درويش وأدونيس: بين ماضٍ من الزمان وآت
صبحي حديدي
في الذكرى الثانية لرحيل محمود درويش، التي تصادف اليوم، أجدني أعود إلى واقعة قديمة نسبياً. الزمان: أواخر تشرين الأوّل/أكتوبر، سنة 2002؛ والمكان: معهد الفكر الألماني، في مدينة برلين؛ والمناسبة: حوار مع محمود درويش حول الذاكرة والشعر، بحضور عباس بيضون، وديع سعادة، أمجد ناصر، عبده وازن، مؤيد الراوي، أمل الجبوري، لميعة عباس عمارة، عبد المنعم رمضان، ولفيف من الشعراء الألمان، على رأسهم يواكيم سارتوريوس، وجمهور غفير؛ وأمّا ‘الحدث’، إذا جاز القول، فهو موافقة أدونيس على تقديم درويش. كان معروفاً أنّ الشاعرين لم ينقلا إلى العلن أيّ نزاع بينهما، والعكس هو الشائع: صداقة، أيام بيروت السبعينيات وباريس الثمانينيات، وزمالة في هيئة تحرير مجلة ‘مواقف’، و’تطبيع’ مشترك حول قضايا الشعر والشعراء الخلافية…
بيد أنّ البسطاء من أهل النوايا الحسنة كانوا، وحدهم، يجهلون الحساسية الدفينة التي نشأت بين الشاعرين، لأسباب شتى لا تخصّ الأدب دائماً. كلاهما كان نجماً، وصاحب تجربة شعرية كبيرة، وجمهور وأنصار وعصبيات؛ وكان اختلال ميزان الجماهيرية لصالح درويش، على نحو ظلّ أدونيس يعتبر بواعثه سياسية وليست شعرية، هو الزيت الذي واصل الانصباب على جمر متقد تحت الرماد. أمّا الجمر ذاته، فلست أخفي قناعتي بأنّه كان يتراكم جرّاء انتقال تجربة درويش من طور أرقى إلى آخر أكثر ارتقاء؛ مقابل ركود تجربة أدونيس، ومراوحة قصيدته عند ثابت لم يعد يتحوّل، أو يتطور، بما يكفي.
في التقديم ذاك، وبعد أن أطلق على درويش صفتَيْ ‘صديق كبير’ و’شاعر كبير’، بدأ أدونيس من منطقة مفاجئة بعض الشيء، وغامضة، في نظري. لقد توقف عند التباس مفردة ‘المحتل’ ‘في اللغة العربية التي أثارها امجد ناصر، وقال (حسب التغطية الشاملة التي نشرتها ‘القدس العربي’، بتاريخ 30/10/2002) إنها ‘تشير في آن إلى مَنْ يقوم بالاحتلال وإلى مَنْ يقع عليه الاحتلال. هكذا تبدو الذات مشغولة بالآخر بدئياً، فيما يبدو الآخر مقيماً في الذات. وهو التباس يساعد الى حدّ في الاقتراب من شعر محمود درويش’.
في الفقرة التالية، سوف يقول أدونيس إنّ درويش ‘ليس شاعراً يكتب شعراً فلسطينياً، كما تحاول بعض النظرات أن تؤطره، وإنما هو فلسطيني أو بالأحرى عربي يكتب الشعر. وبوصفه كذلك يتحرّك شعره في نقطة تقاطع تراجيدي بين التاريخ والواقع. يقول له التاريخ: إنّ هذا الآخر جزء من حياته وثقافته لا على المستوى الديني وحده، وإنما كذلك على المستوى الدنيوي. لكنّ الواقع يقول له بالمقابل: إنّ هذا الآخر هو نفسه الذي ينقض هذا التاريخ ويهدمه، آخذاً منه كل شيء، حتى بيته، التجسيد الاجتماعي والمديني. في تعايشه مع الآخر، يقول له الواقع باختصار: عليك أن تقتلع نفسك من نفسك، أن تموت كذات، لكي يعيش هذا الآخر على أنقاضك. هذا التقاطع التراجيدي بين التاريخ والواقع يتحوّل بكيمياء الشعر الى صراع تراجيدي كذلك، داخل الذات، بينها وبين الذاكرة، بين الوعي وما لم يعد الا أثراً، وبين الوجود والمعنى’.
فهل هذا في صالح الشعرية، أم ضدّها؟ يتابع أدونيس: ‘هكذا يتجاوز شعر محمود درويش الاختزال القومي، الوطني، والاختزال الايديولوجي. يتمحور حول فرادة ذاتية لا تُحصر ولا تذوب في مجرد الانتماء أياً كان، والطاقة التي يكتنز بها تتخطى الواقع الاجتماعي السياسي القائم’. ونفهم، استطراداً، أنّ شعرية درويش أوسع من أيّ انتماء، وأنّ من الخطأ تضييق نطاقها على أيّ ميدان سياسي أو اجتماعي: ‘ما نراه أحياناً من توافق بين الشاعر وفضائه السياسي والاجتماعي لا يصحّ أن يُستند إليه بوصفه عاملاً حاسماً في فهم شعره. الحاسم، إن كان هناك حاسم، يكمن في تاريخ الشاعر الشخصي وفي حياته، تخيّليةً ومشروعاً واستباقاً’. وهنا فقرة الختام: شعر درويش ‘يفلت من الوسائط والبنى، ومن الحتميات والموضوعيات كلها، كمثل وردة تنغرس في أحضان المادة، غير أن العطر لا يجيء من هذه المادة، وإنما يجيء من شهيق هذه الوردة وزفيرها. هكذا يصعد عالمنا نحو آفاق إنسانية كونية’.
وأعترف أنّ مفاجأتي الثانية، بعد ابتداء أدونيس من صيغة ‘المحتل’ و’الآخر’، كان المزاج الغنائي في الإشارة إلى الوردة والعطر، ونبرة الوثوق إزاء إفـــلات شعر درويــــش من ‘الوســائط’ و’البنى’ و’الحتميات’ و’الموضوعيات’… كلّها! ولست، في حدود ما أعرف، على علم برأي جدّي في شعر درويش ذهب ذلك المذهب في الإلحاح، من موقع الإطراء والتثمين، على ذات الشاعر، وعلى تمحور تجربته حول ‘فرادة ذاتية لا تُحصر ولا تذوب’.
وهنا قد يسأل سائل، محقاً بالطبع: ألم يصرّح أدونيس، ربيع هذا العام، بعد رحيل درويش، أنّ شعر الأخير ‘لا يصدر عن تجربة ذاتية’، بل ‘يصدر بالأحرى عن موقف ثقافي جمعي’؟ أليس هذا هو التضييق السياسي والاجتماعي الذي حذّرنا أدونيس من اعتماده عند قراءة شعر درويش؟ وذلك الشعر الذي يصعد بنا نحو ‘آفاق كونية وإنسانية’، كيف صار اليوم ‘شعر مصالحة’؟ ألم يجزم أدونيس بأنّ شعراً مثل’أحنّ الى خبز أمي’ و’أخجل من دمع أمي’، هو ‘بكاء شعري’ يضحكه، بدل أن يترك فيه أثراً وجدانياً؟
إجابة أولى على ذلك السائل يمكن أن تسير هكذا: لأنّ شعر درويش ينبغي أن يظلّ أبعد من الحتميات الوثوقية، لعلّ أدونيس بدّل رأيه بين 2002 و2010، وسبحان الذي يغيّر ولا يتغيّر. إجابة ثانية قد تساجل بأنه لا تناقض بين الموقفين، والمسألة تخصّ ألعاب التأويل، ليس أكثر. وثمة، بالطبع، إجابة ثالثة تقول: تلك حال وهذه أخرى، بين ماضٍ من الزمان وآت…
خاص – صفحات سورية –