صفحات ثقافية

جنود الله للروائي السوري فواز حداد: محاكمة المهمشين

null
جينا سلطان
في روايته الجديدة «جنود الله»، يوظف الكاتب السوري فواز حداد شغفه بالتاريخ المعاصر لمناقشة تبعات الانعطاف الخطير في مسار الأحداث العالمية، التي تذكرنا دوما أن الأقوياء حين يلعبون يدفع المهمشون الثمن.
يلج فواز حداد الجحيم العراقي الذي أُريد له التكريس كي ينجز الجبابرة انتقامهم الحاقد من تاريخ كتبه الأجداد حين دشنوا فجر الحضارة الإنسانية، فكانوا المبتدأ والمعاد، لكنه معاد تبدى لجاهلييهم إكمال الخبر بالإعتام!
تقسم الرواية (الصادرة حديثاً عن شركة رياض الريس) إلى قسمين متكاملين، يتقصى الأول منهما طريق إخراج عقيدة الإلغاء التكفيري إلى العلن ومناهلها، بينما يرصد الثاني كيفية تطبيقها ومساقطها الواقعية.
يتخذ فواز حداد من تيمة الأب ـ الابن وقضية صراع الأجيال، محركا يبث الحيوية في جفاف الأفكار وتجريديتها، فيجعل من الأب الخمسيني بطلا سلبيا اجتاز أزمة النكسة وما رافقها من تفريغ إيديولوجي مخيف مهد لتسيد عقيدة العنف الحالية التي جسدها الابن سامر المنتمي إلى التنظيمات الإرهابية.
يعود تاريخ الرواية إلى ما بعد سقوط بغداد بثلاثة أعوام، وتستمر لمدة شهرين وتتخذ من فقدان ذاكرة الأب العائد من العراق مدخلا إلى مقاربة مفهوم العنف عند الجماعات الأصولية، الذي يتسربل بعباءة الدين ونقاء العقيدة.
تدور الرواية على لسان الأب وتتخذ شكل التداعيات الذهنية التي تسرد الحدث التاريخي الراهن وارتباطه الخفي بما سبقه، وتبدأ بمغادرة الأب بغداد وهو أشبه بجثة هامدة، ترافقه مشاهد الموت المتلاحقة على مد النظر.
تبادل أدوار
يسهل موضوع فقدان الذاكرة المؤقت عند البطل مشروع بعث التاريخ الفردي، والتطرق إلى حماسة الأيام الثورية الأولى التي وجدت في الصراع الطبقي المحفز الأكبر في تحريك الجموع الهائلة نحو المستقبل العظيم. ثم حل الغياب عقب الخيانات المؤلمة وانتصار الثورة المضادة، ما جعل المستقبل يغيّر وجهته صوب اتجاه آخر.
يتوقف فواز حداد مليا عند هذه النقطة، ليبين أن البداية المتأخرة لهؤلاء المتحمسين، رغبتهم العارمة في التنظير، مزاجهم الشبابي التواق إلى التغيير، جعل ثوريتهم من دون دوافع حقيقية، وأقصاهم عن الفعل التاريخي، فبلغت خيبتهم مداها اللامعقول عندما رد عليهم الواقع بسريالية: «كان السؤال اللينيني الشهير: ما العمل؟ قد أجاب عنه الشيوخ المعممون… تبادلنا الأدوار على حين غرة، أصبحنا نحن التقدميين عالقين في العصر الجاهلي، بينما القادمون الجدد عادوا من هجرتهم مظفرين، ليباشروا نضالهم، بتحطيم أصنام المادية والإلحاد، وإعلان الإسلام هو الحل، والقرآن هو الدستور».
ولأن البطل كان واحدا من الذين عاشوا خدعة التوقعات الكبيرة، والتي أثمرت تمنيات حسمت فيها الخسائر على أنها فترة عارضة، لذا بقي التردد عزاءه الطويل واللامجدي، إلى أن وجد عملا على علاقة بالكتابة والسياسة اليومية، فركز تساؤلاته على هؤلاء الذين احتلوا مكانهم، وما الذي بوسعهم فعله.
تحول تخصصه في الدراسات عن «الإسلام السياسي» إلى مرجع عن تاريخ الجماعات الإسلامية، نشأتها وأفكارها، نشاطاتها وتنظيماتها، وتأكد له أن الدين لم يعد عزاء للإنسان واحتجاجا على الظلم، أو الإيمان بحياة في الآخرة أرفع مقاما في السماء، بل برفع لواء الجهاد حتى النصر، ولم يكن النصر سوى الشهادة، بعد أن أصبحت الإمبريالية هي الطاغوت، والأنظمة الرجعية العميلة، أنظمة ملحدة ومرتدة، والحزب الثوري، الجيل القرآني الشاب، والكفاح المسلح هو الجهاد، أما العنف الثوري فهو الاستشهاد!!
يشعر البطل كأن الروح قد ُردت إليهم وعادوا إلى مواقعهم ملتحين ومجلببين، وفي الطريق، إن لم يكن إلى أسلمة العالم فإلى قلبه رأسا على عقب، أو تفجيره بأسره، وإعادة تشكيله من جديد… وبدت الفكرة بحد ذاتها مثيرة ومحيرة، أن يكون هناك أناس يمنحون الأفكار الكبيرة حياتهم، أناس مهمشون من جميع الطبقات، أثرياء وأذكياء، متعلمون وأميون، فقراء ومعدمون.. رجال ونساء، شبان وشابات، حظهم من الثقافة متواضع أو ضئيل، ليس لديهم من أسباب القوة سوى أجسادهم، أما سلاحهم فرؤاهم الكونية، وإرادتهم في تحويل البشر من الكفر إلى الإيمان.
الإسلام السياسي
ما دفعه إلى الانحياز ضدهم، بعد أن كان مجرد باحث مراقب يرصد تحول الدين إلى قوة تحريض ورفض وتغيير وثورة، هو قيام تنظيم القاعدة بإسقاط برجي التجارة العالمية في نيويورك، ضربة لم تستثن المدنيين العزل والأبرياء، بالعكس كانت تستهدفهم، أو لا تليق الا بالتضحية بهم. وكان في تسارع الرد الأميركي بقصف أفغانستان، ثم امتداد الحرب على العراق، ما أوحى بالجحيم الذي سيعم البلدان العربية والإسلامية، وتحويل العالم إلى ساحات قتال مفتوحة للاستشهاديين.
في تلك الفترة كتب البطل مقالة بعنوان «الإسلام السياسي إلى أين»، وكان تساؤله في نهايتها: «هل هو الهلاك الذي فات أوان النجاة منه»، يحمل في طياته التشتت بين التبليغ والتنبؤ!
ينتهي الجزء الأول من الرواية بصدمة الأب حين يكتشف أن ابنه سامر /23 سنة/ عضو في تنظيم إرهابي إسلامي، وقد دخل العراق ليستقر هناك كأمير للجماعة، أي إنه تابع مشوار الأب المشؤوم نحو الهدف نفسه: إنقاذ العالم، لكن على نحو آخر: إنقاذه من الجاهلية!!
وحين عرضت أجهزة الأمن السورية على الأب دخول الأراضي العراقية تحت حماية الأميركيين وافق فورا إذ بدت له مهمة العمر، باعتباره لن ينقذ ابنه فقط بل سينقذ غيره أيضا، لكنه لم يتوقع أن توضع مسؤوليته كأب موضع الاتهام والإدانة!
في الجزء الثاني ندخل مع الأب إلى أتون الجحيم العراقي، إلى بلد الشهداء كما يصفه المجاهدون، ونلمس واقعيا تطبيق الحلم الأميركي في المنطقة الخضراء، وأسوار العزل التي تفصلها عن مجازر الإبادة الجماعية الطائفية والعرقية، ونتعرف على دور شركات المقاولة الأميركية في تصدير الجنود المرتزقة مما يذكر بالانكشاريين ووحشيتهم في انتزاع النصر!
بالمقابل يعاين الأب نبض الحياة خارج الأسوار، إذ على الرغم من التطيّر، الريبة، الحذر، الترقب، ثمة استهانة، فالحياة تجري بقوة، وآلاف البشر يتدافعون غير عابئين بموت بات يوميا، مبذولا ومبتذلا، على الطرق والحواجز، وقد يحدث في أية لحظة، في ظل الأحياء المغلقة التي تخضع بالقوة لتطبيق الأحكام الشرعية.
لم يع ِ الأب سوى أن العراق بلد أعمى، يتلمس طريقه بالنار والسكين، وأن السياسة تضلل الدين وتقوده إلى العار في حياة أصبحت موعودة بالهلاك، مما يجعل صفحة بلد بكاملها تطوى بموت مديد وبشع. وتكون زيارة المستشفيات بحثا عن بقايا محتملة لابنه فرصة حقيقية كي ينقم على نفسه ويرى إلى أي حد هو مسؤول عما يجري، فالجثث المشوهة لا تخفي تنكيلا وأحقادا لا يمكن غفرانها، بعد أن صار التمثيل بالجثث مجالا للتفنن في تشويهها، تتنافس عليه الجماعات المتقاتلة، ما يجعل استدراك القسوة البشرية اللامتناهية، وتخيل مقدار الجنون اللازم لفعل هذا الشر الهائل، عبئا مستحيلا، فيتمنى في أكثر من لحظة، أن يعثر على ابنه ميتا ومشوها، وأن يكون القتيل لا القاتل.
يعرض الأب نفسه للاختطاف بعد أن يحاصره اليأس من إيجاد ابنه، فينجح، لكنه يكبل ويضرب لانتزاع أي معلومات قد تزيد من سعره، فتكون فرصة لتفعيل المحاسبة الذاتية القاسية، التي ينقذه منها أتباع ولده المسمى بالأمير عبد الله السوري، وتأتي صدمته الكبرى عقب الحوار المتبادل مع ابنه عندما يتحقق أن الحب، ليس الحقيقة الوحيدة التي يرتع فيها في العالم، وإنما الباطل، ففي معركة الإيمان والكفر الدائرة، المؤمنون مدعوون إلى إثبات إيمانهم بعظيم قدرتهم على الفداء، وكأن «الله يقيم حروبا لا غرض منها إلا اصطفاء الشهداء، وكأن خديعة الإيمان تقود إلى العماء، وخديعة الشهادة إلى التهلكة، وخديعة الله إلى هذا الكم العظيم من الأذى»!!
عندما أراد «فواز حداد» إنهاء الرواية/ المحاكمة جعل البطل يتخيل أنه خرج من الجحيم حاملا معه حقائق الزمن والتاريخ والجنون والقتل والنسيان والغفران والخيانة والعنف والكراهية والحماقة، دون أن يهتم لأي منها، ما دامت الحقيقة باردة ومتحولة، ولا أمان لها، وقد تنقلب إلى ضدها، أو تتغير، وتتعدد أوجهها، أو فات أوانها.
يحذر «فواز حداد» على لسان صديق البطل حسان من مغبة الاستسلام لتيار العنف الإلغائي: «ماذا يكون شكل العالم عندما يسيطر عليه أتباع الله؟ ألن نعود إلى عصور الظلام والتفتيش؟»، وهو حين يتخذ لنفسه صفة الأديب المؤرخ الذي يحقق في وثائق عصره فإنما ليستخلص منها شهادة تثبت حجة على المتواطئين، دون أن ينسى التذكير أن العذاب الحقيقي هو أن يكون لدى المرء المقدرة على أن يهب الحياة، لكن الظروف لا تسمح له سوى بالقتل!!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى