“سوا ربينا”.. لكننا لم نعد أخوة!
عمر قدور
كان يكفي أن تتدخل “فيروز” في اسكتش المصالحة المعروف، وتنطق بجمل معدودة، لتنهي نزاعاً عمره عشرين سنة بين “شيخ نصري” و”أبو صالح”؛ ذلك النزاع الذي أجّجته فتاة اسمها “جوريّة” قبل أن تهرب خطيفة مع “سعد الفرّان”. يبدو الأمر منطقيّاً تماماً لكلّ من يعرف الإرث الرحبانيّ؛ إذ لا نزاع يستعصي على الحلّ عندما تطلّ فيروز بـ”جلالها الملائكيّ” وتمسح بصوتها على الجراح!
توحي “كان” الاستهلال هنا بوجود زمن تحدث فيه الأمور، أو من الممكن لها أن تحدث، على هذه الشاكلة. فالخلاف أو النزاع البسيط، لا الصراع الذي يغيب عن تجربة الرحابنة، مرشّح للحلّ بسهولة شديدة قد لا تدركها عقولنا في البداية، لكنّها تنطلي على مشاعرنا وتدغدغها برهافة في النهاية! وهكذا كان يكفي أيضاً، في مسرحيّة “ناطورة المفاتيح”، أن يقرّر الشعب الهجرة هرباً من تعسّف الملك ليحسّ الأخير بالوحشة وأنْ لا وجود لمُلك بلا شعب، طبعاً بعد أن تؤدّي فيروز “ناطورة المفاتيح” دورها في تجريده من جبروته وتكبره أولاً، وإقناعه بالعودة إلى الرشد تالياً؛ هي تجربة مع الاستبداد لم يبذل فيها الشعب الدمَ، ولم يتشرّد أبناؤه في المنافي لسنوات طويلة بلا جدوى، ولم يتمسّك المستبدّ بطغيانه حتّى آخر رمق في حياته. بل إنّ طغيان الملك، في المسرحيّة لا في الواقع، يبدو ناشزاً عن طبيعة الأمور، فنكاد نقتنع بأنّ الأصل هو الملك العادل!. ولئلا نتّهم الرحابنة بالسذاجة فإنّ مسرحيّة أخرى “يعيش.. يعيش” تأخذ منحى مغايراً، لكنّها تظلّ مخلصة للجوهر فنرى اليأس من التغيير محمولاً على روح الدعابة والمرح في غيابٍ، أو تغييب، واضح لفظاظة الواقع. وعلى الصعيد ذاته تتموضع شخصيّة الجد “بو ديب” الكذّاب كمعادل للفظاظة الغائبة، وكأنّه يكفي أن يحلّق في مآثر خيالاته لينأى بنفسه عمّا يحدث في الأرض.
التوصيف السابق، الذي قد يبدو قليل الرحمة قياساً إلى تجربة الأخوين رحباني، ليس دعوة ليكون الفنّ مرآة للواقع أو صورة فوتوغرافيّة له فهذا ما لم تتنطّع له التجربة أولاً، ولا يجوز لنا الافتراء عليها من خارج منطقها تالياً. مع ذلك يغري الانتشار الواسع، والتأثير الواسع أيضاً وإن كنّا لا نستطيع قياسه، لتجربة الأخوين رحباني بتقصّي الأثر الوجدانيّ، ومن ثم المفاهيميّ مع عدم الفصل بين الاثنين، على شريحة من المتلقّين تبنّوا التجربة الرحبانيّة إلى حدّ لا تضاهيه سوى ظاهرة أمّ كلثوم المعروفة، والتي خضعت لتمحيص متعدّد الأبعاد بخلاف تجربة الرحابنة التي ظلّت إلى حدّ بعيد بمنأى عن التشريح أو التجريح؛ وكأنّ “خفّة” ورهافة التجربة منحتها، وإن عن غير قصد، حصانةً تقترب من القداسة؛ فمن تسوّل له نفسه، والحال هذه، أن يتعرّض للملائكة!؟
كأنّ العفّة هي سمة الاقتراب من تجربة الأخوين رحباني، مثلما كانت العفّة سمة التجربة ذاتها. فالعفاف الذي يتجلّى في مقاربة الواقع السياسيّ أو الاجتماعيّ ينسحب على العفاف في جانبه العاطفيّ. “بحبك ما بعرف، هن قالوا لي، ومن يومها صار القمر أكبر ع تلالنا”. هذه الصورة التي تتكرّر على أكثر من وجه في أغاني فيروز، صورة العاشقة التي بالكاد تعرف أنّها كذلك، العاشقة التي لا تعرف من أمر العشق سوى أنّه إحساس لذيذ مربك، فلا تتعدّى رغباتها تلك الأمنيات البسيطة من نوع “ولا بدي شي بعد إلا داريك، بيتي بيصير وعد لما بحاكيك. بتذكر مرة سهرنا بخيمة، وبهاك السهرة وشوشتك كلمة”. وكشأن العفّة عموماً يمكننا تأويل المكبوت الذي تنطوي عليه، لولا أنّ النصّ الرحبانيّ يتقن اصطناع جماليّات لها، فيحجب عنّا عفّة الضرورة أو القسر لنراها اختياراً طبيعيّاً أو توصيفاً لما ينبغي أن يكون عليه أصل الطبائع.
وقد يغرينا ادّعاء البساطة، مع النفحة الرومانسيّة التي تعتوره، بردّه إلى نزوع ريفيّ، إلا أنّ توصيفاً كهذا يتجاهل حال الريف، وخاصّة شبكة علاقاته الاجتماعيّة التي لم تكن يوماً على هذا النحو، كما أنّه يتجنّى على سعة أفق الأخوين اللذين يعرفان، دون شك، أنّ الدعة الريفيّة الموجودة في نصّهما تفترق عن الشظف الموجود واقعاً. ونعلم أن لا قرابة فنّيّة بين النصّ الغنائيّ للأخوين والـ”الكانتري ميوزيك”، بل إنهما كانا أقرب إلى تمثّل مقطوعات تنتمي إلى الموسيقى الكلاسيكيّة العالميّة. أمّا الحنين الريفيّ، إن جاز التعبير، فهو حنين إلى طبيعة قد تجد ما يماثلها في الواقع على أن يتمّ استبدال ناسها بأناس آخرين يجمعون بين لغة البشر وخفّة الطير، لذا تتخلّص اللغة من شوائب الأرض وأعشابها الضارّة، وتتوسّل نقاءً لا تعترف بانتفائه أصلاً.
هكذا سنجد في الأثر الذي تخلّفه تجربة الأخوين شرخاً مشابهاً لما تخلّفه الطهرانيّات بمختلف أنواعها. ولعلّ الشرخ المعروف على نطاق واسع هو بين الأخلاقيّات التي تتمّ تنشئة الأطفال عليها والواقع المفارق لهذه الأخلاقيّات، ما يوقع المراهق عادة في أزمة أخلاقيّة ووجدانيّة بالمقارنة بين ما تربّى عليه وما هو عليه الحال حقّاً وفعلاً. ومن الشائع أيضاً ذلك النوع من الحنين إلى الماضي بعدّه فردوساً مفقوداً، والنظر إلى الحياة كصيرورة تذهب في الانحدار، وعلى ذلك قد يتراءى أنّ الزمن الرحبانيّ زمن واقعيّ حقّاً وإن أضحى اليوم مفقوداً، بل ربما يتراءى بوصفه زمناً معياريّاً تُقاس عليه اللحظة الراهنة فيتبدّى خطؤها وانحرافها.
إلى ذلك الزمن الجميل ينتمي الأخوان رحباني، حيث أنّنا لا نعرف مَن منهما ساهم، وبأيّ قدر، في النصوص الممهورة بالاسم الجامع لهما، وربّما كان اسم “فيروز” يغني عن التساؤل عن حصّة كلّ منهما ما دام صوتها خلاصة ما بذله الاثنان، بالإضافة إلى نصيبها الخاصّ من الإعجاب الشديد. لكن لم يقيّض لذلك الزمن أن يستمرّ كما يأمل محبّو التجربة، إذ سنرى الغموض الذي لم يبدّده أحد من الأخوين، قبل رحيلهما على التوالي، يصبح مدعاة للتنازع بين ورثتهما. بالتأكيد ليست هذه المرّة الأولى التي تحدث فيها منازعات قضائيّة حول حقوق للملكيّة الفنيّة أو تبعاتها الماليّة، ولسنا هنا بصدد معالجة هذا الجانب، بل إنّ هذا النوع من المنازعات يندرج في السياق المعتاد لأنواع النزاع التي نصادفها كثيراً، ومع ذلك فإنّه وقع بمثابة الصدمة وبدا شديد النشاز عن النصّ الرحبانيّ. نرى ذلك في ردود الأفعال المرافقة للحدث القانونيّ، فإحدى الفنّانات العربيّات تصرّح بأنّه حتى إن كانت فيروز على خطأ لا يجوز الادّعاء عليها، بينما تقول فنّانة لبنانيّة: “فيروز أيقونة ما بيصير يدقوا فيها”.
يمكننا رصد عدد كبير من ردود الأفعال المشابهة، خاصّة على شبكة الانترنت، والتي يدور معظمها في فلك تنزيه فيروز أو تجربة الأخوين رحباني عن الوصول إلى هذا المآل. وهذا ليس بغريب عن السرديّة الرحبانيّة ذاتها، بل إنّنا لا نغامر إن وصفنا هذه الأقوال بالأمانة للنصّ الرحبانيّ الذي يرفض الانصياع لقوانين الواقع، والذي لطالما تعالى وتحاشى الاصطدام بها حتّى شاع الظنّ بأنّ أصحابه أيضاً لا ينتمون إلى مملكة هذا العالم. وإذا كان البعض من المتلقّين قد وطّن نفسه على قبول الواقع ورؤية النصّ الرحبانيّ بمثابة الحلم فإنّ المفاجأة القاسية أتت من صلب الحلم لتجرّح فيه بطريقة يصعب فيها رتقه كالمعتاد؛ إذ ليس من المنتظر أن تنطق فيروز أو خصومها ببعض العبارات ليعود الوئام والسلام على عادة الأخوين الراحلين.
بعيداً عن التعميم؛ ينتمي كاتب هذه السطور إلى جيل رافقت أغاني فيروز نشأته منذ الطفولة المبكرة. وقد حدث أن كنت معجباً بأغنية “سوا ربينا” لفيروز، وحدث فيما بعد أن أقلعت عن سماعها بعد أن استُخدِمت عنواناً على نحو لم يعجبني، فأصبحت أغنيتي المفضلة تحمل دلالات مغايرة لذلك العشق الذي يستهوي مراهقاً فيعتقد برسوخه وديمومته؛ العشق الرومانسي الباهظ الذي تتميز به الفيروزيات عموماً، والذي أخّر نضجي العاطفي. مؤخّراً سمعت الأغنية بالمصادفة، وسرّني أن نفوري منها قد زال، وسرّني أيضاً أنّها لم تترك الأثر العميق الذي كان يخلّفه سماعها في أثناء مراهقتي، ولمّا كانت فيروز تتساءل: معقول الفراق يمحي أسامينا ونحنا سوا ربينا؟ أجبتُ بعفويّة: نعم سيّدتي؛ هذا هو المعقول بعينه!
المستقبل