لا تردّوه خائباً
رامي الأمين
“اتوجه اليك في رسالتي هذه مناشداً عدم تسفيه توسلاتي اليك لأجل العمل على درء الخطر المحدق بحياة ولدي الوحيد علي نصار جراء نية حزبكم اشراكه في الجانب العسكري من نشاطاتكم”. بهذه الجملة بدأ الشاعر عادل نصار رسالته إلى الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، الموجهة عبر الـ”فايس بوك”، طالباً فيها عدم تحوّل ابنه الوحيد صورة على عمود كهرباء.
هذه حال عائلات كثيرة تخاف على ابنائها من الذهاب إلى الموت بطريقة إرادية استشهادية، خدمة لمشروع سياسي، أو حتى وطني وديني.
المسألة ترتبط بثقافة إيديولوجية لدى حزب استطاع جذب عدد كبير جداً من الشباب للإنخراط في صفوفه، مع استعدادهم الكامل للذهاب إلى الموت في سبيل القضية. فـ”حزب الله”، يعرف تماماً من أين تؤكل الكتف في الحسابات السياسية الداخلية، ويعرف ايضاً أن السيطرة الداخلية، تحتاج دائماً إلى فتح الجبهات مع العدو لتوكيد دوره العسكري. لذا يبقى باب الإنتساب إلى الحزب مفتوحاً أمام الشباب الذين تقفل في وجوههم أبواب الدولة والعمل والعيش الكريم. بذلك، يصير العيش في سبيل الموت، والموت في سبيل الله، طريقين للهرب من الواقع الصلد. ليس ما يدل على ذلك أكثر من طلب الحزب من هؤلاء الشبان في الدورات التدريبية العسكرية، حفر قبورهم بأيديهم، امتحاناً لإستعدادهم للموت. ما يعطي صدقية للحزب في هذا الموضوع، أن الموت لا يستثني احداً، وأنه مطلوب من جميع قياداته، استناداً إلى لازمة يكررها نصرالله في خطاباته: “إن القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة”، وهي عبارة منسوبة الى الإمام الحسين بن علي الذي استشهد في موقعة كربلاء. لهذا ربما، لم يتردد نصرالله في إرسال إبنه هادي إلى الجبهة، الذي عاد شهيداً بعد مواجهة مع العدو الإسرائيلي.
مع وضع القضية في الميزان، لا يجد المرء داعياً للنقاش حينما يكون المرء مقتنعاً بما يقدم عليه، وحينما تكون بيئته مقتنعة. فهادي نصرالله مقتنع بالذهاب إلى الموت تماماً كإقتناع والده. لا صراع هنا بين الأب وابنه. أما في حالة عادل نصار، فثمة صراع بين الحياة والموت. الولد يريد الذهاب إلى الموت، والأب يريده حياً، لهذا يستعين بنصرالله، بوصفه الأقدر على حلّ هذه المعضلة الكامنة بين ثقافتين. عادل نصار لا يطالب بإبعاد ابنه عن “حزب الله”، بل يطلب عدم إشراكه في الجانب العسكري من نشاطاته. لا مشكلة لدى الأب في توجهات ابنه السياسية، شرط ألا توصله إلى الموت، الذي يشكل بالنسبة إليه فاجعة بعد سلسلة الخسارات التي تكبدتها اسرته خلال الحرب الأهلية، كما يفنّدها في رسالته إلى نصرالله: “فقد اودى انفجار لغم ارضي بسيارة العائلة في اواخر 1976 على طريق عام الصالحية – صيدا، بحياة ابي وامي واخي الصغير الذي لم يكن يتجاوز عمره السبع سنوات ، وكنا قبل فاجعة اهلي بأشهر قليلة قد فقدنا اثر اخي الاخر الذي لم يتجاوز عمره الثامنة عشرة اثناء مشاركته في القتال الدائر انذاك بين ابناء البلد الواحد”.
عادل نصار، الذي اصدر قبل فترة ديواناً بعنوان “مشروع شهيد افتراضي”، يتقلب فيه على جمر الغياب، ويعلن فيه اعتراضه على الموت بوصفه “دفاعاً عن رؤى وفكرة”، يتوجه إلى الشهداء بالقول: “يا أيها القابعون على الجدران، قريباً ستخوننا الذاكرة ويعلو صوركم الغبار وتبهت الألوان. قريباً ستجرؤ الأيادي عليكم وتستبدلكم برسومات عصرية. ماذا لو أعدنا نبش قبور الذين يسقطون دفاعاً عن رؤى أو فكرة. ماذا لو أعدنا حفر قبور الذين فقدناهم في حروب الأحلام. ماذا لو فتحنا قبورهم بعد حين واكتشفنا حقيقتهم”.
خوفاً من حقيقة الموت، ومن مجانيته أحياناً، ومن كونه خياراً وحيداً في ظل انسداد الأفق، وتضاؤل فسحة الأمل، يتوجه عادل نصار إلى نصرالله “راجيا تلبية ندائي ومراعاة وضعنا العائلي المنكوب منذ بداية الحرب، ولك ان تتصور طبيعة الظروف المأسوية التي مررنا بها كعائلة والصعوبات التي كابدناها بفعل فقدان الحضن الذي يحمي”، فعائلتنا “لا يمكنها ان تتحمل فاجعة جديدة فيما لو اصاب ولدي اي مكروه لا قدّر الله”.
لا يملك عادل نصار شيئاً في هذه الحياة. من يعرفه يدرك أن هذا الرجل يعيش بالمصادفة، لأن “موتاً طائشاً ضلّ الطريق إليه من فرط الزحام وأجّله”، على ما يقول محمود درويش في إحدى قصائده. في هذا المعنى، لا يطلب عادل نصار ردّ القضاء، بل اللطف فيه. يقبل أن يبقى ابنه فاعلاً في “حزب الله”، لكنه يريده حياً يرزق، لهذا يصل إلى ذروة رسالته راجياً نصرالله “اللطف بوضعي النفسي الصعب الذي اعاني منه منذ ما يزيد على السبعة عشر عاما والذي ولا شك سيتفاقم وقد بدأت بوادره بالظهور منذ لحظة معرفتي بنيتكم القيام بما اتيت على ذكره في بداية رسالتي اليكم، اني استحلفكم بما تؤمنون وتقدّسون عدم ردّي خائبا” ¶
النهار الثقافي