صفحات ثقافيةعمر قدّور

عالم اللامعقول في الإعلام السوري

null

التصحيح امتدّ ليصبح عربياً“!

عمر قدّور

بشكل مفاجئ، أو هكذا بدا لي، امتلأت اللوحات الإعلانية في دمشق بصور الرئيس. ومع أن هذه الصور لا تغيب بالمطلق، إلا أن مواسم ظهورها الكثيف ترتبط بحدث ما، داخلي أو خارجي. فمثلاً يستطيع الجميع أن يتذكر كثافة الصور واللافتات في الفترة التي واكبت انسحاب القوات السورية من لبنان والضغوط الدولية التي رافقته. أما في الشهر الذي سبق الاستفتاء على منصب رئاسة الجمهورية،

والشهر الذي تلاه، فقد بدا من البديهي أن تحفل سوريا أثناءهما بكل أنواع اللافتات. انتهت المفاجأة عندما لمحت مانشيت جريدة تشرين الحكومية الذي يقول “إن التصحيح بعد 37 عاماً امتد ليصبح عربياً”، فعلمت أن هذه المظاهر هي نوع من الاحتفال بالحركة التصحيحية. قلت “عندما لمحت مانشيت الجريدة”، وهنا ثمة ما ينبغي توضيحه، فغالبية السوريين لا يقرأون صحافتهم، وإن فعلوا فإنهم يتجاوزون الصفحات السياسية، بعد أن حفظوها غيباً. وهي بالمناسبة صفحات متطابقة بين الصحف الرسمية الثلاث، لذا يكفي الاطلاع على واحدة منها لمعرفة ما هو مكتوب في الأخرى. ولا حاجة للمجازفة والقراءة إذا تذكرنا الكناية الشعبية المتداولة عن الكذب وهي “حكي جرايد”. بناء على ذلك اكتفيت بالنكتة التي تقول إن التصحيح امتد ليصبح عربياً، ولم أمتلك الفضول لقراءة بقية التحليل الألمعي الذي سيوصلني إلى المزيد من الضحك.

ثمة توضيح آخر، وهو أنني بين الحين والآخر أطلع على إحدى الصحف السورية، وإذا تسنى لي الوقت أشاهد بعضاً مما تعرضه الشاشات الحكومية. تدفعني إلى هذا الرغبة في الاطمئنان إلى أن كل شيء باقٍ كما هو، وأن تغيراً ما لم يطرأ في غفلة مني. والنتيجة في كل مرة هي خروجي بشعور من الرضا على أن انقطاعي لم يُفقدني شيئاً، وهذه بشرى أزفّها إلى منفيينا القسريين والطوعيين في أصقاع المعمورة، لئلا يراودهم وهم بأن شيئاً ما قد تغير، ويكفي أن يتذكروا الأحوال التي تركوا فيها البلاد قبل عقود ليعرفوا الحال الآن، وإذا خذلتهم الذاكرة فالأمر أشبه بعربة انفصلت عن القطار. نعم، الأمر مستتب إلى درجة تحتم عليّ تصديق أن التصحيح امتد ليصبح عربياً.

اكذبْ، ثم اكذبْ، حتى يصدّقك الآخرون. هذا ما تقوله الحكمة الإعلامية العائدة خصوصاً إلى زمن الديكتاتوريات، لكنني أجزم بأن هذه المقولة لم تنصّ على تكرار الكذبة ذاتها في كل مرة، بل تكاد عبقرية الكذب تتجلى بعدم محدوديته وبالقدرة على الابتكار، على العكس من الصدق المحكوم بالوقائع والإحصائيات. لذا لا ضير في أن يتحول مانشيت الجريدة في العام المقبل ليعلن عن امتداد التصحيح ليصبح عالمياً. لكن ما سيُفقد الكذبة المنتَظرة فاعليتها هو تطورها الكمّي فقط عن الكذبة السابقة، واقتصار ترويجها على إعلام غير مقروء، وسيصادف حينها وجود انتخابات رئاسية أمريكية حامية من دون مرشّح لحزب التصحيح، ما يجعل امتداد التصحيح ليصبح عالمياً يدخل في باب اللامعقول لا في باب الكذب. وهنا يبرز الجانب المحيّر في السياسة الإعلامية السورية، فإذا كانت تشتغل على الكذب فهذا يتطلب منها امتلاك العوامل التي تجعل الكذب قابلاً للتصديق، ومن ذلك أن تطوّر ماكينة ذكية لتوليد ما هو جديد باستمرار. أما الاحتمال الثاني فهو أن هذه السياسة تشتغل على اللامعقول، وهذا ضرب من الإبداع يقتصر تلقّيه على النخبة. ولأن الاحتمال الثاني أيضاً يتطلب من الملَكات ما يفوق إمكانيات القائمين على الإعلام السوري فالأرجح هو أن الكذب، والإصرار عليه، يضعان هذا الأداء في مرتبة اللامعقول السوري الفريد من نوعه، إلا إذا تذكرنا تجربة الشقيقة كوريا الشمالية.

تصبّ الافتراضات السابقة في خانة المنطق العام، وهذا ما يخالف الخصوصية السورية. وقد تعمدت هذه الصياغة ولم أقل إن الخصوصية السورية تخالف المنطق العام، فهناك ما أقيس عليه في السياسة الإعلامية السورية، وحتى في تصريحات بعض المسؤولين، ولعل الكثيرين يذكرون الإجابة العبقرية لأحدهم عندما سئل عن العزلة الدولية المفروضة على الحكم فأجاب ببساطة: الذين أرادوا عزل سوريا لم ينجحوا إلا في عزل أنفسهم. التقط الإعلام هذا الاكتشاف، وتوالت التحليلات التي تثبت أن العالم سيأتي راكعاً على قدميه أمام دور دمشق المحوري، وأضحت زيارة نائب في أي برلمان أوربي دليلاً على توسّل العالم للدور السوري. ومرة أخرى هناك قارىء مفترض به أن يشيح بعينيه، وأن يصمّ أذنيه، فلا يتابع وسائل الإعلام غير السورية، ليصدّق، ويعيش في نعيم الأمجاد وفتنة الألفاظ التي تبدأ بالممانعة، مروراً بالصمود، وانتهاء بالنصر الإلهي المشترك. وإذا كانت القوى الأمنية تفترض بالمواطن السوري أن يكون أبكماً فالإعلام يكمل الإعاقة، ويزيد القائمون عليه بأن يتصرفوا وكأنهم يتوجهون إلى شعب من المتخلفين عقلياً.

إنهم بالأحرى لا يروننا مطلقاً، ولا يكترثون بنا إن قرأنا أو لم نقرأ، وبالطبع لا يسعون إلى أن يكونوا مقنعين. الفرادة السورية تجعل كاتب المقال السياسي مدركاً سلفاً عدم وجود قرّاء له، أما همه واهتمامه فيبدآن بخشيته من الوقوع في الأخطاء، ما يجعل مسؤوليه يغضبون عليه، ثم يأتي بعد ذلك الطموح في إزاحة المسؤولين المباشرين وتسلّم أماكنهم، وهذا يرتّب المزاودة عليهم وإظهار حذاقة إضافية في توليد العبارات الطنانة. وعلى ذلك فالقراء المفترضون لهذه المقالات هم المسؤولون الكبار، الذين بدورهم لا يصدّقون ما يقرأون، لكنهم يلاحظون مثابرة تابعيهم وقدرتهم على التزلف والنفاق، فما يهمّ هو الاستعداد لإثبات الولاء دائماً. الولاء الذي لا يقتضي الصدق بالضرورة، ما دام جميع المشاركين في اللعبة مدركين قواعدها وغاياتها التي تنحصر في الحصول على فتات من كعكة السلطة.

قد يبدو غريباً أن تتوجه السلطة بإعلامها إلى السلطة نفسها، فمن المعتاد أن تتوجه السلطات، بما فيها الديكتاتوريات، إلى مواطنيها أولاً، ومن ثم إلى العالم الخارجي، وأن تستخدم شتى وسائل الإقناع بما فيها الكذب. في الحالة السورية كانت القبضة الأمنية كفيلة بإسكات الناس، ولم يكن مطلوباً إقناعهم. وكان مطلوباً منهم إظهار الولاء، بمعنى تحويلهم إلى مرتزقة. وتالياً ليس من حاجة إلى التوجه إلى العالم الخارجي، فالأداء الممانِع لا يتطلب الكثير من المهارات الدبلوماسية أو السياسة الإعلامية المواكبة لها. والواقع إن السياسة السورية، على علاتها، تنجز بعيداً عن الإعلام، ولا يوجد صحافي سوري يعرف ما يدور في الكواليس، بل المطلوب منه أسوة بالجميع ألا يعرف. مع أن وزارة الإعلام تحديداً تعدّ من الوزارات الهامة، ومن يشغل منصب وزير الإعلام يكون عادة من المقرّبين جداً إلى قصر الرئاسة!.

مرت سبع وثلاثون سنة على الحركة التصحيحية، ونستطيع أن نتحدث عن سياسة إعلامية ثابتة طوال العقود الثلاثة الأخيرة منها، تخللها وقت مستقطع قصير في بداية عهد الرئيس الابن، وقد استبشر السوريون حينها عندما أُعلن عن تقنين اللافتات والصور. كما استبشروا خاصة بحديث الرئيس الجديد عما تخلل “التصحيح” من أخطاء، ولم يتوقعوا بالتأكيد أن يمتد التصحيح ليصبح عربياً. إن طموح المواطن السوري في أن يُحترم عقله يبدو بعيد المنال، وعليه باضطراد أن يتقبل الفجوة التي تزداد اتساعاً بين ما يعايشه وما يُقال له وعنه. وكأن هناك قصداً ذكياً، نربأ بالسلطة عنه، أن يشكك السوري بما يلمسه يومياً من تراجع، ما دامت الماكينة الإعلامية تروّج خلاف ذلك. إذن عمَّ يراهن الإعلام السوري؟ لا أحد يعرف بالضبط. لكنه إعلام موجود، ويواصل يومياً ضخّ الشعارات التي اعتاد عليها، حتى نكاد نظن أن هذه الماكينة تدور بدفع ذاتي، وأنها في النهاية انفصلت عن مجرتنا، وذهبت إلى عالم من الخيال. أتعبّر هذه الشعارات عن أحلام يقظة للمسؤولين؟ لا أعتقد ذلك، فأفعالهم توحي بأحلام من نوع آخر. إن تجريب أي احتمال لتفسير ذلك يبدو ضرباً من العبث، تماماً كما يحدث عندما نحاول أن نعقل ما لا يُعقل. ثم ما أدراني فيما إذا كان التصحيح قد امتد وأصبح عربياً في غفلة مني، أو منا جميعاً؟

في زمن غابر كان يكفي أن يصرخ طفل: إن الملك عار. لتنتهي الحكاية. لا أدري إن وجد هذا الطفل حقيقةً، أم أن أمثالنا قد اخترعوه، وإن كنت أميل إلى الاعتقاد بأن الملك ما زال يختال بحرير الألفاظ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى