ملاحظات في العلمانية والنقاب وما يتصل بهما من مسائل
بكر صدقي *
يذكّر السجال الحالي حول النقاب وحظره في المؤسسات التعليمية في سورية، بسجال كان أكثر سخونة، دار في السنة الماضية حول مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية، كان قيد الإنجاز. وعلى رغم أن الموضوعين يستهدفان جهتين متعارضتين أو يدخلان في سياقين متعارضين، فالجهة التي أطلقت المشكلتين والسجال حولهما، واحدة هي السلطة القائمة. هل يتعلق الأمر إذن بتغيير حاد في الاتجاه: من إسلامي متشدد أو محاباة له في الحالة الأولى، إلى علماني متشدد أو محاباة له في الحالة الثانية؟ أم بقرارات ارتجالية غير مدروسة، يتم التراجع عنها لاحقاً تحت ضغط الرأي العام (إن صح الحديث عن وجود واحد في نظام يأنف التنوع الفكري أكثر ما يأنف)، الأمر االذي حدث في الحالة الأولى، ومن المحتمل أن يتكرر في موضوع حظر النقاب، ما دامت القرارات الرسمية في هذا الصدد لم تصدر بعد؟ وإذا كان النصر المؤزر قد عقد للتيار العلماني في السجال الأول، فـ»أرغمت» السلطة على التراجع عن مشروع قانون الأحوال الشخصية، كما قيل، فهل تعني التسريبات الحالية عن حظر النقاب، استمراراً لذلك النصر العلماني، أم أن السلطة «سترغم» هذه المرة على التراجع عن حظر النقاب أمام «الضغط المحافظ»؟
لا نملك الرجم بالغيب فيما سينتهي إليه الصراع على النقاب، على أنه من الممكن تلمس شيء جديد وغريب على البيئة السورية، هو انخراط الناس في النقاش حول أمور مصيرية، تحت مراقبة صامتة من السلطة. يمكن إدراج هذا المشهد الغريب في دور الحَكَم والحكمة والحياد بين المصالح الاجتماعية والميول الثقافية المختلفة أو المتعارضة الذي من المفترض أن تقوم به الدولة الحديثة. ويوحي المشهد، من جهة أخرى، بحيوية اجتماعية – ثقافية في المجتمع السوري، طالما افتقدناها في أمور أكثر إلحاحاً، كالنقاش حول إصلاح النظام السياسي أو لبرلة الاقتصاد أو السلام مع إسرائيل وغيرها.
المشهد هذا ربح صافٍ يسجل للسلطة، سواء تم تعديل قانون الأحوال الشخصية أم لا، وسواء تم حظر النقاب في المؤسسات التعليمية أم لا. ولعل هذه هي الغاية من طرح المشكلتين بهذه الطريقة أصلاً. وربما تعود الأمور إلى ما كانت عليه بعد هدوء زوبعة السجال، كما حدث في السنة الماضية. غير أن ثمة جديداً مع ذلك ينبغي التوقف عنده، هو أنها المرة الأولى التي يتحدث فيها مسئولون سوريون من أعلى المستويات عن «العلمانية». فما هي القصة حقاً؟
معلوم أن العلمانية مفهوم إشكالي، سواء في منبته الغربي أو عندنا في العالم الإسلامي عموماً. فلا يمكن اتخاذ موقف مع العلمانية أو ضدها إلا بتحديد مفهومها بدقة. حديث المسؤولين السوريين الطارئ عن العلمانية لا يحدد ذلك، غير أنه يمكن الاستنتاج من سياق تصريحاتهم، أنه ربما يختزلها إلى الملبس والمسلك، فيما يشبه النموذج الكمالي التركي. يحق لنا هذا الاستنتاج بالنظر إلى بقاء الإسلام مصدراً رئيسياً للتشريع، وفقاً للدستور النافذ، إضافة إلى النص الصريح لهذا الأخير على دين رئيس الجمهورية، إذا ضربنا صفحاً عن سطوة الدين عموماً في الحياة العامة للمجتمع.
يحق لنا أيضاً وضع التصريحات المذكورة في سياق التاريخ القريب للسجال حول العلمانية في سورية، كما في السياق الدولي الذي أخذ الإسلام فيه يشكل محور نقاش كبير بدالة علاقته بالإرهاب، منذ مطلع القرن الحالي. فقد لاحظنا تحوّل العلمانية إلى مادة للسجال السياسي في سورية، بدءاً من العام 2005، مقابل غياب أي نقاش حولها في ثمانينات القرن الماضي حين شكل الإسلاميون خطراً فعلياً على النظام والمجتمع معاً. هذه مفارقة تدعو للتأمل.
يمكن تفسير هذه المفارقة بانسياق التيار العلماني وراء أيديولوجيا الحرب على الإرهاب الغربية المنشأ. ويمكن تفسيرها بحاجة السلطة القائمة إلى إعادة الاصطفافات الاجتماعية بما يخدم استمرارها في الحكم. ففي مجتمع تعددي كالسوري، لا شيء أنفع لتأبيد الوضع القائم من نقل محور السجال من الديموقراطية إلى العلمانية، بخاصة إذا وجد مثقفون يقيمون تعارضاً بينهما. فإذا تم إخماد النقاش حول المحور الأول بالقوة، يصبح افتعال النقاش حول الثاني تحوّلاً من القسر إلى الهيمنة بالإقناع. فأنت موضوع (نظرياً) أمام خيارين: إما ديموقراطية تؤدي إلى تفتيت على المثال العراقي، أو علمانية تحفظ وحدة المجتمع. هنا تدخل السلطة حَكَماً بين مكونات فاقدة الثقة في ما بينها، بل حامية لـ»المكونات العلمانية» في وجه الزحف الأصولي. فحين تعرِّف العلمانية ذاتها بالتعارض مع دين الأكثرية، تصبح الأقليات علمانية تعريفاً. وفي الوقت الذي يحتاج العلماني المنتمي بالولادة إلى الأكثرية، إلى إعلان براءة يومي من هويته الأصلية، لا يحتاج حتى المتدين من الفئات الأخرى إلى أي إعلان ليتم الاعتراف به علمانياً. ألا يكفي أنه يرتدي ثياباً علمانية ويشارك العلمانيين نفورهم من مظاهر ثقافة الأكثرية «المتخلفة»؟
قد يكون من المبكر إقامة تقاطع بين البيئة المحافظة في سورية وحِدَّة الفرز الطبقي الآخذ بالتفاقم في العقدين الأخيرين، والأخير منهما بخاصة مع إجراءات اللبرلة الفوقية التي أدت، في المقابل، إلى ظهور طبقة أطلق عليها ياسين الحاج صالح «طبقة الأعيان الجدد». ألا تقتضي سيطرة هذه الطبقة على المشهد العام، طرداً للنقاب «المتخلف» خارج الميدان العام؟ هذا بافتراض علاقة بين صعود هذه الطبقة من جهة، وارتفاع نبرة الخطاب العلماني أخيراً، خطاب الأقلية البيضاء، من جهة ثانية. فالعلمانية كهوية (وهذا ما انتهت إليه في سياق تاريخنا) تناسب أكثر «أقلية بيضاء» طبقية، في حين يناسب «التخلف» الموصوفة به مظاهر ثقافة الأكثرية، الطبقات الدنيا المعدمة.
غير أن هذا الربط الافتراضي بين مسارين اجتماعي وثقافي، يحتاج إلى دراسات اجتماعية موسعة، ولا يعدو هنا كونه حدساً.
* كاتب سوري