صفحات ثقافية

مــن أصدقــاء عبــاس بيضــون.. باقــات كــلام (٢)

null
لم تعد أصابع عباس بيضون بعيدة عن القلم، هو بالفعل يهيئ نفسه لهذه المهمة، كما يهيئ نفسه أيضاً لاستقبال الرسائل الالكترونية والرد عليها. إنها حكاية أيام، فصديقــنا حرق المراحــل، وتخطى بشفائه توقعات الأطباء. صحيح أن الحادث الذي تعــرض له كان قوياً، لكن إرادة الحياة عند عباس كانت أقوى، وقد انتــهى الحرج، وزالت كل أنواع المخاطر، وعاد نسـيم الصبح يغسل قلــبه كــل يوم، خصوصاً أنه عاد بعاطفة أكثر تدفقــاً، وانفعــالات أكثر رهافــة، تجعل الدمعة نسمة فرح في وجهه.
خرج عباس من المستشفى، وبات أقل قلقاً على صحته، وأنه بخلاف ديوانه بات معلّم جسده، وباتت الحياة كلها تحت نافذته، أو بين ناظريه. خرج من المستشفى لكن قدميه لم تطعاه بعد ليجذف بهما نحو الجريدة، لكنه لن يحتاج إلى أكثر من أسبوعين كي يباشر الاتكاء عليهما، فيتنقل بين مكتبته وغرف منزله، كأن الثقافة المكتنزة في الكتب تحتاج، للأسف، إلى قدمين نظيفتين متعافيتين.
أردنا أن نُطَمْئِنَ أصدقاء عباس بيضون وقرّاءه، الذين ما برحوا يتصلون ويتسقطون أخباره بكثير لهفة، بأنه وإن تأخر ليصبح مشّاء وتعود رياضة المشي تهز ساقيه. ولن نخفيكم سراً أنه تجول أمس على كورنيش المنارة، لكنه لم يشعر بامتلاك المكان، كما قال، لكون رجليه لم تلامسا بلاط الرصيف. لن يتأخر عباس عمن ينتظر مقالاته ومواقفه وقصائده، ولن نطيل ابتكار الاستعاضة عن مقالاته بتحايا حارة إليه، أو بباقات كلام تحكّ الصداقة والذاكرة معاً.
لا نريد أن نسرد هنا لائحة كبار زوار عباس بيضون في المستشفى أو المنزل خلال الأسبوع الماضي، ولا تعداد من يتواصل معنا من كبار المثقفين العرب، للاطمئنان على مثقف استئنائي، زرع حادثُ صدمه خوفاً عليه وقلقاً على صحته. تطول اللائحة، تلك التي فاقت ما كنا نتوقع من الأصدقاء، فالمفاجأة سمة عباس المتنقلة معه.
صفحة ثانية من شهادات الأصدقاء، وباقات كلام بدلاً من باقات ورد السلامة.

بَوْحٌ لعبّاس بيضون: لا القرابة ولا العِشْرة
احمد بيضون
لم يكن للقرابة، في أيّ وقت، شأن بهذا الحب الذي أحفظه لك يا عبّاس. القرابة لا تُجاوز أن تكون شائبة في صورة المودّة، تداخلها في مخيلة من يسألونني عنك وربما في مخيلة من يسألونك عني أيضا. هل نحن قريبان أصلاً؟ لا تتبين لي قرابة بيننا حتى لو أوغلت إلى أوّل الجدود السبعة الذين يقال إن الولد تبقى فيه سمات من أيّ منهم. مع ذلك أشعر أن ثمة ثباتاً في شعوري حيالك هو ذاك الذي تكفله القربى ولا تكفي الصداقة لتفسيره. فأنا أحبك كما يحب المرء أمّه، مثلا.
ولا الجوار يحمل إليّ تفسيراً لهذا الحبّ ولا طول العِشْرة. نحن متقاربان في السنّ ولكن لم ننشأ في بلدة واحدة ولا ضمّتنا مدرسة معاً ولا كنا نلتقي إلا نادراً جدّاً ونحن صغيران. وحين التقينا في السياسة شابّين كان كل منا قد مشى شوطاً على مبعدة من الآخر. كنا نتقابل في اجتماعات «التنظيم»، في آخر الستينيات وأوائل السبعينيات، وقليلاً ما أفضت هذه اللقاءات إلى تتمّات تُحتسب في باب العِشْرة أو إلى مبادرات من قبيل ما تتنامى به الصداقة: كأن نكمل الاجتماع في مطعم أو نتواعد في مقهى…
ولم نلبث أن تباعدنا في السياسة، وكان ذلك في أعقاب زوبعة مَزّق فيها ما سميناه «الانشقاق» صداقات كثيرة اتفق أن أطرافها توزعوا بين الضفتين. وكنت أنت من بين النادرين الذين حفظوا المودّة في الخلاف وذهبوا في محتوى الخلاف نفسه مذهباً متفرداً ولكن بلا تعصب. فألزمتني وألزمت غيري بحفظ الودّ لك تامّاً. مع ذلك، فقدنا فرصاً للالتقاء بعد انقطاع تلك الاجتماعات التي ربط خيطها بيننا بضع سنوات.
وحين أسأل اليوم متى وجدنا وقتاً للجلوس وحدنا ننسج هذه المودّة التي بيننا، يستوقفني صيفٌ في مطلع الحرب اللبنانية كنا فيه معاً في بنت جبيل وكنا نتزاور ونذهب معاً إلى «كازينو» عين إبل للقراءة والكتابة هناك. وكنا نتضاحك أنا وابن عمك الذي كان السواقون العموميون يُرجعون إليه قصيدتك المخطوطة «صور» (وكانت في قيد الكتابة أو المراجعة) كلما نسيتها في سيارة أحدهم. تذكُر أيضاً أنك كنت تأتي بالعلكة لصغيرتيّ (صغيرتيّ آنذاك!) فأخذَتا تناديانك «عباس علكة»! في تلك الأسابيع وحدها بدا أن صداقتنا علاقة تسهم في تشكيل الوقت والحركة، لا الروح وحدها، إذ هي تتخذ صورة العِشْرة.
لم تكن تلك إلا أسابيع إذن عاد بعدها اللقاء بيننا يتدبره غيرنا، في الأغلب، أو يحصل اتفاقاً. وكان هذا يورث فجوات بعضها كبير جدّاً بين لقاء ولقاء. مع ذلك، لم أشعر يوماً أنك تبتعد قيد أنملة. كنت تبقى، وأنت متوارٍ، في موضع أثير من نفسي لا يتبدّل، وكأنما أنت وديعة لوقت لا أعلم ما هو. حتى أنني رحت أتخيل أن منظرك ثابت أيضاً وأن سحنتك لا تتغير. ولم يفلح في زحزحتي عن هذا الشعور لا صلعتك المتفاقمة ولا كرشك الصغير الطارئ ولا عنايتك المستجدة بهندامك… أنت، يا عباس، في ما يتعدى تقطع اللقاءات بيننا، مَعْلَمٌ ثابت (ولو انه نابض) في حياتي: دفءٌ لا يفتر ونورٌ لا يَحول. وهو ما يجعلني أنسب إلى شخصك ثباتاً أنا أوّل العارفين أنه برق خُلّب. أنا أعرف كم تشيل الدنيا وكم تحطّ كل يوم. كان في هذا الثبات المفترض ما أنا مصدره وكان فيه ما أنت مصدره. ولكن كان بيني وبينك أيضاً أخي محمود. فأنت شخص من أشخاص أحببتهم مدى العمر لأن أخي الأصغر كان يحبهم وكنت أشعر أنهم يحبونني لأنهم يحبونه وكنت لا أرى ضيراً في ألا ألتقيهم ما داموا يلتقونه وبقيت أعدّهم عِوَضي عنه بعدما رحل.
مؤخّراً ظهرت في سمائنا الضيقة المشتركة مجلة – نجمة سميناها «كلمن» وعادت لقاءاتنا تتقارب شيئاً ما في هيئة تحريرها. أعتب عليك حين تتأخر أو تغيب عن اجتماع وحين لا تقضي معنا البرهة الحميمة التي تلي الاجتماع. أشعر أن الوقت الذي تحجبه عنا تأخذه مني. إسمع يا صاحبنا! إن كنتَ مزمعاً المثابرة على هذا المسلك، فلا تأمنْ أن ندور بك في المدينة (ما دمت محطم الساقين، جاهزاً على هذه الشاكلة) لنشحذ عليك ما نصدر به عدداً!
[[[
كيف إذن أمكن أن أحبّك إلى هذا الحدّ ونحن على علاقة لو قيست بأوقات اللقاء والمجالسة لبدت إلى الجفاء أقرب؟ السرّ فيك أنت يا عبّاس. السرّ في نسمة الودّ القوية التي تهبّ من وجهك حين ألتقيك وفي قبضتك المشدودة للمصافحة ومعها جسمك كله. هذا مبذول منك لي ولغيري ولذا يحبّك كل هذا الخلق. وأنت مع ذلك تتدبر أمرك بحيث تبذل دفء روحك وتستدرج الغير إلى مثل ما تبذل ولا تستقيم نسبة ذلك من جانبك إلى المحاباة. أقرأ ما تكتبه في أعمال أناس أعرف أن معظمهم من أصدقائك. ومن ذلك ومن غيره أعلم أن المؤاخاة ما بين حدّة الآلة الناقدة وصدق المحبة هي موهبة أخرى مدهشة من مواهبك. ومن مواهبك أيضاً (وقد أشار إليها قبلي بعض مُسامريك في سرير تيهك المؤقت عنا) ما تقتضيه حدّة الآلة الناقدة هذه من نباهة مطلقة ومن شدّة بأس في مَلَكة الملاحظة… وهذا في ما أنت تعرض للناس سُهومك وتعثّرك المرح بنثريات يومك.
السرّ أيضاً (سرّ حبّي لك حاضراً وغائباً) هو في أنك نسيج وحدك وأنك موجود في كل ما تقول وتفعل: في كل ما تكتب خصوصا. لذا كانت قراءتي كل مقالة لك لقاء تامّاً معك، ولذا كنت لا تغيب عني طويلا. والذين ألتقيهم بهذه البديهة (ويلتقيهم غيري) في ما يكتبون نادرون للغاية وأنت تعلم ذلك.
هل كنت سأبوح لك بهذا كله لو لم تنزل بك هذه النازلة؟ وهل كان هذا ماثلاً كله في خاطري أصلاً؟ وهل هو إلا الخجل الذميم حملني على تكليفك هذا الثمن لهذا البوح؟ وقد ذكرت مقالاتك توّاً ولم أذكر شعرك. وذاك أن التحدث في شعرك مهمة صعبة عليّ لا تنقضي بعبارة. فإن أنا وصلت من حديث شعرك إلى ذِكْر قيمته عندي ومقامِه من تشكيلِ عالمي فسيقال مرّة أخرى: رجلٌ يتعصّب لابن عمّه!
قل لهم إنك لست ابن عمّي يا أبا زكي!
أحمد بيضون

إنّه يخبّئ لنا شعراً وفلسفة كثيرين
حازم صاغية

قلت للصديق الواقف قريباً منّي في المستشفى إنّ عبّاس دخل العناية الفائقة شاعراً، وها هو يغادرها فيلسوفاً. ذاك أنّه حين سألتُه ما إذا كان جائعاً، وما إذا كانت لديه شهيّة للأكل، أجاب بأنّه يأكل «بلا سياق… يأكل من دون صلة بين الأكل والواقع… يأكل كمن يقرأ في كتب قديمة».
والحال أنّ شعر عبّاس لم يكن مرّة إلاّ مشوباً بالفلسفة، وأغامر بالقول إنّ «الألم»، بمعناه الكبير، كان إحدى البُنى التحتيّة التي ينهض عليها شعره كما فلسفته.
وهذا، تحديداً، ما يجعل عبّاس ذا رأس «نورانيّ» بالمعنى الذي يقصده المسيحيّون: يرى إلى وراء ما نرى، ويرى أكثر ممّا نفعل، كما يرى خلافه.
وهو لئن نجا من مصائر زملاء أسلاف له، في عدادهم ألبير كامو ورولان بارت، جعلنا ننتظر ألمه والألمُ ينطق، واصفاً ذاته، ناقداً إيّاها، وربّما ساخراً منها. فالصديق الذي عاد من نزهة أخرى حملته إلى الأقاصي وإلى الأصول، وإلى ما وراء المرئيّ، وما تحته، يخبّئ لنا شعراً وفلسفة كثيرين. ذاك أنّ ميكانيزمات البقاء، في عبّاس، قويّة وسخيّة قوّة عبّاس وسخائه. وهذا كي لا يأخذ الموت مقاساتنا.
حازم صاغيّة

تعال معي نتذوق متعة العيش من جديد!
محمد ملص

يا عباس!
من الشام أصرخ!
أنادي!
أناديك يا رفيق «الألم»! كي أبوح لك بأسرار انبثاق الصور وتخلق الأفكار والكلمات، عبر ذاك الألم الذي أخذنا إلى الغياب ومحا كل شيء، ثم أعادنا من جديد.
كأنه اليوم ذاته الذي صدمك كان قد صدمني أنا أيضا، وإذا لم يكن اليوم ذاته، فقد كان تموز بالتأكيد… فسقطت مثلك في العراء، وأصبح دماغي المرتج على طبق من «الهشاشة»، وأصبحت حبات من الرمل في صحراء.
لم أكن أعرف من قبل، أن كل ما يحتاج إليه الإنسان حين يكون رملا هو «الكلام» كي تنبثق الصور من جديد في داخله. كأن «الكلمة» التي اعتقدنا أنها كانت في «البدء»، ليست إلا وسيلة لتنبثق الصور، فننهض نحن لنعطي للصور طعمها ورائحتها، فتكون الدنيا ونجعل من الدنيا سينما.
حين انبثقت الصور يومها، لم أدرك للوهلة الأولى، ما هذا الذي جرى للصور بعد الإرتجاج الدماغي؟! لكني أحسست أنها صور قـد انفلتت من عقال «الكونترول» بكل أشكاله، وغدت السينما دنيا، والدنيا سينما!
ففي تلك العتمة التي أسرتني وذاك الوجع الذي اجتاحني، ظننت نفسي أني في خزان فيلم «المخدوعون»، وأني من ألمي أدق على جدار الخزان، لكن أحدا لا يستجيب… وحين سمعت صوت ياسمين تناديني وفتحت عينيّ ورأيتها تدق على زجاج نافذة الغرفة، ظننت أنها أمي وقد عادت لصباها الجميل. أما أبي الذي فقدته قبل خمسين عاما فقد ظل يطاردني ليخرجني من خزان «المخدوعون»، ويعيد إلي ملابس المشهد الذي كان يؤديه لحظة الصدمة، ويأخذ مني كفنه الأبيض الذي ألتف به ويعود إلى قبره، بدلا مني.
وحين فتحت عينّي لومضة استغربت أننا في هذا «اللوكشين» الذي يشبه المستشفى وتساءلت ماذا نفعل هنا وليس في السيناريو مشهد في مستشفى، وسألت بغضب عن تأخر الممثل نذير سرحان في الحضور، وهو الذي كان قد آلمني موته بعد مشاركته في فيلمي الأول…
أتعرف يا عباس؟!
حين كان المحيطون بي يومها يدركون شيئا مما أراه وأظنه، كانوا يشعرون بالأسى. أما أنا فقد كنت مستغرقا، لا أعرف إن كنت سعيدا أم لا، لانفلات الصور من عقالها الذي وضعناها نحن في أسره، عبر حياة فرض علينا أن نعيشها ونتحايل على كل الرقابات للتعبير عن جوهرها. لقد انبثقت هذه الصور وهي على وشك أن تفسد لكثرة ما حبسناها في دهاليز أرواحنا…
لا أريد الآن أن أحكي لك عن «الشجرة» التي أراد الإسرائيليون أن يقتلعوها من جنوب مسقط رأسك، بل أريد أن أوشوشك بحب، عن الصورة الأولى التي انبثقت يومها قبل عشرين عاما في رأس متكـدم بالصدمات.
فقد رأيت ابني الصغير، يقلد صبي الترام في فيلم «دو ديس كادين» تحت طرقات عجلات الترام لكوراساوا. وكان يقود مثله تراماً وهمياً على جسر طويل معلق فوق نهر الفرات. وأتذكر أني شعرت بحزن شديد حين أطللت من الجسر المعلق على النهر فرأيته مستنقعا أخضر لا حدود له. وشعرت بالوحشة الشديدة تتسرب إلى روحي حين أخذ سطح هذا المستنقع الأخضر «يبقبق»، فتطفو على سطحه أشياء حية تبلعط قليلاً ثم تعوم على السطح وهي تشبه رئات لا تزال فيها الحياة، لكن آثار حذاء يشبه «البسطار» قد داسها.
تلك الومضات كانت التخلق من جديد… وهي تبدو في ذاكرتي اليوم، كضوء كان حبيساً في حنايا العتمة، ويجاهد للخروج منها وهو في حالة من الإنهاك الشديد.
هذه الصور يا عباس! تقف أمامي اليوم وبعد عشرين عاما شهية وهي معلقة في الهواء، كثيفة كمذاق سكري في قعر الحلق، وقصيرة إلى حد يصعب إدراكها. شيء يشبه جوعاً خفياً، وعطشاً جوانياً. والصور تنـتـفخ وتكبـر فقاعاتها، فتبدو كأنها تقبب رغيفا من العجين على صاج معدني حار، يتحمّص ويتـقـمر وتطقطق رقائقه فتختفي الصور.
وبعد ضنى طويل، عاد صوتي وعثر علي، فخرّ في مكانه تعباً. بدا وكأنه عجوز يتوكأ على ما بقي منه من ارتجاجات وذبذبات لكي يصعـد إلى حنجرتي. كان أشبه بشريط عتيق وجد نفسه في مسجلة تخرب ملمس قارئها وآليته، فصار يمط ويتباطأ، ثم يعنّ وكأن لحظات منه قد تعرضت لمحو قسري لم تنج منه إلا بقايا الأحرف.
لكن حين مدت أمي يدها الحنونة ومسحت جبهتي وتداخلت خطوط كفها بخطوط جبيني، سرى الدفء في داخلي، وشعرت كأن نثرات متباعدة من جسدي تعود وتلتقي بي.
فتحت عينيّ، فرأيت شفاه حبيبتي تتحرك فوق عيوني كأنها تغني لي «المغنى حياة الروح». وهي تقرب من فمي شيئاً، كأنه قعر فنجان في داخله قطرة سوداء، يطلع منها بخار تفوح منه رائحة منعشة… ثم شعرت كأن القطرة قد سقطت في فمي، والتمس لساني طعمها، ثم ذاب واختفى. فاقترب مني ابني الصغير وهو يلبس صدرية المدرسة السوداء الخاصة بالمشهد «يلي كنا عم نصوره»… وكأنه كان يقرب من دمعة بعيني، أو من غبش على العدسة، فنفخ بخار فمه، وأخذ يمسح بأصابعه الدمعة أو البخار عن عيني وعن العدسة. ثم أدار رأسي بلطف نحو الباب، فشاهدت الممثلة الشابة هزار، تدخل إلى الغرفة وتتقدم نحوي على رؤوس أصابع قدميها الحافيتين، وهي ترتدي ثوبها المنزلي الأبيض، وتحمل باقة من أوراق «الحبق».
اقتربت هزار من السرير حيث أستلقي، ووضعت الباقة على وجهي، ومن بين أوراق الحبق بدا لي ظهرها الجميل خاليا من حبة البن! فنظرت إلى الخلف لأسأل مساعدتي لماذا لم ترسم لها الماكييرة اليوم حبة البن على ظهرها؟! فرأيت مريم تقف وراء كيس السيروم الذي كان ينقط نقطة وراء نقطة.
في نفق الطبقي المحوري يا رفيق «الألم»! حيث كانوا يستبصرون كتلة الدماغ المرتج، فتجول كاميراتهم في تلافيفه، بدت لي الصور على المينوتورات كأنها صور التقطت من الطائرات التي تحلق فوق مدننا. وأن السهم الصغير الذي يحركه الطبيب فوق الصور بدا لي كأن طيارا يسدد على أهداف ليقصفها. ولكن حين تناهى إلي صوت الطبيب يقول:
«في هذا الفص الصدغي تكمن القدرة على الخيال، ويبدو أن غشاء الأم الحنون الذي يغلفه، بالرغم من سطوته قد فشل في حمايته، نظراً إلى قوة الاهتزاز التي تعرض لها. أما هذه الخطوط الغامقة في التلافيف، فهي المشاعر والعواطف المحبوسة في الأعماق. والاهتزاز لا يصل إليها أبداً.
بهذه المشاعر المحبوسة في الأعماق التي لا يصل الاهتزاز إليها أبدا ها أنا أوشوشك يا عباس وأحكي لك عن تلك الصور التي انفلتت من عقال الكونترول بكل أشكالها… لأقول لك انهض لنتذوق متعة العيش من جديد، فلا يزال لدينا الكثير من الصور والكلمات والأفكار لنقولها ونرسمها.
محمد ملص
(مخرج سوري)

حتّـى أنـت يـا عبـاس!
عمر اميرالاي
كان الجميع منشغلاً بمسلسل الكشف عن عملاء إسرائيل، حين وقع علينا خبر الحادث المشؤوم. حادثٌ كان من الممكن أن يكون عاديّاً وعابراً لو لم يُشتمّ من حيثياته رائحة تواطؤ آخر، مع عدوّ آخر للبشريّة، وهو عزرائيل. ولا أظنّ أنّ أحداً من شلّتنا لم يراوده للحظة الشعور ذاته عند سماعه وقائع حادثة الصديق العزيز عبّاس المروّعة، ولم يلعب الفار بعبّه لوهلة عندما تأكّدت له صحّة الملابسات الغريبة والمصادفات العجيبة التي أحاطت بحادثته!
ويكفي أن ينظر المرء إلى هذه الحادثة بعين سينمائيّة موضوعيّة، كي يستنتج وبسرعة مدى سذاجة عناصرها الدراميّة، وبالأخصّ حبكتها المصطنعة التي هي أشبه بفيلم تجاريّ مصريّ رديء: رجل يعبر ليلاً ساحة عامّة مرتدياً ملابس سوداء، وسيارة مسرعة تصدم الرّجل، فتحطّم أضلاعه، وتدلق أحشاءه، ويكون سّائق السيّارة بالصّدفة ابن جرّاح كبير يعمل في أرقى مشافي بيروت، وبدلاً من أن يلوذ الجّاني بالفرار ـ كما هي العادة في جاري الأحوال ـ يُسارع إلى إسعاف ضحيّته بنخوة عزّ مثيلها، حاملاً إيّاها بسيارته إلى المشفى، وهو يناشد هذا الأخير عبر هاتفه النقّال أن يستنفر غرفة العمليات فوراً لإنقاذ الرّجل المصاب، وهكذا تمّ الأمر!
المهمّ أنّ عبّاس اليوم نفد من براثن الموت، وتنفّس محبّوه وقراؤه الصّعداء لخبر تماثله السريع للشفاء، لكن، رغم ذلك، بقي غموض مريب يلفّ ملابسات حادثته الغريبة، وظروف نجاته. ونحن، وجميع المعنيّين بسمعته ونصاعة صفحته، لن يطمئنّ لنا بال، ما لم يردّ عبّاس، بالقرينة والدليل الحسّيّ القاطع، على تساؤلاتنا، ويدحض سرساب الشكّ المقيم فينا، هذا إن كان يهمّه فعلاً أن يستعيد ثقتنا العمياء به، كما كان الأمر من قبل.
لذلك، نتمنّى عليه أوّلاً، أن يكشف لنا، وبكلّ صدق وأمانة، عن سرّ تلك العلاقة الفريدة والمميّزة التي خصّ بها عزرائيل شخصه الكريم، ويفسّر لنا بالتحديد مغزى تسامحه الشديد معه، وتلطّفه به، وهو الذي لا ينفكّ ـ أي عبّاس ـ يتحدّى هذا الفاتك العنيد يوميّاً، ويستخفّ بقدراته الخارقة في كلّ مرّة يخرج فيها جنابه إلى شوارع بيروت للتريّض كما يقول، مطرق الرأس، لا يلوي على شيء، مزورباً حيناً في حاراتها كالخطّاف، وقاطعاً حيناً آخر طرقاتها بالورب أو بالعكس كالزيبق، وكأنّ اختراع الدولاب عنده مجرّد إشاعة لم يتأكّد بعد من صحّتها.
ثانياً، هل يُعقل ألا يكون عبّاس قد التقى في غيبوبته النيرفانيّة القصيرة بمثقّفين آخرين من بطانته، ممّن آثروا البقاء في برزخ السعادة الذي هم فيه، من أن يعودوا من جديد إلى شقاء الدنيا وعبث الحياة التي غادروها خائبين، وهو عكس ما جرى لصديقنا عبّاس الذي لا نــدري إن كــان عاد إلينا بإرادته، أم بإرادة من ضاقــوا ذرعاً بأفكاره وحوصانه، فطـردوه من جنّتهم.
وثالثاً، هل يُعقل ألا يكون عبّاس، خلال زيارته الماورائيّة الخاطفة والميمونة التي حظي بها، قد اطّلع، أو على الأقلّ وُضع في صورة معلومات أو صور رصدت تحرّكات شخصيات ثقافيّة وفنّية جاء اسمها في أجندة تصفيات قادمة. وأليس من واجب عبّاس الأخلاقي، في حال تأكّد امتلاكه لمثل هذه المعلومات، أن يبادر فوراً، وبالسرعة القصوى، إلى إخطار أصدقائه على الأقلّ بما ينتظرهم من مصير، علّهم يحثّون الخُطى، كلّ حسبما تبقّى له من عمر، فيعملوا بحكمة الرسول الكريم: «النّاس نيامٌ، فإذا ماتوا انتبهوا»، وينفقوا في آخرتهم ما صمّدوه في دنياهم من أفكار ومشاريع إبداع، وإن تداركهم الأمر ولم يُفرغوا ما في رصيدهم، ورّثوا الباقي لأبنائهم، أو تبرّعوا به لأقاربهم، أو زكّوا به لطائفتهم.
ملاحظة أخيرة: كُتب هذا النصّ في زمن مشوّش وملبّد بالخيانة وتبادل التّهم بالعمالة، فاقتضى التنويه.
عمر أميرالاي
(مخرج سوري)

أيـن قصائـدي يـا عبـاس؟
ليلى عساف
قبل عشرين عاماً, كانت قصيدة غامضة تدخل إلى قلبي من غير كلام. كنا نجلس في بيت عباس في منطقة الهلالية ضواحي صيدا, ابنته الصغيرة بانا تغمض عينيها بعد عراك مع اخيها زكي.. قفزة قوية من زكي فوق سرير بانا. عباس جالس في كرسي قبالتي, يقرأ كلمات تحرك هواء الغرفة بملعقة عملاقة. الحاجة أم عباس تحيطنا ببياض خبريات عن طفولته في مدينة صور وحبه للقراءة وبعض مغامراته.. فجأة تنهي كلامها كأي امرأة مسنة بالدعوات له قبل أن تدركها حسرة لا تنقطع على أخيه الراحل في عز شبابه. ما بالها القصيدة تعدو ورائي منذ أكثر من عشرين شتاء. ترسم خط حياة لا يلمحه إلا من يحدق في عيني عباس اللتين تلمعان بنور نسيان لم يكن ربما إلا ذريعة تخفي حلمه بالطيران أو أسماً جديداً للندم، أو ربما كان النسيان مأوى يحملنا الى السؤال أيهما أكبر الحياة أم الموت؟ نظر في المرآة, لم ير وجهه, تهدلت أنفاسه في دوائر من دخان سيجارته وكأنه يقول: ما الحكمة ان تكون شاعراً, نجاراً أو صانع قنابل؟
ـ أين قصائدي يا عباس؟
ـ نسيتها فوق الطاولة, ربما كانت في جيب البنطال وهو الآن يدور في الغسالة.. ضحكة ساخرة يقطعها الهبوط الحاد لظل حاجبيه الكثيفين فوق قصيدة لا يمكن بلوغها.. كيف نقتفي آثارها وقد ولدت قبلنا, لتسعى بنا إلى الينابيع.. هي كل ما تبقى لنا قبل أن يفلت الخيط الذي يعقد سبحة الحياة ويعقدنا بها.
قد تكون الحياة نقشاً على صفحة ماء أعلى قليلاً من الألم الذي كلما كبر تبدلت ملامحنا ولمعت، لتفلت من أسرها وتشيد مكاناً على مقاسنا. حين نكون على تماس مع الألم وليس باستطاعتنا أن نهرب بعيداً, لا نكفّ عن النظر الى نافذة مسحوبة من خلايانا التي تتفتت كل لحظة حتى نقطة تستأنف فيها التشوش وتتغذى من الاختلال لتعيد صنع نفسها من جديد. نافذة مفتوحة أمام فوهة غائرة مدوخة. ظل نافر لاشتعال نتف حياة خافتة لا تزال تروي انحناءاتنا فوق سطح الارض التي حين تتألم لا تنز دماً، بل تنز موت الضعفاء. إنها بلاغة الألم الذي لا نخشاه حين نعرف أن هناك من يحبنا.. وحده الألم يلهمنا زقزقة عصفوره، الألم ليس صفة ولا طريقاً ندور حولها او نتحاشاها بل نقتحمها لنتغلب عليها.. إنه يسري بنا إلى التشابه, يدعكنا, يقلبنا في أقبيته.. لو محوت بما سنمتلئ. ما أكثرك وما أقلنا.. أيها الألم!
قبل عشرين عاماً, حين التقينا أول مرة كانت رائحة بحر صور تلسع كلماتك, وكانت عيني تقتنص المشاهد الهاربة, المرأة التي كنتها قبل أن أعرفك صارت اكثر هدوءاً، بعدما تقلبت داخل عشرين عاماً خلف جدار بللني بزرقة موجه تكسرت بداخلي مثل حطب لتستعير فيها نار الموقد…
أرسمك قامة واقفة يكلل رأسها ضوء كثيف اضفي عليها الكثير من اللون الأزرق لتسبح في ظلال آخر كائن نتعلق به, ليكون صديقاً قديماً, عنصراً سادساً يضاف إلى حواسنا الخمس.
ألم يسرِ بنا إلى التشابه هو أيضاً صديق.. صديقي سلامتك ليظل الشعر سارحاً على مخدتك كصياح ديك يؤنسنا عند الفجر.. لا تغمض عينيك اريدك ان تبقى وبقلمك نصنع حذاء لغطرسة الغياب!
ليلى عـساف

صاحـــب الفـــرادة
بشير البكر
كنت أريد كلما فرغت من قراءة مقالة لعباس بيضون أن أعبر له عن اعجابي بالاسلوب الذي يكتب به، لكني كنت اتخيل دائماً، أن الرجل لا يستخدم الإيميل، ولا علاقة له بتكنلوجيا التراسل الاليكتروني، فنصوصه تشي بأنها لم تمر في هذه القنوات، بل هي آتية من مكان له رائحة الحبر والورق، وتبرز منها خشونة شواربه الكثة.
نتقاطع في الشارع احياناً، ونكتفي بسلام متلعثم، وأسئلة عابرة، فنبدو محرجين في الحديث. ربما لأنه لا يوجد لدى أي منا شيء شخصي يقوله للآخر سوى سؤال: كيف الحال؟ يخرج منا في نفس اللحظة، ومن دون تأخير تأتي الإجابة، متقاربة أحيانا، ومختلفة قليلاً في أوقات أخرى، وفق مواصفات المزاج؟ إنه سؤال نافل، فالحال تمشي على هواها من دون أن يسندها أحد، حتى تأتي عاصفة فتبعثرها، مثلما حصل له في تلك الليلة المشؤومة.
في أحاديث عنه مع أشخاص آخرين كان الجدل، دائما، يتناول شعره، ولكني كنت أجد نفسي، في أحيان كثيرة، ومن دون وعي اشرد فأذهب إلى نثره الفريد، الذي كان يذكرني بالناثرين الكبار مثل بورخيس وكامي وحتى روسو، وقد قرأت له رأيا طريفاً، نقله عنه أحد الأصدقاء، انه قال كنت أحلم بأن أصبح مفكرا، لكني قبلت بالشاعر كترضية.
مفكر ياعباس، نعم ولم لا؟ ظلت اللغة لديك تركيبية، غالبا ما توّلد تفكيرا حقيقيا بالغنى والوضوح واللون. أنت الكاتب الذي بقي في حال تساؤل لا يتبدل، ليس على نحو استعراضي أو تأملي، حيث الفكر يقلب بتكاسل فكرة واحدة وصفحة واحدة، وإنما في جدل يتشظى فيه الفكر ويبقى في حالة اندهاش. فما من موضوع يبدو بعيدا عن تناولك، أو أقل بعيدا عن اهتمامك.
ليس في الاستطراد العربي ما يلائم هذا الرجل،لا في الملبس ولا في الكلمات، فما أن يتوقف عن إعادة الجملة وتقليبها، إلا وتنفرش مثل ساق مزهرة ناشرة فروعها في اتجاهات عديدة بزخم استوائي، ومتفتحة في أفكار عديدة متراكبة في آن معا، حتى لو أدى ذلك إلى دحض نفسه بنفسه من دون كلل.
كلما قرأت عباس اشعر بأنه يقرأ ويكتب بنهم الشره للطعام والشراب، رغم اني احس بأن هذا امتع وألذ له من دون شك. تبقى صورة واحدة تراودني كلما فرغت من قراءة نصه انه يكتب بزخم، يلتف بالمقال بشكل مخروطي، يحفر على الصفحة البيضاء، يجلس عليها، يأخذها إلى الفراش، ويتدحرج عليها، ومن ثم يعود ليغرقها بالحبر، إذا شعر باهتمام كاف.
بشير البكر
(كاتب سوري مقيم في باريس )

لا تقلـــق يـــا صديقـــي
ثناء عطوي
لن تقلّل الغيبوبة من حضورك ولن تزيدك إلا طمأنينة يا صديقي ففي النوم كما في دورة الوقت شفاء، وحده النوم يجعل الألم أقلّ والخسران أسهل. أعلم أنك تنام نصف النوم الهارب غالباً من سريرك وأحلامك كما تخبرنا دائماً، النوم عصي على الاستدعاء أحياناً، مزاجي يهجرنا ويستعيدنا متى يشاء، فنستدعي الغيبوبة لنوقف فوضى الأفكار وتشابكها. عندما نظرت إلى وجهك وأنت مستلقٍ على سرير أبيض عالٍ وأفكارك تحلّق في الغيم، خطر لي ألف سؤال خارج من سراديب عتمتك، أسئلة تراودني منذ أن سمعت بالحادث الذي خطفك إلى أمكنة يضيق بها الشعر والشعراء، سألت نفسي ما هو الأقوى في هذا العالم النوم أم اليقظة، وهل اليقظة ما هي إلا حلم آخر كما يقول بورخيس، هل في الغيبوبة متسع للحلم والشعر ووجوه الأصدقاء، هل نلتقي في تلك الأمكنة بما نسمّيه النوم أو الموت، نعاتبه نسأله عن أسباب الغياب والحضور وانتقائه الأيام والشهور… سألت نفسي وأنا أرى إلى نومك، ماذا يعني أن ننام من دون توقف، أن نفقد اليقظة، أن تقع حناجرنا في بئر عميقة، ماذا يعني أن لا نتألم ولا نكتب ولا نرى وجوهاً نخجل منها وتحمرّ وجنــتانا في حضرتها، أن لا نحب ولا نغضب ولا نفعل أشياء كثيرة نعشقها ونكرهها على الأرض والأمكنة ذاتها.
التفوق إدمان أيضاً يا عباس وأنت تفوّقت على نفسك بالأمس، «طلعت أشطر من حالك» كما كنت تقول دائماً عندما ننجز أمراً على المستوى الشخصي، تجاوزت المحنة التي هزّت وجدان عائلتك ومحبيك وأصدقائك، وستعود إلى عالمك لكن حتماً بقناعات مختلفة، تماماً كاختلاف قناعتك بأمور كثيرة، وهنا أستعيد مقطعاً من حوار أجريته معك حول تبدل القناعات وتحوّل الأفكار عندما سألتك هل الماركسية هي فعلاً المكان الأصلح لفهم التاريخ والعالم، قلت لي لم تعد لديّ القناعة نفسها، لكن الماركسية توصلنا إلى أماكن لا نعود نستطيع السير خلفها، أي أن نصبح وراءها مجدداً، يمكننا أن نسير إلى الأمام لكن ليس إلى الوراء.
وقفت إلى جانبك بالأمس وأنا أنتظر إجابة على ما دار في رأسي طيلة أيام شدّتك، سألتك أين كنت وأنت في تلك الغيبوبة، سبقتك الدهشة وأنت تردّد لا شيء لا أذكر أي شيء فعلاً ولا شيء كالعدم كالفراغ كأي غيبوبة أو نوم عميــق، ضحكت وذكّرتك بأيام القلق التي كنت أشكــوها لك وأنــت تطمئنني قائلاً لا تقلقي من القلق فالنوم آت…
ثناء عطوي
السفير

نقد الألم
أمجد ناصر
(إلى عباس بيضون على سرير الشفاء)
لا أعرف لِمَ لم يؤخذ كلام عباس بيضون عن الألم على محمل الجد. أقصد على محمل شخصيّ. الألم مفردة أثيرة عند عباس، ومع ذلك أسيء فهمها. مع ذلك ظلت تعاني وحدها أو تكلّم أشباحها. قد يكون السبب ظنّنا أن عباس لا يتألم، وأن القصيدة، أو الكلمات، هي التي تفعل. الكلمات التي يجرجرها، بلا رحمة، فوق الحصى والدبش والأخلاط وحطام الحب والجسد. ظلَّ الألم حَكراً على الكلمات، وظلّت الكلمات مقيمة في قلعة القصيدة. ترفع نُصباً لغوياً للألم، نعجب به ولكننا، للغرابة، لا نصدّقه. الألم هناك في الكلمات. والكلمات، في زمن موت المُنشىء أو تواريه عن صنيعه، لا علاقة لها بالجسد رغم أنها تطلع منه! اخترع للألم ألف اسم، أعطه ألف قناع، سيكون جميلاً، وربما قوياً، أن تفعل، ولكن ليس علينا أن نصدِّق. ولأن الشعر مجاز نظنُّ أنَّ الألم مجاز أيضاً. فالشِّعر لا يُصدَّق. كلما كَذب كان أحسن!
‘ ‘ ‘
ليس دليلي على تردّد مفردة الألم عند عباس، وما يشعُّ منها، كتابه الشعري الموسوم بالمفردة ذاتها (نقد الألم). ذلك دليل سهل ولعله يضاعف سوء الفهم. هناك معجم كامل للألم، للجرح، عند عباس بيضون: العقاقير، المراهم، الأقراص البيضاء، التعقيم، الشرايين، المصل، الدبابيس، الندوب إلخ.
نقرأ لعباس عن الألم ونظن أنَّه أنين الكلمة، عن الأرق ونعتقد أنَّه رنينها أو ايقاعها الداخلي. هل نُقرأ، كلّنا، هكذا؟ هل تترك كلماتنا هذا الانطباع لدى الآخرين الذين هم نحن؟
‘ ‘ ‘
الأغرب أن عباس بيضون بدا (لي على الأقل) أشبه بشخوص الأنيميشن. تقفز من بناية، تنطرح على سكة حديد، تهرسها مدحلة، تسوى أطرافها بالأرض، ولكنها تنفض نفسها وتنهض! فلا جرحها يسيل منه دم ولا سقوطها من حالق مؤلم، ولا دحل أطرافها يترك طعجة فيها، فها هي تنهض، أمامنا، شقية، كاملة، عنيدة، كعهدنا بها.
ومع أنني أعرف أن لعباس أرومة في الجنوب (لها امتداد في الأردن) لكنه، لسبب ما، بدا لي أنه مقطوع من شجرة.. تلك التي تشبه حطّابها.. فهو ليس مثلنا تشغله العائلة وتربكه الجيرة، وتفتت أعصابه استحقاقات البيت، وينكّد عليه أقارب قادمون من بعيد!
هل هذا ما جعلني أعتقد، حتى في اللحظة التي كان يرزح فيها تحت غيمة الخدر الثقيلة، أنه سيعود؟ أنه سينجو من تلك المكيدة التي يسقط فيها غيره بسهولة، أنه سينفض نفسه ويلملم أطرافه التي تناثرت، في سهوة عادية، وينهض؟
ربما.
‘ ‘ ‘
عباس غامض رغم أنه يتكلم كثيراً، رغم أنه، تقريباً، لا يسمعك وأنت تكلِّمه. فكيف يكون المرء غامضاً وهو يتكلَّم بلسانه ويديه وصلعته وشاربيه الكثين؟ ربما لأن عباس لا يتكلَّم عن نفسه. نادراً ما سمعته يشكو أو يبوح، فإن فعل يغمغم. كلامه غير شخصيّ. وكل كلام غير شخصيّ يزيد مساحة الغموض. فهل نعرف عباس فعلاً؟ لست متأكداً من ذلك. نعرف كيف يفكِّر في الشعر والسياسة والفن التشكيلي، ولكن لا نعرف ماذا يخبىء خلف قفصه الصدريّ المُربَّع.
‘ ‘ ‘
لكن الأكيد (وقد كتبت هذه الأسطر، باستثناء الفقرة الأخيرة، في لحظة خدره الطويلة) أنني أردته أن يقرأ كلماتي ويضحك، أن يحكَّ صلعته ويغمغم بما يشبه القول: هل أنا هكذا؟
وها هو أصبح، كما علمت، قادراً على ذلك.
سلامات يا عباس.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى