“تيري إيجلتون” وقراءة التشكيل الاجتماعيّ والثقافيّ للشرّ
أحمد زكي عثمان
يعلي التاريخ الصحفي والقانونيّ الإنجليزي كثيرا من شأن حادثة إقدام طفلين يبلغان من العمر 10 سنوات على قتل طفل آخر لم يتجاوز عمره العامين في مدينة “بوتل” بشمال إنجلترا عام 1993.
قانونيا، كان الطفلان (روبرت تومسون وجون فينابلز) هما أصغر متهمين يقفان أمام قاضي بتهمة القتل العمد في التاريخ القضائي البريطاني الحديث.
أما صحفيّا، فقد كان للقضية نصيب وافر في إبراز الدور الذي يمكن أن تلعبه الصحافة ليس في مجرد نقل مشاعر السكان المصدومين، ولكن في نشر حالة عامة من الرعب والهلع والقلق بفعل هذا الحادث “الشرير”.
القضية كما جري تصويرها كانت استثنائية، فالناس لم تتعود على سماع قصص لأطفال- يفترضون فيهم البراءة- وهم يقدمون على أفعال بمثل هذه القسوة والوحشية و”الشرّ”.
لكن ينحو الناقد الإنجليزي الشهير “تيري إيجلتون” منحى مختلفا حين يردّ القضية إلى أصل مختلف، يحاول من خلاله تفسير السياق الفلسفيّ الذي أفرز وصف الشرّ الذي ألصق بفعل الطفلين.
يخوض “إيجلتون” في كتابه الصادر هذا العام تحت عنوان “حول الشرّ”، معركة أفكار مع القوى التي تحاول قولبة الشرّ، يستقصي فيها عمليات التوظيف السياسي والاجتماعي والثقافي لمفهوم الشرّ.
يستهل إيجلتون (المولود عام 1943) كتابه بحادثة مقتل الطفل “جيمس بالجر”. تمثّل هذه الحادثة واحدة من جملة أحداث استدعت مفهوم الشرّ مثلها مثل الحدث الأكبر (في وحشيته) والممثل في الهولوكوست.
يوازي سرد هذه الأحداث التي يخيّم “الشرّ” حولها، اشتباكا مع تمثيلات “الشرّ” في أعمال أدبية قديمة ومعاصرة ( يطغي عليها اسم ويليام شكسبير).
في بداية السجال، يقدّم “إيجلتون” فكرة مختلفة عن “الطفولة” وعلاقتها بالشرّ مفهوما وممارسة. وبصورة عابرة في هذه المرة، يعرّج الناقد الإنجليزي على “سيجموند فرويد” وفكرته حول تدنّي أو ضعف الأنا الأعلى (أو الضمير أو الحسّ الأخلاقي) للأطفال مقارنة بالكبار.
ويكتب: الأطفال في نهاية المطاف كائنات نصف اجتماعية، لذا فمن البداهة أن تتصرف بطريقة وحشية من حين لآخر. وبغضّ النظر عن الثقة التي قد نمنحها أو نحجبها عن “فرويد”، إلا أن “إيجلتون” يندفع، ساخرا، في السجال ويرى أنه من المستغرب ألا يتورط الأطفال في أحداث “وحشية وشريرة” على طول الخط.
ويطرح مجرد ملاحظة أنه “ربّما يقتل الأطفال بعضهم البعض طوال الوقت لكنهم يحافظون على رباطة جأشهم”. يدعم “إيجلتون” في مرافعته ضد المفهوم الرائج للطفولة بأمثلة من الأعمال الروائية التي كشفت عن المسكوت عنه في علاقة الأطفال بعضهم ببعض.
الروائي الإنجليزي “ويليام جولدنج” صوّر في روايته “أمير الذباب”، كيف استطاعت مجموعة من الأطفال لم تتجاوز أعمارهم الثلاثة عشر أن يتصارعوا وأن يذبح كلّ منهم الآخر إذا تطلّب الأمر. الأطفال، حسبما يراهم “إيجلتون”، كائنات نصف غريبة. هم لا يعملون ولا يمارسون الجنس. هم ليسوا طرفا في اللعبة الاجتماعية. يجري تصويرهم بوصفهم “أبرياء”، لكن يحدث أن يجري تصويرهم أيضا بوصفهم “شياطين”، و”أشرارا”.
الطفل الممثّل لـ “الشرّ” كان التبرير الذي ساقه واحد من الضباط المحققين في قضية مقتل جيمس بالجر. زعم هذا الضابط، ومن ورائه المؤسسة، أنه حين نظر إلى عيني أحد الطفلين المتهمين، عرف من اللحظة الأولي أنه شرّير. لكن، لا يعني هذا اتّفاقا ما بين الضابط والناقد عن الطفولة “الشريرة”.
الناقد “إيلجتون” يرغب في تفكيك الصورة المشكلة اجتماعيا وثقافيا عن الطفولة وعلاقتها بالشرّ. يروم إعطاء هامش للاختلاف خلافا للضابط الذي يريد سحق هذا الاختلاف. الضابط تحدّث من موقعه ومصلحته. تحدّث بلسان مؤسّسة تريد إلصاق الشرّ كصفة متأصّلة في الأطفال القتلة. الناقد ممثّلا في “إيجلتون” يبحث عن السياق، وهذا جلّ ما تخشاه مؤسّسة الشرطة.
أن يفكّر الفرد في السياق معناه أن يسأل “لماذا ارتكبوا هذا الفعل”، معناه أن يلتمس العفو عن الفعل الذي لم يعد “شرّيرا”، وهو ما ترفضه المؤسّسة قطعا. الشرطة تريد تطبيق رؤيتها الخطية وعدالتها الخاصة ممثلة في سيناريو مجرد للغاية : طفلان يمثلان الشرّ، ارتكبا جريمة قتل، سيذهبان إلى المحكمة ويلقيان الجزاء المناسب. لكن سيعقد السؤال “لماذا” هذا السيناريو المجرّد. سينشغل الناس بالتفكير عن السياق والظروف الاجتماعية التي خلقت فعل القتل. وستخلق كل لحظة يجري التفكير في “لماذا” فرصة أكبر للعفو. التفكير هنا سينبذ سياسة التنصّل، ويبحث بالمقابل عن المسؤولية الأخلاقية للجميع، الشرطة أو المؤسسة أو النظام، كلها وحدات ترغب في وصف الفعل الذي ارتكبه الطفلان بأنّه شرّير. والمعني هنا أنّ الفعل خارج السيطرة وأنّه وراء حدود الفهم والتعقل.
عند هذه النقطة يرسم “إيجلتون” المعاني الكامنة في “الشرّ” الذي هو فعل في النهاية، لكنّه فعل عصيّ على الفهم وخارج السياق. هو شيء في ذاته ( الشرّ من أجل الشر). والصراع حول الشرّ يبدأ في اللحظة التي يحاول فيها السياق الاجتماعي والثقافيّ إسباغ نعت الشرّير على فرد بعينه. يحيلنا “إيجلتون” إلى الأدب مرة أخري، وبالتحديد إلى شخصية “جيمس موريارتي” خصم وندّ “شيرلوك هولمز”.
أسقط “السير آرثر كونان دويل” (مبتكر الشخصيتين) بعضا من معاني الشرّ على “موريارتي”: عصيّ على الفهم وأفعاله خارج السياق ولا يمكن تبريرها. يتفق “إيجلتون” هنا حول هذه المحدّدات لتعريف الشرّ، لكنّه يختلف في شخصيّة الشرّير أو بمعني آخر في السياق الذي أنتج هذا الشرير. يرسم لنا “إيجلتون” خلفيّة عامّة للسياق الذي استحال فيه “موريارتي” إلى “شرّير”. “السير دويل”، مبتكر هذه الشخصيات، سبق له أن وظّف حيله الكتابية والمعرفية بالطبّ وغيرها للدفاع عن وحشية بريطانيا في حرب “البوير” بجنوب أفريقيا.
وفي “شيرلوك هولمز”، خلق “دويل” شخصية نقيضا، ولم يجد لها سوى اسم أيرلندي هو “موريارتي”. هنا، لا يحتاج المرء لكثير من الذكاء حتى يدرك أنّ استخدام اسم إيرلندي في بريطانيا القرن التاسع عشر المذعورة من نشاط العناصر الإيرلندية التي تريد فكّ ارتباط بلادهم عن لندن، هو تغذية سياق شيطنة الإيرلنديين بوصفهم تجسيدا للشرّ. لا يقتصر اتّفاق مجتمع الملكية البريطانية في حالة “موريارتي الأيرلندي” ومجتمع الشرطة الإنجليزية في حالة قتلة الطفل “جيمس بالجر”، على تبنّي التعريف الحديث للشرّ بوصفه فعلا بلا قضية، بلا مبرّر، بلا سياق، لكنهما يذهبان بعيدا في ادعاء حقّهما بتحديد من ينطبق عليه هذا التعريف.
في هذا المجتمع تخشي المؤسّسة البحث عن مبرّر، ذلك لأنّ هذا البحث كفيل بنفي صفة الشرّ عن “موريارتي” وعن الطفلين، فتزعم الشرطة بأنّها تتصارع مع الشياطين، وبالطبع لا سبيل لتقويم اعوجاج هذه الشياطين. ومن ثمّ، فإنّ النتيجة هي تحميل الشيطان النتيجة بدلا من التفكير في “الواقع الاجتماعي” بوصفه مصدرا للشرّ. عند هذه النقطة يتبدّى تناقض ما، بين تعريف الشرّ بوصفه فعلا حديثا في مجتمع علمانيّ لكنه سرعان ما يرتدّ للاستعارة من التقاليد اللاهوتية باحثا عن الشيطان والشرّ والشرّير.
تتّسع مساحة هذا التناقض أو تضيق حسب نوعية المجتمع كما يقول “إيجلتون”. ويوضح ذلك بالإشارة إلى استطلاع رأي عبر فيه 91% من المستطلعين في إيرلندا الشمالية عن إيمانهم بـوجود “الشرّ”، فيما كانت النسبة 29% فقط في الدانمرك. يقرأ “إيجلتون” هذه النتيجة بطريقتين، الأولي انطباعية ساخرة لا تجد غرابة في أن يتبوّأ “بروتستنت” إيرلندا الشمالية بنظرتهم المعتمة للوجود قائمة المؤمنين بوجود الشرّ، على عكس الدانمركيين مروّجي ثقافة المرح.
أما القراءة الثانية ففيها بعض التحليل الذي لا يخلو هو الآخر من السخرية. فالدانمركيون، كعادة الشعوب التي تقرأ الصحف، يؤمنون بأنّ هناك جشعا، واستغلالا للأطفال، ومظاهر عنف الشرطة، لكنهم يحجمون عن نعت هذه الأفعال بالـ “خطايا”. الدانمركيون يستعظمون كلمة “الخطيئة”، ذلك لأنها جريمة في حقّ الله أكثر من كونها جريمة في حقّ الأفراد. هذه هي الصيغة العلمانية لتعريف الشرّ عند “إيجلتون”، أى بالتمييز المفترض ليس بين أنواع الجرائم ولكن بين فعل “الشرّ” وفعل “الإيذاء” Wickedness. فعل الشرّ فعل نادر وهو يتطلّب شروطا كي يحصل مرتكبه على وصف الشرير.
والمثال الذي يقدّمه “إيجلتون” هنا يعود إلى كتيبه الرائع “ويليام شكسبير” (صدر 1986)، حيث قدّم تفسيرا رأي فيه أن الساحرات الثلاث هنّ بطلات “ماكبث” الحقيقيات، فقد كنّ النداء الصارخ ضدّ نظام التراتبية الاجتماعية وصراعات أوسمة الشرف في اسكتلندا “ماكبث”. الساحرات يمثّلن قضية ورغبة في التغيير، على عكس نداء الشيطان في الفردوس المفقود بأن يصبح “الشرّ” هو فضيلته الوحيدة. الشرّ، في هذا المثال، بلا قضية هو غاية في حد ذاته، وربما أفضل ما يعبر عنه هو نداء “دوق جلوستر” حين قال : “فلأكن إذن شريرا!/ ما دمت لا أصلح للحبّ،/ولا للاستمتاع بهذه الأيّام الجميلة الزاهرة/ ولأمنح تلك الأيام ومتعها اللذيذة بغضي وحقدي”.
هوامش:
– الكتاب: Terry Eagleton, On Evil, Yale University Press (New Haven and London)
– رواية ويليام جولدنج “Lord of theFlies”، صدرت ترجمتها عن الدار المصرية اللبنانية بالعنوان الموجود في النص “أمير الذباب”.
– أخذت مقطع دوق جلوستر من ترجمة عبد القادر القط لـ مسرحية ريتشارد الثالث، طبعة دار المعارف.
موقع الآوان