيها صنف من الناس الغريبين، ويصل معها الأمر الى حدّ خسران أنفسهم، لكن عباس ينجو دائماً، ولا تتمهّل المكائد على جسده الصلب، وبجرعات فكاهاته نفسها يُدافع عباس عن عمره.
حين زرته في المستشفى مُمدّداً على سريره نائماً، وقد ألبسني الممرض المسؤول عنه في غرفة العناية الفائقة، مريولاً ليمونياً شفافاً واقياً من الفيروسات، فاح من مشهده هكذا، إحساس يربط بين كتاباته وأهوائه. لا أتحدّث عن رقدة مريض عاديّ، وإنما عن الصلة المباشرة بين طريقة نوم عباس وأسلوبه الكتابي. رقاد مشحون بنفاد الصبر، وشعرت أنا القريبة من أنفاسه أنه ما زال في عناد المشي، ويلهث من فرطه. ماذا يحصل إذا بقي يمشي نائماً، محروماً من التوقّف، من نعمة الإستيقاظ تحوطهُ وتُنجيه؟. عبّاس! ناديته نداء خافتاً، احد أصدق النداءات التي ناديته بها طوال فترة عملنا معاً وصداقتنا. عبّاس! لم يُجب، لكأن نومه الآن يمتلك مغزى ومنطقاً في سياق أرقه المعروف، وفي هيكل تودّده المزمن الى النوم الذي لم يصالحه يوماً، ورقاده الذي يعمّه الآن أفضل ما حصل له في المطلق. عبّاس! لم يرّد بل فلش نوماً إضافياً أمامي وبين يدّي، والحال أن دخول الأطباء لم يُعنّي على مزيد النداء، فخرجت وحيدة من دون صوته، بغية الهروب من عالم الأطباء العدائي باستخدام لطفي كحجة للإنسحاب، فضلاً عن إحساسي بالوحدة القصوى، والإهانة من عدم ردّ عباس، وكنت أرغب أن يفعل لأوقن أن نومه هو مجرّد نوم .
تريّثت على باب غرفته. عيناه مغمضتان كثيراً وشفتاه رقيقتان على نسق شفتيّ عجوز.
جاهدت للإشاحة عن وجهه، كما لو علّق عليه إبتسامة ونسيها مُعلقة حتى ما بعد الحادث.
عبّاس أحد أصدقائي، ويعرفُ من أيّ روح تحدّرت، وهو نائم تركته للأطباء منسحباً من معرفتي. ثمة ناس لايمكن تركهم على حالهم، ومناداتي المتكرّرة له، هو النشاط اليتيم الذي أتممتهُ بعد عودتي من السفر ومعرفتي بما جرى له. عباس، قلتها في الأسانسير الذي ينقلني الى مدخل المستشفى في رغبتي الى تبديد خشية تشبّثت بي.
كان طلب إليّ ذات يوم أن أحفظ عن ظهر قلب بعض الشعر القديم الذي يحفظه، وأعارني بعض أبياته. فهمت لاحقاً أن قدر القصيدة الحديثة وحياتها وأحقيتها، تشبه قدر وحياة وأحقية تلك القديمة، وأن ‘القصة وما فيها’ كامنة في جمالنا نحن. جمال من يكتب وماذا يكتب، وليست قصيدة حديثة أو قديمة. لم أُحبّ تماماً الأبيات التي حفظت لكنها متّعت قصيدتي بحاسة سادسة أعانتها على الهرب من الرداءة والقبح.
في طريق عودتي الى البيت، راودتني بعض الأفكار في شأن الفظاعة التي تُكمن لكل منّا في بعض مفاصل حياته، لكنني كنت واثقة تماماً وأعرف، أنه ينجو.
القدس العربي