لماذا أسقط درويش بعض قصائده القديمة؟
أمجد ناصر
وقع بين يدي، قبل أيام عدد من ‘كتاب في جريدة’ ضمّ قصائد لمحمود درويش. لم تكن تلك المختارات ذات طابع تمثيلي شامل، وذلك أولاً لكبر منجزه وتراكبه أطواراً ومراحل، وثانيا لمحدودية الحيز المتاح (أقل من ثلاثين صفحة تابلويد)، ولكن هذه المختارات مع ذلك، لا تخلو من الطابع التمثيلي، لأنها كانت من اختيار الشاعر نفسه، فهي تدلنا، والحال، على ما يفضل درويش أن يقدمه من شعره هنا والآن كما يقولون.
فعندما تكون للشاعر حرية أن يختار شيئاً من شعره فإن ثمة معياراً سيحكم حتما هذا الاختيار. كأن الشاعر عندما يختار يعيد ‘كتابة’، أو لنقل يعيد ترتيب انجازه مرة أخرى، يموضعه انطلاقا من النقطة الفكرية والجمالية التي يقف عندها، وهذا هو ديدن الاختيار. فهو يقوم على أخذ شيء وترك آخر، ولا بد من سبب كي يأخذ المرء ما أخذ ويترك ما ترك.
فما هو المعيار الذي انتخب، على أساسه، محمود درويش تلك المختارات؟
* * *
كان محمود درويش يعرف، ولا شك، أنه يختار أعمالاً كيما تضمها جريدة. الجريدة منبر سيّار موجّه للعموم وليس إلى نخبة معينة، وهنا تكمن دلالة انتخاب درويش هذه الإضمامة من عمله الشعري ذي المراحل والنقلات المتعاقبة لتنشر في ملحق تتضمنه جريدة يومية، وفي لحظة فلسطينية حرجة (متى كانت اللحظات الفلسطينية غير حرجة؟!).
وعلى عكس ما يمكن أن يذهب اليه الظن في لحظة فلسطينية كثيفة فإن الشاعر لم يأخذ في الحسبان، كما سنرى، سوى ما يؤكد شعره في الشعر وقصيدته في القصيدة، لا ما يدخل في جهد اللحظة الفلسطينية الحاضرة من كتابات، بعضها طيب النية لكنه ساذج فنيا، وبعضها الآخر يركب الموجة ليس إلاّ.
* * *
الملاحظ أن درويش لم يضم في مختاراته تلك سوى ثلاث قصائد من مجموعاته الأربع التي أصدرها قبل مغادرته فلسطين عام 1970، وهي الأعمال التي اتسمت، رغم رهافتها الجمالية، بانشغال فلسطيني كبير، وهو انشغال ما كان يمكن للشعر، ولا للفنون الفلسطينية الأخرى، أن تتفادى حضوره السياسي أو الوطني العام فحسب، بل والوجودي أيضا.
ليس ممكناً للشعر، مهما انفصل عن ظرفه أو تعالى عليه، أن ينكتب خارج التاريخ بما يحفل به من استحقاقات ومشاغل رؤى ومتعينات.
أعمال محمود درويش الأولى، التي نلمح فيها بشارة الشاعر الكبير القادم، مكتوبة تحت وطأة تاريخ خاص وبإحساس مشرئب به، وعندما أقرأها الآن أتعامل معها بوصفها ‘وثائق’ جمالية، إن جاز التعبير، لا بوصفها ‘وثائق’ على مرحلة فلسطينية أو شخصية معينة من عمر محمود درويش، فهي تهضم وتتمثل بذكاء جماليات لحظتها الشعرية العربية، رغم أنها انكتبت خارج السياق الشعري العربي والدعاوى المذهبية التي تجاذبته في الفترة نفسها التي أطلّ فيها درويش على الشعر.
فلماذا لم يضمّن درويش، إذن، مختاراته تلك من ‘مرحلة الوطن’، قبل منفاه الذي سيستمر زمناً طويلا، سوى ثلاث قصائد قصيرة ليقفز، بعدها، الى المطولات ذات النفس الملحمي…؟
هل يعتبر درويش ما كتبه في أعماله الأولى تمرينات أو مجرد خطى أولى على ما سيأتي لاحقا، وهي، بهذا المعنى وإن ضمتها الأعمال الكاملة التي تحصر النتاج وتحصيه كرونولوجيا، إلاّ انها لا تدخل في المختار والمنتخب، حتى وإن كان مُدرجا في منبر موجه للعموم؟
لم أستطع أن أجد جوابا على هذه النقطة.
الجواب الوحيد الذي يمكن أن نتلقاه هو في ما حضر من القصائد التي تشير الى مراحل شعرية بعينها، مع أن الغياب هو، بصورة أو بأخرى، جواب.
إن الجواب الذي يقدمه درويش عن سؤالنا حول غياب ‘تمثيلات’ لأعماله الأولى في مختارات الجريدة هو أنه يريد لنا أن نقف على كتابته التي تخلصت من وطأة ظرفيتها، والتي لا تتراءى فيها الظرفية إلا كخلفية بعيدة، كحافز، كنقطة تفجير للكتابة ليس أكثر. فما بين أيدينا من قصائد تنتظم في خط شعري جمالي يخترق المراحل ويعبرها، لم يخترها الشاعر إلا لأنها تمثّل مثل هذا التحدي أمام الظرفية بصورتها الضيقة والمباشرة. فقصيدة مثل ‘خبز أمي’ التي يستهل بها الشاعر مختاراته تعبر من زمن إلى زمن، ومن طور فني إلى آخر بكامل غنائيتها الشفافة الهادئة، ولا تتمكن قصيدة أخرى مثل ‘سجّل أنا عربي’ من اجتياز هذا الحاجز، رغم شهرتها الكاسحة في الفترة التي كتبت فيها والتي تلتها.
* * *
لم تخطر لي هذه التساؤلات بصدد مختارات درويش الا بعدما ربطت بينها وفترة الانتفاضة الثانية التي نشرت فيها هذه الختارات في عدد من ‘كتاب في جريدة’.
فكرت ربما لأنه أراد أن تحضر جمالية الكتابة التي لم تتوقف فلسطين، على كل حال، عن أن تكون مفجّرها، لا الخطى الأولى على أرض الشعر التي نأت عنها التجربة الدرويشية بعيدا.
لكن يمكن لقارئ جيد للشعر أن يقول: ولكن أعماله الأولى لم تكن قليلة الجمالية. فانتهيت إلى التفكير أن محمود درويش اختار أعمالا أراد لها أن تقرأ لا أن تحفظ وتتلى عن ظهر قلب!
هل فعل درويش ذلك حقا؟
ام ان ما قلته مجرد تأويل.. وفذلكة؟
هذه الاسئلة، التي قد لا تشغل بال القارئ المهتم بشعر محمود درويش تعبّر عن انشغال درويش بالجمالي إلى حد التضحية بقصائد له سكنت الذاكرة العامة. رحل درويش لكنه ترك كثيراً من الأسئلة التي تتعلق بمنجزه الكبير.. وهذا قصارى ما يطمح إليه أي شاعر. فبالسؤال والقراءة والتأويل يبقى الشعر بعد أن رحل الشاعر، فلا حارس للنص إلا النص نفسه.
القدس العربي