الاحجار تعطي جوابا يشبه رجع الصدى: اسمي فيديريكو غارسيا لوركا
ألبير بن سوسان
في التاسع عشر من شهر آب/اغسطس من سنة 1936، ألقت الميليشيات الفاشستية الفرنكوية القبض على شاعر غرناطة فيديريكو غارسيا لوركا واقتادته صحبة مدرس جمهوري يدعى غاليندو غونزاليس واثنين من المناضلين الفوضويين إلى جرف فيزنار الواقع على بعد كيلومترات من مدينة غرناطة. أعدمتهم عقب ذلك في تمام الساعة الخامسة صباحا رميا بالرصاص ثم ألقت بجثثهم في حفرة تحولت بعد عقود من ذلك التاريخ الأسود إلى حديقة تحمل اسم مبدع ‘عرس الدم’.
تأتي ترجمتنا لهذا النص ذي الكثافة الشعرية القوية في سياق احتفاء شخصي بهذا الشاعر الذي استطاع رغم عمره القصير ورحيله المأساوي أن يجعل من سيرته الشعرية وسيلة للاحتجاج ضد قبح العالم وفساد العلاقات والرؤى إلى العالم. حقيق بالإشارة في هذا الخصوص إلى أن هذا النص الجميل متضمن في السيرة التي لم يسبق لها أن نشرت والتي صدرت في بحر هذه السنة لمؤلفها ألبير بن سوسان وهو أكاديمي فرنسي أحد كبار المتخصصين في الأدب الإسباني.
النص:
الحلم قصير لكنه سعيد. مانويل فويغ
سقطت الستارة، ولم يبق إلا كتابة شاهدة القبر. بيد أن الشاعر هو الذي أوحى لنا بها. حين استقل القطار إلى غرناطة في ليلة 13 تموز/يوليو عام 1936، وهو يستشعر الرعب بسبب انقلاب الجنرال فرانكو وبداية الحرب الأهلية، كان يحمل في جيوبه بضع صفحات مسودة هي عبارة عن مسرحيته الأخيرة التي تحمل عنوانا دالا ‘أحلام ابنة العم أوريليا’ التي لم يبق منها غير الصفحات الأولى. كان الأمر يتعلق بعمل طموح كتب خصيصا للسيدة روسيتا الآنسة العجوز والذي سوف يحقق الوصل بعد المأساة الحادة للعزلة التي تجسدها مسرحية منزل السيدة ألبا بأندلس الجذور والروائح والثمل. كان للأمر تعلق بالفعل بحكاية تاريخية غرناطية تتأطر تاريخيا في سنة 1910- دونيا روسيتا في عبورها للزمن في ثلاثة فصول تتوزع بين 1900 و 1925- والتي تحيل إلى الشاعر الطفل البالغ من العمر اثنتي عشرة سنة حسب تقرير ضابط الحالة المدنية والذي لا يتجاوز في الحقيقة عشر سنوات؛ ذلك أن لوركا كان به نزوع نحو التغنج يحمله على أن يحذف سنتين من عمره كي يبدو أكثر شبابا. كانت هذه الإشارة إلى الحياة الغرناطية تغرقنا في هذا الحضن الأنثوي الذي عرفه بمعية بنات عمومته وفي مقدمتهن أوريليا التي كانت أكثرهن حظوة لديه والتي كانت تبلغ من العمر عام 1910 اثنين وعشرين عاما. تنفتح الستارة على ثرثرتهما وتظارفهما: في الوسط رؤيا بوفارية (نسبة إلى مدام بوفاري) لصالح رواية مسلسلة نقرأها جهرا وتتمحور أحداثها حول شرف شابة أصيلة تم اختطافها بواسطة سيارة. تدور الأحداث في قرية عرس الدم أو الفضاء الذي استبيح فيه شرف ابنة السيدة برناردا ألبا. المرأة هنا بانتظاراتها وأحلامها: سألت أوريليا التي تعرف بتأثير معاناتها من العزلة الصارمة لراهبات كالديرون شأن دونيا فيسسينتا والدة الشاعر ولاحقا شقيقته كونشا ـ ما يعنيه الهروب بواسطة الخيال: هل يسعكم الاعتقاد في إمكانية أن يعيش المرء دون أن يقرأ روايات أو يبدع مسرحا؟ يشكل الخلاص بفعل الحلم الرسالة الأخيرة التي يرغب الكاتب المسرحي في إيصالها لنا، وهو الرجل ذاته الذي سوف يخرج بمعية فرقته باراكا العمل النموذجي المتعالي للمسرح الإسباني. الحياة رؤيا آثر المؤلف بتأثير مصادفة غريبة إطلاق اسم كالديرون عليها. وهو الذي سوف يحتفظ لنفسه بهذا الدور الغريب الذي يعتبر تمثيلا للظل الذي سوف يتطور داخل الركح في شكل حجب سوداء لأرملة كبيرة وعاقر، وهي واحدة من تلك النساء اللاتي تحدث عنهن سان جون بيرس.
رأى لوركا في الوقت الذي كان يستقل فيه قطار العودة النهائية إلى الأرض حياته وهي تعبر أمام ناظره مثل حلم قصير وسعيد. وفي غمرة تسلسل هاته الصور كما كان يحبه، كان يرى نفسه طفلا ومغرما بابنة عمه أوريليا التي تكبره سنا: أنت لك قامة ونهدان ـ سوف يدفع بهذا الهوس بالنهود إلى الذروة ـ وشعر سبط تزينه الورود. أما الآن فلا أتوفر على أي شيء من ذلك. خاطب بذلك واحدة من بنات عمومته التي علقت على كلامه بالاحتكام إلى المنطق: هذا لأنني امرأة. كم من الندم تشتمل عليه دون شك هذه الملاحظة. ومرة أخرى، يتأمل لوركا وجهه في ويطالع كل هاته الشامات التي كانت تزعجه في الماضي أحيانا دون أن يشعر بالرعب. قالت ابنة عمه بلطف: إن لك شامات تشبه أقمارا صغيرة من الرغوة الناعمة. هل يتعلق الأمر مرة أخرى بالخيال أم بالذاكرة؟ ألم نجد بهذا التقريظ فيما مضى على فيديريكو؟ يتعلق الأمر بغزل يستشرف حد الاعتراف بالحب:
شامات الحسن على وجهك
حروق تلسع عيني
أما تلك التي بجوار فمك
فلا يسع رؤيتها دون شعور بالاضطراب..
أوريليا أو أي عشيق هدهدته فوق نهدها أو ضمته إلى قلبها. بيد أنه في هاته المسرحية التي تتموقع في عصر الكرنفال والتي تمنحنا ما يشبه باقة نهائية من مسرح لوركا أو فالس من الأقنعة، يظهر سائق الجندول. وسرعان ما نلفي ذواتنا وقد انتقلنا إلى البندقية المدينة الحاضنة لكل قصص الحب والمغامرات السرية والمنمقة وحكايات الحب الخائبة؛ وهو ما يمثل صدى الأغنية الجندولية الشهيرة لأوفنباخ.: أيها الليل الرائع، يا ليل الحب، ابتسم لحالات سكرنا’. ويشكل ذلك تجميعا للورود الأسطورية لمدينة كازانوفا. غير أن سائق هذا الجندول يغني بطريقة مغايرة شأنه في ذلك شأن نوتي الجحيم الذي يقود قاربه في اتجاه الظلمات. إنه يغني الأبيات الشعرية الأخيرة التي أتيحت للوركا فرصة كتابتها؛ وهي تلك القصيدة الأخرى عن الحب الغامض واللذة المرفوضة، وها هي ذي الكلمات ترن مثل كتابة على شاهدة قبر:
آه يا سائق الجندول العاشق
يا صاحب الوجه الذي لا مثيل له
أبحر أبحر دون توقف.
الحب لن يأتي
ابدا أبدا لن يأتي
أبدا أبدا لن يأتي
لكن ينبغي للكتابة على شاهدة القبر أن تذيل بتوقيع. و في ‘أحلام أبنة العم أوريليا’ حيث تتغنج وتتدلل بلطف الشابة أوريليا وابن عمها الصغير نجدها وهي تسأله في النهاية: هيا، قل لي ما اسمك؟ وكما قدم الشاعر نفسه باسمه في قصيدته الشهيرة ‘موت أنطونيطو إلكومبوريو في ديوان ‘الأغنية الغجرية’:
آه يا فيديريكو غارسيا
أخطر الحرس المدني
لقد انهصرت قامتي
مثل عود ذرة..
هذا ما يرغب فيه للمرة الأخيرة وهو على مشارف موت يعرف أنه موعود به، وهو أن يتلفظ باسمه الشخصي من أجل موته الخاص ودون أن يحيط علما بذلك أو يتذكر أي شيء. من أجل دائرة ودائرة: ليدور فادور كما تعبر عنه بطريقة مفرطة في الشعرية اللغة العبرية كي تشير إلى دورة الأيام. نعم. لنردد اسمه جيلا بعد جيل وعلى امتداد قرون وقرون.. وهو هذا الاسم الذي ردده حين كان طفلا:
اسمي فيديريكو غارسيا لوركا..
لئن نحن تساءلنا كما فعل الشاعر الذي كان يكبر لوركا سنا أنطونيو ماتشادو عن هذه الجريمة التي جرت أطوارها في غرناطة، ورغبنا في الإحاطة علما بما حدث في جرف فيزنار عند نبع الدموع. ولئن تساءلنا أيضا عن الضحية وعن هذا الصمت المطبق الذي ران بعد ذلك والثلج الذي يعلو الشفاه، فإن الأحجار سوف تعطينا جوابا يشبه رجع الصدى:
إنهم يغتالون لوركا.
ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف
القدس العربي