المُثقف المُسْتَقِيل
صلاح بوسريف
‘ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً ‘ .
[الكهف، 52]
[1]
إذا كنتُ عَنَيْتُ بالمثقف المُسْتَقِلّ، ذلك الذي لم تعد تُلْزِمُه الانتسابات السياسية، بمعناها الحزبي الواسع، أو الذي لا انتماء له، أساساً، فأنا ذهبتُ إلى وضع مسافةٍ، بين ‘ السياسة ‘، كممارسة لها خطاباتُها، و آليات عملها، أي تلك التي تكون سافِرَةً، و تعلن عن نفسها من خلال انتماء محدَّد، أو تَوَجُّه فكري، أو إيديولوجي واضح، و بين ‘ السياسيِّ ‘، باعتباره رؤيةً، أو موقفاً، يتَّخذه الكاتب أو المثقف، إزاء جملة من القضايا و الأفكار، أي باعتباره مشاركةً في الموقف العام، لكن من خلال رُؤية شخصية، هي اختيارٌ يتحمَّل فيه المثقف مسؤوليته الذاتية، و هي غالباً ما تكون موقفاً صادراً عن اختياراتٍ فكريةٍ، أو ثقافية، هي ما يحكم طبيعة علاقة هذا المثقف بالواقع.
[2]
الاستقلالية، بهذا المعنى، ليست استقالةً، أو رفعَ اليد عن كل شيء، فهي، دائماً، كانت مشاركة، لكن من موقع مُسْتَقِلٍّ، يصدر عن موقف، هو تعبير عن عدم اقتناع بالخطابات السياسية السائدة، و ما يَصْحَبُها من ممارساتٍ، أو رفض لهذه الخطابات، كونُها، ربما، لا تفضي لأفق واضح، أو لا تُسَايِر أفق و رؤية هذا المثقف المُسْتَقِلّ.
[3]
أما المثقف المُسْتَقِيل، فهو من اختار موقف العُزوف عن كل شيء. هو مَنْ يكتفي بالكتابة، و يحرص أن تكون كتابته مَلْسَاء، خاليةً من أي موقف، أو لا تُوحي بأي معنى، فيما هي توحي بكل المعاني، أي ذلك المعنى المُلْتَبِس، الذي لا يفضي إلى غايةٍ.
كما أنّ الاستقالةَ، هنا، هي استقالة في الموقف أيضاً، فما يجري من أحداثٍ، السياسيُّ وحده هو من يتدخَّل فيها، و هو من يعمل على تكييفها وفق منظوره الأيديولوجي أو الفكري، و المثقف يبقى صامتاً، بعيداً عن التَّدَخُّل، أو تصحيح الرؤية، خصوصاً أن رجل السياسة، غالباً ما يسعى لتأويل الحدث لصالحه، و بالتالي، فهو يُوَجِّه الرأي العام، وفق هذا التأويل الذي قد لا يكون تعبيراً عن حقيقة ما يجري.
[4]
أودُّ، أن أتوقَّف، هنا، عند التأويلات التي صدرت بصدد عزوف الناخبين، في المغرب، في انتخابات 2007، عن التصويت. المُتَدَخِّلُ الوحيد كان هو رجل السياسة، و هو مَنْ حاول تبرير هزيمته، و تكييفها وفق منظوره الذي لم يكن قراءةً، أو نقداً لما جرى، بقدر ما كان لَوْماً يُلقيه، تارةً، على هذه الجهة، و تارةً، على الجهة الأخرى.
المثقفُ بَقِيَ صامتاً، لم يتدخَّل ليُبديَ رأيه فيما جرى. صحيح أن السياسةَ تَتَّسِم بالتَّدَخُّل الآنيِّ، و تعمل على تطويق الحدث، في حينه، و أيضاً على السبق في إعلان الموقف، و أنَّ المثقف، هو شخص، طبيعة عمله، تفرض عليه التَّأَنِّي، و جمع المعطيات، و قراءتها، بما فيها ما يصدر، من مواقف، لرجال السياسة، و هذه، طبعاً، إحدى سمات انفراد المثقف عن السياسي.
لكن حين يبقى الحدث دون تدخُّل المثقف، أو صوتاً سياسياً محضاً، هذا ما يجعل الموقف يكون مُلْتَبِساً، و يبقى بالتالي تحليل و تأويل الحدث، من صناعة السياسيِّ، أو قراءةً أُحادِيَة الجانب، مُلْتَبِسَةً بمواقف السياسيِّ وحده، و بأيديولوجية الجهة التي ينتمي إليها، أو التي منها يأتي خطابه.
فَما جرى، في انتخابات 2007، كان فيه صوتُ رجُل السياسة هو الصوت العالي، و صوتُ المثقف كان غائباً، أو وَتراً بدون عازف.
[5]
ثمّة مسافة بين المثقف المُسْتَقِلّ، و المثقف المُسْتَقِيل. إذا كان المثقف المستقِل له لَوْنٌ، وَجْهٌ و ملامح، أقصى تقدير، و له صوتُهُ المسموع، الذي يصدر عن مرجعياتٍ معرفية، تكون هي ما يحكم طبيعة رؤيته لما يجري، و تُحَدِّد، بالتالي، مواقفه، فإن المثقف المُسْتَقيل، هو أيضاً له مرجعياتٌ يحتكم إليها، لكن رؤيته تبقى مُلْتَبِسَةً، كون مواقفه عائمة، و لا تصدر عن وجْهٍ واضح القَسَمات. فهو يلعب على كل الحبال، و يكتفي بالصمت أو التَّواري عن الأنظار، كُلَّما كان الموقف يستدعي رأياً أو موقفاً مُحَدَّداً.
[6]
أصبحت استقالة المثقفين إحدى خصوصيات وضعنا الراهن. و هو ما سيسري على المؤسسات الثقافية التي كانت تَحْضَنُ المثقفين، أو تتكلَّم بصوتهم. انتفى هذا الصوت الجماعي؛ إما لكونه فقد استقلاليته، أو لكونه بَقِيَ يعيش على الماضي، و لم يطور آليات عمله، و طبيعة مفاهيمه، ونُظُمِه التي تهالكَت، أو فقدت القدرة على مسايرة السُّرْعَة المفرطة التي تسير بها الأمور.
هذا الوضع انعكـس طبعاً علـى الأفـراد، و أصبـح من السَّهْل تبريـر ‘ الخيانات ‘ بالمعنى الذي أعطاه جوليان بوندا للكلمة.
ليست الخيانة أن يُغَيِّر المثقف موقفه، أو يعيد ترتيب انتساباته السابقة، فالمثقف له مواقفٌ مكتوبة، و مُوَقَّعٌ عليها، و هي، غالباً، ما تصير مرجعاً لأشخاص آخرين، و هذا ما يفرض وضع هذا الانتقال، أو قلب المفاهيم، و التصوُّرات، و حتى المواقف، في سياقها المعرفي، و أن تكون البدائل، اختياراً لا يَعْبَثُ بالأسُسِ. حين تتعرض الأسس للقلب، و ليس للمراجعة، فهذا ما يجعل من هذا القلب خيانةً، لأنه، غالباً، ما يكون ذهَاباً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، كونه، طبعاً، قلباً في المواقف، و هو ما يتطلَّب ما يكفي من المقدمات، و المبررات التي ليس من السَّهل إقناع الآخرين بها.
[7]
صحيح أنَّ التغيير هو من شروط عمل المثقف، و المثقف الذي يصبوا للتغيير هو ذلك الذي لا يطمئن للثوابت، أي لِما يصير، بحُكْم العادة، عائقاً، غير أنَّ التغيير يكون نابعاً من قناعاتٍ، تقتضيها طبيعة المرحلة، و هي بالتالي تكون في صالح الصيرورة، و ليس ضدَّها.
في حالة المثقف المستقيل، لا توجد قَناعَات، لأنَّ التغيير الذي يذهبُ إليه، هذا الأخير، هو تغييرٌ في المصالح، و حرص على مسايرةَ الرِّيح، أو تحريك القارب في الاتجاه الذي تفرضه رياح المصلحة لا غَيْر.
أليس، المثقف المستقيل، بهذا المعنى، هو المثقف الانتهازي، الوُصولي، الذي يُسَخِّر معرفتـه لقضاء مآربه، أو هو من تصبح المعرفة، عنده، أداةً،
لا يَهُم، ما تفضي إليه من تغييراتٍ في الأفكار و الرُّؤى و المواقف، أي بما تُحْدُثُ به الصيرورة في مختلف قطاعات المجتمع، بقدر ما يكون مشغولاً بما سيجنيه من مكاسب ؟
إضاءة:
‘ إنَّ سرَّ الثقافة الحقيقي هو؛ يصارع رجال عديدون من أجل اكتساب الثقافة، و يعملون من أجل الثقافة، خدمةً لمصلحتهم على ما يبدو، ولكن ذلك يَتِمُّ في الواقع فقط لكي يوجد هذا العدد القليل ‘
[نيتشه]
القدس العربي