الأصالة التقنية والسلاح،وعي الحداثة مجتزأً
مازن حسين ابرهيم
للحداثة منطق، وميتافيزيقا. فليست كل رطانة تردد عن عقلانية الحداثة نفياً لإمكان الميتافيزيقا واحتمالها. على النقيض من ذلك، البعد الميتافيزيقي حاضر في حداثة “الانوار” وما انتجته من معارف. فالحداثة ليست مجرد حقبة تاريخية قطعت معرفيا مع ما قبلها وأسست لسياق تاريخي مغاير لما كان سائدا، بقدر ما هي خيار واع نقدم عليه في كل لحظة وفق تأويل فوكو للانوار. وبذلك تكون الحداثة موقفا ساهم في تشكل ذوات جديدة في علاقة نقدية مع السلطة والمعرفة، ما دفع كانط الى وصف هذه اللحظة باعتبارها حالة خروج، اي خروج العقل عن قصوره واعادة صوغه لمفهومي الارادة والعقل في مواجهة السلطة في أوجهها المتعددة. مقاربة معرفية انتجت سياقا متكاملا، جعل من العقلانية منارة تهدي الفعل الانساني وارست نمطا جديدا من التفكر، ادى في ما ادى اليه الى اعلاء شأن الفرد وحقوقه في مجتمعات يحكمها منطق عقلاني جذره يعود الى القطيعة المعرفية التي انتجها عصر الانوار. لكن ذلك لا ينفي ان بعدا ميتافيزيقيا للحداثة كامن في ثناياها، وهي القائمة على اولية العقل على ما عداه وتحرر الفكر من دوغمائيته. فأين تحضر الميتافيزيقا؟
ابرز القراءات النقدية لعقلانية الحداثة وإنتاجها النظري والعملي جاء من هايدغر الذي رأى ان الحداثة ارتكزت على اقنومَي العلم والتقنية في مسعاهما لتحرير سلطة المعرفة من البعد الاسطوري، فكان جوهرها اعلاء للعقل وتأليها للتقنية المتجاوزة كونها جمعا لأدوات، والمتحولة موقفاً ترتقي من خلاله تلك الادوات الى ما يتخطاها. كان من شأن ذلك أنه بلور منطقا داخليا خاصا بالتقنية، حوّلها الى وعي مستقل عن الذات المنشأة لها، وسمح لها بتجاوز لحظة ابتكارها كامتداد للانسان، اي لليد الصانعة والماهرة، فاذا بها يد تملك وعيها الخاص. هذا ينطبق على جمع التقنيات وتدرجها من المعول الى السلاح، وقد تحولت الى ادوات تملك منظومتها القيمية الواعية ذاتها بوصفها استقلالا عن محيطها. من هذه المعادلة بدأت مسيرة تحول التقنية من وسيلة لتحقيق هدف الى هدف في ذاته، وهو سياق سيقلب الادوار ويحول الانسان الى عبد والتقنية الى سيد في اطار محاولة الانسان للتحرر من عبوديته للغيبيات عبر تحرير عقله، فإذا بهذا العقل يتحول الى عقل اداتي يتضاد مع الدعوة الى الجرأة في استخدامه بحثا عن شروط قيام المعرفة المتحررة من الاساطير. لكن اندثار اساطير، فتح الباب امام اساطير اخرى اكتست رداء العقلانية، واصبح التفكر الحر خارج اطارها ضربا من الجنون لا مكان له وسط عقلانية الحداثة. اما سبب هذا التحول فيعود الى جوهر عقلانية الحداثة الذي اوصلها الى تأليه إنتاجها المتمثل في التقنية المتحولة الى قوة كليانية تسعى الى إخضاع محيطها، وقد تجلت ذروة الاخضاع الكلي عبر السلاح وتحققه الاقصى في التقنية النووية.
من ابرهيم الى بروميثيوس
اصبح وعي الحداثة يرتسم وفق خط التطور المؤدي الى التطويع الاقصى للطبيعة لا الى التصالح معها. فمن سار على هذا الدرب علا شأنه ومن خرج عليه غادر سياق العقلانية. اما خير استدلال رمزي على هذه الحقيقة فيكمن في القراءة الهيغلية للسيرة التوراتية لابرهيم التي تلخص رؤية فلاسفة الانوار قي تعاملهم مع الطبيعة والتطور البشري. فهيغل يرى في سيرة ابرهيم، الخارج بقومه من مدينة اور الى الصحراء، نكوصا في مسيرة التقدم وصيروة الانسان. ابرهيم هيغلياً، هو الرعي في مواجهة الزراعة، الصحراء ازاء المدينة. باختصار، هو لحظة تراجع في تاريخ البشرية نتيجة تخليه عن المدينة – الدولة وإنتاجهما التقني لصالح ترحال حر متحرر من قيود التقنية. سياق رمزي يختزل نكوصا عاما لا يمكن الفيلسوف كهيغل الا ان يدعو الى تجاوزه. فابرهيم بالنسة الى الحداثويين بطل مضاد وسلبي، اما البطل الحقيقي وخير معبّر عن روح العصر فهو صديق الانسان الخارج من رحم الاسطورة الاغريقية، بروميثيوس. سارق النار ومغيّر الاقدار وخائن قومه، ذلك الذي فضل إغضاب الهة اليونان وهو منهم، ووهب الانسان مفتاح تطويع الطبيعة عبر المعرفة المختزلة بالنار التي رفض الاله زيوس منحها للانسان، فكان عقابه عذابا ابديا سلّطته الالهة عليه عبر جوارح تنهش كبده. جملة رموز تختصر حكاية البشرية في سعيها الى نار المعرفة المتوهجة. فسرقة النار (مع ما يحمله هذا الفعل من دلالة خاصة على الصعيد الاخلاقي) اعلنت ميلاد الحضارة وأرست قطيعة انسانية مع نمط العيش الحيواني. نار بروميثيوس هي إذاً المعرفة ازاء الجهل، القوة في مواجهة الطبيعة. هي تقنية انسان عصر الحداثة.
الوعي المنقوص للحداثة
في قراءة نقدية لسيرة ابرهيم واخرى لأسطورة بروميثيوس، نشأ رمزيا وعي الحداثة بوصفها ارساء لعقلانية اوصلتنا الى تمجيد التقنية وذروة تحققها في تشيؤ الانسان في علاقته مع محيطه. قراءة اتخذت ابعادا متعددة من خلال ما قدّمته مدرسة فرانكفورت من مساهمات في تظهير صورة اوضح لاستلاب الوعي الانساني تجاه التقنية وذروة تجسدها في السلاح، ولا سيما النووي منه والقادر على افناء البشرية في رحلة بحثها عن السيطرة الكليانية على ما يجاورها.
لكن، اذا تجلت صورة وعي الحداثة المستلب للتقنية على هذا النحو، فعلى أيّ مسطّح نهض وعي من يروّجون فكر التضاد معها، اؤلئك الذين يرفعون لواء الاصالة والتناقض الايديولوجي مع الحداثة وعقلانيتها؟ ما يهمنا هنا هو تناولهم موضوع التقنية دون غيره من ابواب معرفية، فأين تكمن حدود القطع مع ميتافيزيقا الحداثة واين حدود التماهي معها في مقاربة موضوع التقنية، وتاليا على أي ارض يدور ما بات يعرف بصراع الحداثة والاصالة وما المعايير التي يرتكز عليها؟
يفترض بخطاب دعاة التأصيل ان يؤسس لمسافة نقدية بين منهجين، الاول انتجته عقلانية الحداثة والثاني يسعى الى الفكاك من هذه العقلانية التي يراها خارجة على جوهر ما يؤمن به من سيادة للمقدس. لكن تضاد مفردات هذا الخطاب في شقّه اللاسياسي مع خطاب الحداثة، هو تضاد خارجي ولا يلامس الجوهر، فأصحاب الطرح المناقض لإنتاج العقلانية الغربية لا ينطلقون من مقدمات تتعارض بشكل جذري مع عقلانيي الحداثة في مقاربتهم موضوع التقنية. امر يصح على صعيدي العقل النظري وتجسداته العملية حيث تغيب الحدود وتتداخل بين الخطابين، فلا تناقض يذكر بين الضدين في تعاملهما مع اشكالية التقنية. على العكس من ذلك، يأتي نفي الخطاب من موقع الخطاب، اي نفياً للتقنية من موقعها ومنطلقاتها، بما يقود الى تلاشي الحد الفاصل بين الضدين المفترضين. فهل تختلف حقا نظرة الحداثويين الى التقنية عن تلك التي يحملها اصحاب حركات الاسلام السياسي؟ لا شيء يشي بذلك، فالمرتكزات النظرية واحدة ومشتركة: اخضاع للطبيعة وسيادة العقل. ولا بأس في هذا الاطار ان يقدّم العقل نفسه بوصفه عقلا عقلانيا تارة، او عقلا ميتافيزيقيا تارة اخرى، فالنتيجة واحدة. الجميع في سباق على سيادة التقنية.
وبما ان ذروة تحقق التقنية تتجسد في السلاح النووي، فلا يبدو غريبا ان تألو دولة اسلامية كباكستان كل جهدها لإنتاج قنبلة نووية او ان تسعى الجمهورية الاسلامية الايرانية للحصول على التقنية النووية، بحيث يكتسي هذا الهدف في أحد تجلياته صورة السعي المقدس، وهو ما يظهر جليا في مقاربة مرشد الجمهورية الاسلامية ورئيسها لموضوع الملف النووي. لذلك يصبح مفهوما ان تضيف ايران الاسلامية عيدا الى جملة الاعياد التي تحتفل بها سنويا وتختار له تسمية “يوم التقنية النووية” الذي يخرج فيه قادة ايران على مواطنيهم لتبشيرهم بآخر الانجازات التي بلغها البرنامج النووي.
الاستلاب للتقنية
لا نطرح هنا حتما موضوع احقية هذه الدولة او تلك في امتلاك الطاقة النووية، فذلك امر يشترك فيه جميع المستلبين للتقنية وفق تأويل هايدغر، لكن هل يمكن التشكيك بعد ذلك في كون ايران (على سبيل المثال لا الحصر) دولة تتبنى النظرة الحداثوية للتطور بالمعنى الهايدغري السلبي للوصف؟ ايران وفق هذا التعريف، دولة حداثة منقوصة، فأقانيم الحداثة لا تقف عند حدود تمجيد العقلانية والعلم والتقنية بل تذهب الى التطور الأقصى للعقلانية الذي يتجلى في غياب المقدس عن المجتمع. وهنا لا داعي لتأكيد مدى حضور هذا المقدس في الحالة الايرانية، لكن الأهم من ذلك هو مزاوجتها بين اقصى مراحل تطور الحداثة، متمثلةً في رفع التقنية الى مرتبة القداسة الناسوتية، والحرص في الوقت عينه على سيادة المقدس اللاهوتي عبر الفقيه وولايته على اتباعه.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، يضحي السؤال مشروعا عن مدى قطع حركات تستمد مشروعيتها من مقولات التأصيل مع ما تسعى من اجل تقويضه، اي الحداثة بكل تجلياتها ولا سيما مفهوم التقنية لا تمظهراته العملية. فـ”حزب الله” كنموذج لهذا السعي، لا يُغَيّب جوهر التقنية عن ادائه وخطابه، وابرز تعبير عنه يتمثل في العلاقة المركبة للحزب مع السلاح (التقنية) أو على الاقل في تجسد مفهوم هذا السلاح (التقنية) في ادائه السياسي وانعكاس ذلك في اللاوعي الجمعي لأنصاره. حتى بات السلاح يكتسي بصفات القداسة فتلاشى بذلك الحد الفاصل بين الوسيلة والغاية في تعاطي الحزب وغيره من الحركات التأصيلية مع السلاح كإنتاج للحداثة.
كما في حالة “حزب الله”، كذلك في كيفية تعاطي تنظيمات كـ”القاعدة” واخواتها مع التقنية التي تحولت الى بيدق متقدم في المعركة مع الغرب، فأصبحت الطائرات والحواسيب وشبكة المعلوماتية سلاحا على درب ارساء مفاهيم العودة الى الجيل القرآني الاول ولتقويض كل إنتاج مفهومي للحداثة، الا ما تعلق منها بالتقنية. لكن السمة الابرز هنا هي غياب الوعي بالتناقض الداخلي في خطاب من يدعون الى تقويض بنية الحداثة عبر تبني احد تجلياتها، فيهزم بذلك ثقافيا من يتصور نفسه منتصراً عسكريا على ما ذهب اليه هايدغر حين اعتبر ان “تمجيد التقنية يعني فوز الفلسفة الغربية”، اي فلسفة الحداثة ومفاهيمها. طبعا لا نغفل في هذا السياق ان للحداثة شروط تحقق اخرى، في طليعتها غياب المقدس، وهنا يصل التناقض الى ذروته، فغياب المقدس في مجتمعات الحداثة قوبل بإسباغ القداسة على جوانب اخرى من المجتمع، في طليعتها التقنية. اما في وعي التأصيليين فإن الامر معكوس، فالحضور الفائض للمقدس في المجتمع انسحب على موضوع التقنية – السلاح فانضم هذا الاخير الى جملة تابوهات بات مجرد الحديث عنها خروجا لا على “اجماع وطني” بل على مفهوم القداسة في عينه.
في الخلاصة تتضح الصورة: السلاح يقارع السلاح، واللغة الوحيدة التي يستخدمها الطرفان هي لغة التقنية. لذلك لا مناص من التعويل على لغات اخرى كي تكون منفذا لا بل منقذا من فائض القداسة الذي نعاني منه. فهل تقول هذه اللغات امرا مناقضا لما هو سائد بما يكسر قيد الاستلاب الى التقنية والقداسة التي تُسبَغ عليها سواء استمدتها من الناسوت أم اللاهوت؟ لا يبدو انها تفعل، على الاقل في هذه البقعة من الجغرافيا التي تعنينا ونعيش فيها، لا بل جل ما تقوم به هو تأبيد استلابين، الاول محمول من عقلانية التقنية، والثاني موروث من لاعقلانية أطروحات التأصيل ¶
ملحق النهار الثقافي