عينا لوسي الواسعتان
علي جازو
الفتاة هادئة، وجذابة. من دون شك هي كذلك. ثمة شبان كثر يتوددون إليها. أحد أصدقائي ينظر إليها الآن، يعترف لي، على رغم أنه تأخر في ذلك، بأنه يوماً ما سيضمّها إلى صدره مهما كلفه ذلك من تعب ونقود وصبر وأكاذيب. يا للعري المهذَّب المباح! يا للمقايضات العينية الرائجة! اسمها لوسي، وهو اسم أقرب إلى رمز حركي مراوغ منه إلى اسم شخص في عينه. عينا لوسي واسعتان جميلتان، تبلغان من الصفاء والإغراء حدّاً يمكن معه رؤية نهديها يندلقان من عينيها كما لو كانت عيناها حمّالتَي ثدي للتو فُكَّ رباطهما. يكرر صديقي الاعتراف نفسه، همساً هذه المرة، ثم يفرغ قدح عرق في جوفه. لوسي مغرية جداً، مثيرة لعضلات القضيب خاصة، وهي تعرف لذلك قيمة بقائها هادئة ومسترخية، فالاسترخاء يزيدها منعة ورغبة بالتقرب إليها. ينبغي ألاّ تضجر لوسي من سطوع ضوء السهرات المتلاحقة، ولا من تعب ساعات الليل الطويلة. تعتني لوسي برموش عينيها؛ تفرقها وترفعها، فعيناها بابان زجاجيان رائعان إلى لحمها الشهي. عندما تجلس في مكان ظليل، كما كانت تفعل ظهيرة يوم أمس، يضاعف الضوء الذي لا يصلها من فتنتها، يجعلها أبعد، كما لو كانت مرئية كسراب لا يمكن لمسه. لو أمكن لوسي إضافة بعض النعاس إلى منظر عينيها لما نقصهما شيء آخر. هكذا تظهر وساعةُ عينيها، بعد إضافة مسحة من جاذبية النعاس، أكثر وضوحاً وبعداً وفتنة. عندما تنظر لوسي إلى وجه جليسها ذي الشعر الرمادي المسبل، وهي نادراً ما تنظر في وجه أحد، تشد من استقامة ظهرها، مما يزيد من ارتفاع صدرها. تدرك لوسي أن بقاء ظهرها مستقيماً مشدوداً في صالحها. تعرف لوسي أن جليسها مفتون بصدرها، بارتفاع صدرها، لا يهمّه ماذا يعتري لوسي أو يعبر صامتاً في عينيها، لذلك لا يهمّهما معاً إن تلاقت نظراتهما أو تساءلتا أو طلبتا شيئاً غير معهود، كما لو كانا مجهولين، جالسين في مكانين مختلفين، ولا شأن مشتركاً لأيٍّ منهما مع الآخر. عزّز تكوينُ جسد لوسي، نعمةُ خالقها، من امتلاء صدرها وسموّه. إنه سمتها البارزة النافعة. ولأن جليسها الجديد، وهو جديد لأن اللقاءات بدأت منذ شهرين فقط، رجل تلهب حواسه المناظر المرتفعة المكسوة بخضرة منعشة، عاشق للجمال كما يقول، تكتفي لوسي بمنحه صدراً مرتفعاً، دونما لمس يحوّل الرغبة شهوة مفرغة، نابضاً تحت نعومة قميص أخضر داكن. هذا هو عمل لوسي المعتاد، ولا عمل آخر لديها. لقد تفرغت لوسي لمنح اللذة والجمال والصحبة الناعمة. ستبقى لوسي تحت رعاية صدرها الكريم، إنه كنزها الكبير الصامت الناعم، ولا ينبغي أن تفرط فيه بسهولة، وسيبقى صدرها نبعاً متدفقاً تحت بهاء لون قميصها الأخضر. لوسي بلا عمل. لجليسها الستيني ميزتان مترافقتان ومغريتان: وفرة المال والأناقة. تنحدر عائلة لوسي من الريف، وينحدر صدرها من الشهوة والحاجة إلى صحبة لا أعباء فيها. على رغم كونه مكاناً ضيقاً وصعباً، فقد تخطت لوسي الجميلة عبء المكان الريفي الصعب، وسكنت مدينة كبيرة مزدحمة، حالها كحال كثيرين زحفوا إليها هرباً من قسوة حياة الريف القاحلة وضيقها. أنّى لها أن تجد هناك صحبة كهذه الصحبة التي ترفل في نعيمها الآن. يسلّي النسيم شعرها وينتعش فمها بالويسكي المثلج وقطع الجَزَر النحيلة والجبن الأبيض المشوي. تعرف لوسي كيف تؤمّن كفاف يومها. منح الله لوسي، الذي منح الأنهار والأزهار والكذب والتجارب اللعينة للبشر، صدراً كريماً. صدر لوسي مكان إزهار تجربتها الإغوائية المستمرة، إنه طبيعتها الفرحة الهادئة، هناك تحت امتلائه الناعم تتنفس لوسي وتختبر أصدقاءها كما لو كانت تحمل نهر حياتها العذب في حضنها. لا تعرف لوسي كيف تكره نفسها، لذلك لا يمكنها أبداً أن تقع في حبّ غيرها. ليست أنانية من لوسي، لكنها طريقة عيش وجدتها أكثر ملاءمة ونفعية ليستمر جريان النهر كما تجري الأيام خلف زجاج صقيل ومتين من دون خدش أو تعثر أو لوم. لوسي لا تريد أن تتعثر بشيء. إنها لا تتحمل أن يصدّها أي عائق. من يملك خصالاً كخصال لوسي الفاتنة لا يحتاج إلى التفكر في أمور مثل: وجهة نظري، مخاوفي، أحلامي المليئة بتدفق مياه صامتة، شخصيتي الفردية المستقلة، طموحي الخاص، أو ضرورة الحفاظ على مبادئ رصينة تقي الناشئة انحدار الذوق العام وتسطّحه. عالم لوسي أليف، يومي حميمي. يبدأ وينتهي في صدرها. ولأن صدر لوسي بارز وممتلئ، فإنه في الحقيقة لا يحتاج الى بداية ولا نهاية. يحتاج إلى الاعتناء فقط، وشدّ الظهر عندما تجلس إلى صديق من أصدقائها الكثيرين. لا تخلط لوسي بين صداقاتها، ولا تتعجل في ترسيخها ولا طلب دوامها. لا تدفعهم إلى التعارف. لوسي تكره أن يتحدث كل شخص إلى كل شخص كيفما كان. تدرك لوسي أهمية ترك مسافة فارغة بين الأصدقاء الزجاجيين كما يترك الهواء مفرغاً بين لوحي زجاج يحمي مكاناً مهماً. عبر هذا البعد الفارغ يمكنهم التلذذ بمنظر نبعها تحت أخضرها الزاهي. البقاء للأخضر، تقول لوسي في سرّها. يتخيل جليسها الحالي الأنيق صدرها على شكل نبع يتدفق أسفل تلة خضراء. لوسي منبع صور سائلة لعيني الرجل النحيل الأنيق. يعرف الرجل أن البقاء قرب النبع أفضل من لمسه، لذلك لا يهمّه اللمس قدر ما يعنيه النظر في صور تخرج من تحت قميص أخضر. يبدو أن لوسي أيضاً تدرك غاية الرجل، لذلك تصمت تاركةً التخيل يقوم بعمله. يرفعان كأسيهما، يبتسمان. هكذا ينتهي ليلهما. لوسي لا تحلم. إنها تعيش. هذا مبدأ بالنسبة اليها. في الريف كانت تحلم بالمدينة، وعندما جاءت وسكنتها، لم تعد في حاجة إلى أي حلم، فقد صار بين يديها، صار جزءاً أو نقشاً في مدخرات صدرها. تكثر لوسي من إطالة فترات صمتها، بل تبالغ في الإطالة، إذ لا شيء يمكنه عبر الكلمات التي ليست صوراً أن ينتقل أو يتحول من فمها إلى أذني جليسها. فم لوسي رطب مرتاح في بقائه نصف مغلق، لوسي لا تعطش لأنها نادراً ما تتكلم، لأنها لا تريد أن تتألم ولا تريد حتى مجرد رؤية الألم على وجه أحد. إنها عاطفية ممتازة، عاطفية بلا عواقب. يخمّن جليسها أن الألم مقبل في الطريق، في انقلاب السنوات القليلة المقبلة التي سيمضيها بعيداً من صحبة لوسي الممتعة، عندما يعجز جسده عن تحمل تكاليف السهر. لذلك يصل الليل بالنهار في صحبتها. يكفيه الآن، تحت تأثير جرعات هذه البرهة المسكرة، النظر بعينين باسمتين متعبتين، مع احتفاظ النظرة بارتفاع لائق بمكانة صدر لوسي المنعش وسموّه، صدرها الباقي محفوظاً وآمناً كصفحة من كتاب نادر مطوي تحت خضرة قميصها الداكنة اللامعة. لا يخمن الجليس أن اللمعة ستخفت، وأن الخضرة الداكنة علامة تعفن واضحة، وأن الكتب تُحفظ في مكان آخر لا يمكن عيني لوسي الواسعتين الجميلتين تحمّل تعب الوصول إليه. عينا لوسي كتابها المفتوح على استمناء نظرة عين جليسها ذي الفم الرخو. لم تجد لوسي نفعاً من القراءة، لذلك وضعت حياتها كلها في منظر عينيها اللتين لم تطيقا الكتب يوماً. لوسي تنشد الراحة حتى ولو كانت من خلال تعفن صدرها نفسه تحت ثقل خضرة ليال راكدة وبؤسها ولمعانها ¶
(سوريا)
ملحق النهار الثقافي