صفحات ثقافية

الشعــر فـي عصر العولمة

null
بول شاؤول
العولمة صناعة الغرب هذا معروف، لم نشارك فيها، نحن العرب قدر جديد يهبط علينا، نتلقفه هنا، نرفضه هناك، نتماهى به، نستغرق في ظواهره ومظاهره، نقابله بخضوع، نحتج، نصرخ، نستسلم، وبرغم ذلك يبقى أن العولمة صناعة الآخرين.
أو فلنقل انها، هذه المرة، هي صناعة الآخرين وتحديدا، كما يقال (حتى الآن) ويشاع، انها صناعة امريكية او على الأقل صناعة سيطر عليها النظام الامريكي واستغلها، وغزا بها العالم، بقيمه، واقتصاده، ومصالحه، وثقافته، ومطامعه ومطامحه. وهكذا علينا، ولأننا لم نساهم في هذا الحدث الكبير، أن نعتبره قدراً، من الصعب مواجهته، وفي أفضل الأحوال «ظاهرة» أمبريالية جدية علينا (أو يمكننا) إلحاق الهزيمة بها، لكن كيف؟ وأين، وبم؟ إذ كيف يمكن لمن اعتزل المشاركة في صنع التاريخ الحديث أو أي تاريخ، ان تتوفر لديه شروط المقاومة. مقاومة ما يفد، او ما يهبط، أو ما يفرض. لا سيما عندما يصير هذا «القدر» جزءاً من معيشنا، وتفكيرنا، وتفاصيلنا، ومأكلنا ومشربنا، وملبسنا، وأدوات رفاهيتنا، وترفيهنا، وجزءاً من «ثقافتنا» اليومية، وغير اليومية سواء وعينا ذلك أم بقي في غياهب اللاوعي… ربما لا شيء. وربما الكثير. وربما القليل، وربما الوهم أيضا، فلغة العجز متعددة. لكنها تبقى لغة العجز، لكن هل يمكننا ، (وفي حال رفضنا العولمة كما هي اليوم) أن نخفف من سطوتها! ومن آثارها، ومن جموحها، واين؟ في تفكيرنا؟ في مواقفنا السياسية؟ في معتقداتنا، في الصورة التي تريد العولمة أن تبرز فيها تواريخنا، ومعتقداتنا، وثقافتنا، ومآلاتنا!
وإذا كنا عاجزين عن المواجهة «الشاملة» فهل يمكن اعتماد المواجهة الجزئية؟ أو الجانبية؟ أو الاستنسابية؟ بمعنى آخر إذا كنا عاجزين عن منافسة «الغرب» (وهنا امريكا) في ثورتها التكنولوجية والميدياتيكية والمعلوماتية والعلمية، فهل يمكن ان نختار جانباً «حميما» او عمومياً، لنواجه به وعبره ومنه هذه القدرية الجديدة؟
وهنا بالذات تبرز الثقافة، العربية وغير العربية، الحضارية (بما تشمل من ديني وموروث وعائدات ومكتسبات)، والثقافية بما تشمل من إبداعات، وانتاجات متينة، وكتب، وفكر وإيديولوجيا وسياسة… ورواية وشعر ومسرح.
لكن أي ثقافة يمكن ان تفلت من مرمى العولمة، او من طاحونتها؟
I
بات معلوماً ان العولمة عولمات. ليس هناك عولمة واحدة، او سمة معولمة واحدة، ومن خلال ذلك لا تجري أمور العولمات كلها في مسار واحد، ولا في نسق واحد، ولا في تاريخ واحد، وان صبت كلها في مصب واحد عند المنتج الأكبر لهذه العولمة، فهناك العولمة الاقتصادية (ولن نطيل الكلام عليها)، وهناك العولمة الجيوسياسية المرتبطة بالنمو الديموغرافي وبازدياد الهجرات العالمية. وهناك العولمة الايديولوجية وهي احدى النتائج الظاهرة لنمو تدفق الحركات الفكرية وصوغها وسيرورتها على الصعيد العالمي. وهناك العولمة الثقافية، من دون أن ننسى وسائط هذه العولمة وأنماط الاعلام والميديا من التلفزيون الى الإنترنت مروراً بمختلف وسائل الاتصال. وكل هذه العولمات، وحتى وسائطها تصب، بشكل او بآخر بما يسمى منطق السوق، أي المنطق الاقتصادي- الترويجي الذي يحول كل شيء بحجره الفلسفي الى تسليع تجاري!
فماذا عن العولمة الثقافية؟
هل يمكن تصنيفها، وان اصطلاحاً (على ترابطها وتمازجها أحياناً) في ثلاثة محاور: محور يرتبط بالانتاجات المتصلة بالقيم الاساسية من عادات وطقوس جماعية وظواهر دينية وفولكلور، وثانٍ يتصل بالانتاجات الثقافية المباشرة من الكلام، واسطوانات، ومراكز انتاج ضخمة، تتقدمها هوليوود (والت ديزني مثلاً) وكذلك المسلسلات التلفزيونية الرائجة (دالاس)، ولكن اذا كان علينا التمييز بين هاتين الثقافتين (الاولى اقرب الى الحضارات والثانية أقرب الى الانتاجات الفنية وغير الفنية)، فعلينا التمييز أيضا بين عولمة نشر الاولى (الكلام، كتب، واسطوانات وDVD وDC)، وعولمة القيم الثقافية (الحضارية: معتقدات وطقوس وعادات دينية). فهل هذا التمييز ممكن في وسائل الترويج والنشر والعرض. أم أن أنماط الانتاج والاستهلاك وبث الرسائل والنصوص والبرامج والابداع (بمعنى الانتاج) والترويج، تخضع كلها لقوانين السوق والطلب، أي تحول الى محتوى تجاري أي تحول كلها الى مضمون اقتصادي بالمعنى التجاري، تمهيداً، أو مواكبة، لتحويلها الى مادة تسويقية الى مادة «فكرية» أي تتعادل القيمتان التكنولوجية- الثقافية والايديولوجية.
وعندما نقول أن هذه الثقافة معولمة او في سعيها الى العولمة او قابلة للعولمة، بفعل تكويناتها او مفاهيمها او انتاجاتها الجماهيرية (كُتل تاريخية) او (سوق واسعة)، فلأنها توصف بالشعبية، أو على احتمالات شعبية. والعولمة تركز على استغلال الظواهر او ابتكارها كحاجات او كأنماط، استغلالاً شعبياً، لأنها مرتبطة أصلا بالزبون (العالمي) (لا بالمواطنية العالمية كم يحلم بعضهم بشكل ايتوبي) لتحولها الميديا الجماهيرية لانتاجات لا تتعدى الترفيه، من مسلسلات تلفزيونية الى ألعاب، الى منوعات، حتى الى برامج دينية واجتماعية موجهة مسلوبة من مضامينها الاساسية (كما نشاهد في عشرات البرامج الوعظية في التلفزيونات العربية والاجنبية لدعاة يمثلون الأديان والمذاهب والملل على امتداد الكوكب. فالدين أيضاً وبشكل أساسي مادة معولمة بامتياز!).
إذاً فهي معولمة لأنها تبث وتتدفق على مجموع العالم بالشركات العالمية الكبرى المتعددة. إنها الثقافة التي تجعل أو تُرسم أو توضع ضمن عالم «لحظوي»، مسطح، مجوّف، عالم بلا عمق، ولا ارتفاع، ولا اسفل. عالم معلّق كالمنطاد، وبخفة المنطاد.
حتى الثقافة «الحضارية» التي تتجاوز بخلفياتها التاريخية والانسانية صناعة الاسطوانات والبرامج… أي الثقافة القائمة على الاختلاف أداء ومادة وعراقة وممارسة، أي الثقافة القائمة على اختلاف الجماعات والأقوام كأن مصيرها لا يختلف كثيراً عن مصير أشكال النتاجات الفنية الترويجية. وكما سبق أن أشرنا، حتى ولو كان في تعددها غنى وثراء، في مكوّناتها التاريخية: الزواج، الموت، الطقوس، العادات، المعتقدات الاساسية التي تعطي معاني معينة للحياة، ولما بعد الحياة، للجغرافيا الفيزيقية وكذلك الميتافيزيقية، الروحية والسماوية، والموروث، والمقدس، والمرفوض والمقبول… أي كل ما يمكن ان يسمى اليوم أكثر فأكثر «الهوية».
ونظن أن حاجة العولمة الى تبسيط هذه المكونات، إما لترويجها وتسويقها، وإما لاستغلالها استغلالاً ايديولوجياً، انما تتطلب أولاً وأخيراً إفراغها من محتواها، أو توجيهها نحو صراعات وهمية سميت «صراع الحضارات» ومن خلال «نهاية التاريخ» ونهاية الأزمنة الى آخر هذه «الصرعات» الايديولوجية، ووصفها، عبر العولمة، في موقع صراعي حضاري (حروب اثنية وعرقية ومذهبية ودينية)، يتم إفراغها من عمقها الفكري أولاً، ومن ارتباطها بالواقع الانساني والتاريخي والاجتماعي. فان رفع شعار (وهو شعار) الصراع بين الحضارات (أو صدمة الحضارات) إنما يتم امتداداً لثقافات الترفيه، المعولمة، لينصب في محاولة نفي الصراعات الطبقية، والاجتماعية، والسياسية، والفكرية، والايديولوجية، وطمس ظواهر الفقر والاستغلال وكفاح الشعوب، والمجتمعات، من أجل حقوقها… أي محاولة افراغ المجتمعات العالمية (الجنوب والشمال معاً) من كل ارتباط بالواقع الى ما هو افتراضي. ولعل هذا ما يفسر من جهة أخرى كيف أن مقولة «نهاية التاريخ» تعني «إلغاء الذاكرة» الجماعية، أي محاولة استبدال التاريخ البشري بتاريخ آخر من صنع العولمة أو مراكز القوى. وهنا بالذات يظهر كم أن هذه «المقولات» تسعى الى حفر هاويات سحيقة بين تطور وتطور. بين انجازات الثورات التكنولوجية الماضية والتي أدت الى ثورة التنوير، والنهضة، والابداع، والفلسفة النقدية، والنظم الديمقراطية… ولكن أيضا، وبشكل اساسي، الى طمس الفردية، من خلال فرض هذه المقولات ذات الصراعات «الوهمية»، لتأميم الاختلافات من ناحية، وتذويب الفردية في هذه التوتاليتارية المعممة، والدوغماتية الايديولوجية عابرة القارات والمدن والتواريخ والشعوب. ونتذكر هنا «شعار» المواطنية العالمية المركبة من هذه الكيمياء التوتاليتارية أسوة «بالمواطن» «الصالح» المركب من كيمياء توتاليتاريات القرن العشرين السابقة (أو ربما اللاحقة من يدري).
II
تحدثنا عن الصناعات الثقافية (الفنية) الضخمة وكذلك عن عولمة الثقافات الاخرى الجماعية والتاريخية، لكن تبقى الثقافة الأخرى. ولنقل ثقافة «التنوير» او الثقافة التي أفرزتها، او سبقت الثورات التكنولوجية، والتي أسست لثقافة الحرية والديمقراطية والفلسفات النقدية، والحداثة الأدبية، والاسئلة الكبرى… فلنقل الثقافة الهامشية، أو على الأقل التي صارت هامشية او وضعت على هامش الصناعات الثقافية الأخرى. فهي ليست ثقافة «شعبية» بالمعنى الشعبوي لتحتضنها العولمة، او لتحولها بازاراً سياحياً او تسويقياً. وهي ليست فقط موروثاً لتضم الى فولكلوريات العولمة. إنها الثقافة التي ما زالت متصلة بالأسئلة الكبرى (خارج ظواهر البست سيلرز والمكتبات الكونية)، وبالصراعات والقضايا البشرية الملحة. إنها ثقافة الهوامش، لكنها أيضا ثقافة المواجهة. مواجهة التوتاليتاريات المختلفة، والنماذج التاريخية المغلقة، والأنماط السائدة، والدوغماتيات المفروضة.
ونظنها تلك الثقافة التي صنعت نسيج التاريخ الآخر للناس، منذ الاغريق، والفراعنة، حتى يومنا هنا، مروراً بالمحطة الاساسية «النهضة التنويرية»، بمعنى آخر الثقافة التي تختار المثاقفة الحرة، أي العالمية المتفتحة بدلاً من العولمة المغلقة. والعالمية شيء، والعولمة شيء آخر، العولمة تلغي سمات الثقافات والشعوب والفروقات (كأيديولوجيا أو كأيديولوجيات، أو على الأقل تحوّلها الى محتوى فولكلوري)، أي تفرض دوغماتية ما على الحاضر والماضي والمستقبل. تماماً كما كانت التوتاليتاريات السائدة في القرن العشرين، ذات البنى الايديولوجية المختلفة والتي ألغت «الفكر النقدي» والحرية الفردية وديمقراطية الاختيار والتعبير. فالعالمية على نقيض العولمة، هي أداة تماسك بين الأمم الديمقراطية، وتبقى، في تفتحاتها اللانهائية، وسيلة للتلاقح، والمثاقفة، وكذلك للصراعات الاجتماعية. إنها تنفي الواحدية الى المتعدد. وتُنكر «النهائيات» إنكارها «التحوّلات» المتعلقة بمراكز القوى الفوقية، والنيوليبراليات الحديثة تحت مسميات عديدة.
وإذا ، كان علينا ان نتناول علاقة الشعر بالعولمة، فمن ضمن هذه الثقافة بالذات، ثقافة الهوامش. لأن الشعر، حتى اليوم، هو التعبير الأقصى والأشرس عن هذه الثقافة التي لم تخضع (حتى الآن) لشروط العولمة ولا الى التزاماتها. واذا كانت هذه الثقافة تكتسب قوتها من خصوصيتها، فلأن هذه الخصوصية (الثقافة) تتحرك في فضاء لامتناهٍ من التحولات والهويات والتكسرات. إنها خصوصية اللاخصوصية. خصوصية تنفي مواصفاتها باستمرار. تحطم أسماءها باستمرار. تجرب مدادها باستمرار من دون أفكار جاهزة، او يوتوبيات أو حتى مدارس واتجاهات مقننة. إنها الحرية بامتياز! هذه الثقافة الهامشية هي التي تمردت على «الزمن الايديولوجي» السابق والتوتاليتاريات المشابهة لتوتاليتارية العولمة الراهنة. ولهذا كانت دائماً ثقافة المواجهة. ثقافة الفكر النقدي. والكتابة النقدية، والتجريبية النقدية. والخروج على الأنماط الأدبية، والأذواق المعممة، والتمرد على الدوغمائيات «التاريخية» والاجتماعية. ثقافة النفي الدائم. ثقافة نفي الخصوصية بالخصوصية. أو ليس هذا ما صنع الفلسفة النقدية. والشعر الحديث والرواية الحديثة. والمسرح الحديث… والفن التشكيلي… والسينما الحديثة؟ (بعيداً من الروح الهوليوودية الطاغية)! إذاً من ضمن هذه الثقافة (المهددة) الهامشية، يجري «فلاسفة» ما بعد الحداثة او الفلاسفة الجدد، والعديد من المراكز الثقافية والاعلامية، والاصوات المنخرطة في فضاءات العولمة، مباضعهم، لتدمير هذه الهوامش، او على الاقل لتشويهها، او لتيئيسها، معتمدية استراتيجية العولمة الاستهلاكية القائمة على رفض الاعتراف بكل ما ليس في متناولها؛ ولهذا بتنا نسمع منذ اكثر من عقدين وهو تاريخ ظهور عبارة العولمة للتعبير عن التحوّلات الجديدة، نسمع يوماً عن «موت المسرح»، وآخر «موت الرواية»، أو موت الديمقراطية او موت السينما… او موت الشعر. والطريف ان بعض الشعراء يشاركون في مراسم جنازاتهم بانضمامهم الى موكب نعاة الشعر. (فالشعر يموت ويبقى الشعراء فيا للمفارقة!).
من هنا المقاربة، الشعر جزء من الثقافة الاخرى غير المستولدة او غير المتلقفة بشروط الترويج السريع. أي جزء من «مجتمعية» ما مهمشة، تحمل أيضا مواصفات الخصوصية التي قد تنتج الشعر والمسرح… الخ. هذه المجتمعية، ولا اقول النخبوية، هي التي حمت الشعر الآخر. والرواية الأخرى. والمسرح الآخر… أي النتاج الاجتماعي، الخاص، الذي يعزز رؤية النص بفتحه على المفاجئ، وغير الميسر، وغير المقولب، فلنقل ان المجتمعية «المفتوحة» تظلل حتى الشعر «المغلق»، الغامض، عديد التأويل، والذاهب باستمرار الى أبعد من حاضره، والى أبعد من «جوهره». ذلك أن العولمة تتعامل (او تستفرد) المادة المعروفة التخوم، المبسطة المفاهيم، الهشة في تكوينها، وخطابها، اللينة في مادته المطواعة. على هذا الأساس فهم بعضهم أن «الشعر» ولأنه لا ينطبق لا في تحديداته (غير الموجودة) ولا في جوهره (غير الموجود)، ولا في لغته غير الثابتة، ولا في رسالته غير المعممة أي غير الصالحة لتكون لقمة سائغة بين أضراس الاستهلاك، فهمَ بعضهم ذلك وكأن الشعر قد توفاه الله او توفته العولمة. باعتبار أنه، ولابتعاده عن تنكب أدوار «ايديولوجية» بعد الزمن الايديولوجي، أو توتاليتاري (بعد الزمن التوتاليتاري التاريخي والجغرافي والعرقي، فانه بات بلا حدود، يعني انتهى نهاية التاريخ، وخبا مع التماع صراع الحضارات.
هذه النظرة الكمية والشيئية والخارجية للشعر والتي حكم البعض بها عليه بالموت، هي النظرة التجارية باستمرار. فلأن الرواية اكثر رواجاً منه، نعي باسم ضيق رواجه. ولكن متى لم تكن الرواية اروجَ من الشعر؟ ومتى كان الشعر يحقق «بست سيلرز»، إلا في فترات معينة، سياسية بامتياز وكذلك ايديولوجية. وهل كان رمبو جماهيرياً (لم يتجاوز في «الاشراقيات» و«فصل من الجحيم» ٠٣ أو ٠٤ نسخة). ومالرمه هل كان شاعراً «شعبيا» وطبع كتبه لا يتجاوز العشرات. وقبلها بودلير. وبعدهم فاليري… وعلى الامتداد العالمي نوفاليس، او ريلكه او جورج تراكل… وهل كانوا شعراء روائيين كبارا أمثال دوستويفسكي وتولستوي وغوغول وبلزاك وستاندال وحتى فلوبير يلقون نجاحات شعبية عبر رواج رواياتهم، كان الشعراء على هامش الهامش. فهل كان على نقاد ذلك الزمن ان ينعوا الشعر ويقولوا انه عصر الرواية لا عصر الشعر كما نقرأ اليوم؟ علماً بأن هؤلاء الروائيين والقصاصين (كتشيكوف) كانوا من ضمن الخط الطليعي، والرائد، والمفتتح، والمجترح الذي كان يسلكه الشعراء. ذلك ان النهضة التنويرية التي انبثقت هي أيضاً عن ثورات تكنولوجية ضخمة، وعن اكتشافات علمية مهمة، ولم تؤد الى رؤية «دوغماتية» للمستقبل كما هي الحال في عولمتنا الراهنة. كانت كل الفنون والآداب تتواكب في صنع الزمن الجديد! صحيح أن بلزاك كان «بست سيلرز» زمانه وكذلك تولستوي او تشيكوف… ولكن على غير المواصفات التي نشهدها اليوم والتي صنعت من الرواية «مادة» استهلاكية، مسطحة، حاولت العولمة ان تستخدمها وتروجها لطبيعتها الميسرة. بل حاولت وضعها في منافسة شقية، على قواعد تضعها مرجعيات «نقدية» (معولمة) على صفحات بعض الجرائد والمجلات، هذه القواعد قد لا تختلف في صميمها عن شروط المسابقات الرياضية، والمصارعة، والملاكمة، وكرة القدم او ملكات الجمال!… يعني تضع لها قواعد بمواصفات ترويجية، وتضع اصحابها أحياناً في دوائر الضوء والاسطورة والخرافة (كما فعلت هوليوود اصلاً عندما ركزت حتى في بداياتها على النجم كأداة لجذب الجمهور). انها اللعبة التجارية باستمرار. لعبة تكوين او تعزيز توتاليتاريات «مجتمعية»، في صوغ أذواق وردود فعل أحادية. معلبة، ومقولبة، وجاهزة! هذه القواعد والاعراف الموضوعة تتكرس باستمرار بايقاع تحولات العولمة (اقتصاد السوق)، أي صناعة تاريخ يكون من مفردات معولمة، ويخضع بطبيعته لشروطها… وكذلك لمآلاتها!
لكن ماذا يمكن ان تفعل العولمة بالشعر؟ وماذا يمكن أن يفعل الشعر في رحاب العولمة؟
III
ان الخصوصية التي تميّز الثقافة الاخرى، الهامشية (النقدية) لا تلغي خصوصية كل من مكوناتها، ولهذا فهي، الى فضاءات المتواحدة، يحتفظ كل فن، وخطاب، ونص فيها بخصوصيته، والشعر، في هذا الاطار، هل يمكن أن يكون له «خصوصية» مستقلة، أي «جوهر» مستقل، له طاقته، وسماته، ودوافعه وموهبته، التي تميّزه مثلاً عن الرواية، والاعلان او البحث العلمي. والسؤال: هل يكفي أن نعلق كلمة «قصيدة» بأي نص ليصبح قصيدة؟ نطرح هذه الاسئلة لأنها تتصل عبر الاحتمالات الممكنة لعلاقة «الشعر» بالعولمة!
اذا كانت العولمة، مثلا، تتعامل مع ما هو موجود، ومعين، ومحدد، وذي تخوم معروفة، وخلفيات معلومة، وطاقات مرسومة، أي ما يمكن أن تحول وظيفته من وظيفة ما الى وظيفة تسليعية او تجارية، فان الاسئلة الكبرى حول «الشعر» و«جوهره»، واحتمالاته، وطبيعته، قد تكون من العوائق الاساسية لبناء هذه العلاقة. فالقيمة العملية، او المردود المادي- واحياناً المعنوي، هي التي تدفع العولمة الى استغلال هذا القطاع او ذاك.
لكن ما هو مطروح، في الشعر، ومن مواقع عديدة، متناقض، في اسئلته، وهنا يبدو التساؤل: الشعر أهو موجود أم لا؟ هل هناك شيء معين، ملموس، مستقل، اسمه الشعر؟
يقال ان الشعر غير موجود في أي مكان؛ ومع هذا فموجود في كل مكان. صيغة، على غناها، وعموميتها ملتبسة. فكيف يكون الشعر موجوداً وغير موجود، هذه النظرة تشكك ربما في وجود خاص للشعر. أو في خصوصيته تميّزه عن سائر الخطب الاخرى. فهو موجود في الرواية او القصة وفي الشارع وفي بعض الاعلانات، والنغم، والموسيقى، وحتى في بعض «البضائع الترويجية»، وفي الصورة، وفي الطبيعة، وفي الجسد… الخ. لكن هل له وجود خاص؟ هل له مكان خاص؟ هل له حدوده الخاصة؟ هذه التساؤلات ليست جديدة. ولطالما طُرحت. ولطالما انقسم الشعراء والفلاسفة واللغويون (لا سيما الألسنيين والسيمائيين) حول المسألة، ومع هذا لم يتوصل أحدٌ أن يقول لنا ما هو الشعر؟ ما هو مفهومه للشعر؟ فالسيمائيون مثلاً ومنهم رومان ياكوبسون الذي يرى ان وجود «حجم شعري للغة يمكن أن نلمسه في أي نوع من النتاج، وليس بالضرورة فقط في القصائد». ليقوده ذلك الى البحث عن مرجع للشعر خارج القصيدة؟ ويلتقي غريماس ياكوبسون في هذه الناحية: «ان المادة الشعرية، ومع انها تمتلك خصوصياتها، فهي تنتمي الى الحقل الأدبي». وحتى الادبي «فانه يمتلك خصوصية ضئيلة إذا ما قيس بالميادين الأخرى الدينية والقضائية» وعلى هذا الأساس يرى «ان أشكال المضمون التي تبدو للوهلة الاولى وكأنها تحدد سمات حقله ونوعه تنتمي الى الخصائص البنيوية العامة للغة» أي تفقد شيئاً فشيئاً «خصوصية الشعر» وكأن غريماس يريد أن يقول ان هناك أدباً في كل قصيدة، من دون المجازفة في القول ان هناك شعراً في كل أدب». ومن هنا يشكك غريماس في أي احتمال لبناء شكل شعري مستقل»، ليستنتج «لا شيء يسمح لنا بتمييز النص الشعري عن أي نص غير شعري». باعتبار أننا لا نكتشف في القصائد سوى ملامح مشتركة في كل نصوص اللغة. ليدمر بذلك مفهوم «جوهر الشعر» ويلحق النص بكل المجاميع الشكلية للكتابة». هذا النفي للشعرية المستقلة تبناه عدد من الشعراء كدنيس روش في نصوصه وفي كتاباته.
لسنا هنا في مجال تناول هذه المسألة تناولاً خاصاً، بقدر ما أردنا التعامل معها، او الانطلاق منها، والاستفادة، لنقول اننا قد نوافق هذه الآراء النافية وجود جوهر الشعر، لكن من زاوية اخرى قد تؤدي الى نقيضها. فنحن نعتبر ان جوهر الشعر غير موجود، كمفهوم سابق، او جاهز، سواء ضمن فكرة، او نظرية… او ايديولوجيا، ونظن ان القرن العشرين ولأنه كان قرن الايديولوجيات والايتوبيات بامتياز، فقد كان المساحة الاخصب لقيام النظريات والبنى الايديولوجية الشتى: الشعرية وغير الشعرية: من المسرح الى السينما الى الفن التشكيلي الى السياسة الى الفكر الى الثقافة. هذا صحيح! وعلى هذا الأساس امتدت النظريات الى الشعر كإرث لجزء من القرن التاسع عشر. ولهذا كان ثمة صراع بين المفاهيم والجواهر الشعرية، تجلت في النقد والبحث والرؤيا تجليها في النصوص: من الرمزية الى الدادائية الى السوريالية فإلى مختلف التعابير النصية. كأن كل شاعر يريد (وكل مسرحي ايضاً) ان يبني كاتدرائيته النظرية وبيانه الشعري وشروطه الشعرية وحتى قوانينه الشعرية. بهذا المعنى، نرى أن وضع مثل هذه النواميس والقواعد للشعر كان جزءاً من تقييده أو تحديده، او حتى التضييق على خناقه، فالشعر يأتي بعد النص لا قبله. بمعنى انه ينفي نفسه باستمرار. يتمرد على كل «جوهر» يهبط عليه من فوق (كالرومانطيقية) او من تحت (كالسوريالية)، بعد كل نص ترسم ملامح القصيدة او الشكل او التجربة. بمعنى آخر يعطي غياب الجوهر حرية شاسعة للتجريب، لكسر التجربة بالتجريب. على هذا الاساس قلنا ان الشعر غير موجود في المطلق. واستغرب عندما أسمع او أقرأ كلاما يقول «جوهر الشعر هو كذا وكذا» او «الشعر الحقيقي هو كذا وكذا…» او «على الشاعر ان يكتب كذا وكذا». وهذا ليس شاعراً! وهذا ليس شعراً! فالشعر يتجسد او لا يتجسد. وإلا بقي «بدعة خيالية»، يكون في الكتابة او لا يكون. ولهذا رأينا أن مقولات وفلسفات واتجاهات نظرية قامت وتولت حتى وصلنا اليوم الى الزمن الذي ذوت فيه المدارس والايديولوجيات. صار الشعر حراً، غير محمل بأثقال البيانات الجاهزة، والقيود النظرية وحتى القضايا الكبرى أو الصغرى التي كانت تحدده بمضمونها او بالتزامها. سقطت المفاهيم الشعرية المفروضة قبل النص، وها هو النص، يتحرك، بكل حرية في فضاءات غير محدودة. مفلتة، مجنونة، عاقلة، سردية، غير سردية، بصرية، سمعية، توبولوجية، غرافيكية… كل شيء أمام الشعر، لا قبله ولهذا اتسعت حقوله… الى الدرجة التي يمكن أن تقول اننا نقتبس مرحلة ما بعد الشعر (المفاهيمي)، وما بعد القصيدة. فهذه الاخيرة باتت جزءا من النص، لا النص جزءا منها، وعندما يتحرر الشعر من المفاهيم، يصبح «إدراكه» مستحيلاً. يصبح حيَّ أسراره الحاضرة والمقبلة. كل هذا لا يعني انه ينفصل عن مجتمعيته. على العكس، فبدلاً من أن يكون مقطوراً بمظاهر هذه المجتمعية او بعلاقاتها ووشائجها المفروضة، التاريخية او الدينية او اللغوية او الايديولوجية، فانه، وعبر انتباهه الى فجوات المجتمعية يحتل الموقع الامامي. يخرج من جوف هذه المجتمعية، ومن تناقضاتها، ومن «ثقوبها»، ومن احتمالاتها، ليصوغ، ومن ضمن رؤيا فردية، او قراءة طازجة، نصاً مختلفاً، نصاً متحولاً باستمرار، وخارج أي وظيفة مباشرة تجعله تابعاً لأي ظاهرة او مظهر او بنية؛ هذا هو الشعر في تجريبيته، يكسر القواعد بالنص، والمفاهيم بالبحث النصي. من دون ان يحدد لنفسه افادة «عملية» أو «اجتماعية»، او تجارية او سلطوية. او استهلاكية او ايديولوجية. سيد نفسه، وحيد نفسه، حر نفسه، لا يتوقف، وينفي وقوفه باستمرار. كما ينفي حركته باستمرار بنفي تقنينها او توجيهها على غير حريتها. وهنا بالذات نطرح مسألة العولمة والشعر، (من ضمن السؤال الثقافي- المجتمعي أيضا). ولعل نفور الشعر من أي دوغماتية (اليوم)، ومن أي افادة او استفادة، ومن أي وظيفية، هو الذي حماه من براثن الاستيعاب والاحتواء، وحال دون استفراسه من قبل آلة العولمة  الجهنمية، وتوتاليتاريات القرن العشرين.
صحيح أن العولمة، اليوم، تلتقي الشعر في تحولاتها وعدم استقرارها. لكن الفارق ان تحولات العولمة، موضوعة لأهداف استهلاكية، لأنماط مقننة، بمضامين تجارية. فتغيّر «أجيال» الكمبيوتر، او «الخلوي»، او صناعة السيارات، او الافلام ذات الانتاجات الضخمة، ينبع من «الافادة». بينما تطلع تحوّلات الشعر تصعد من التجربة نفسها… ومن اللغة نفسها، من دون توقف، ومن دون هواجس منفعية. فكل تغيّر تحققه العولمة هو تغيّر ضمن وظيفية اقتصادية، ومن اجل احتلال موقع اقوى في السوق، ورفع إيقاع المنافسة. وأحياناً كثيرة عبر إحراق المراحل. لكن عندما تسود قطبية واحدة (اقتصادية، ايديولوجية) فأي مكان يبقى للمنافسة؟ تسقط هذه الاخيرة تحت أقنعتها المزيفة. في حين أن الشعر لا ينافس أحداً، النص ينافس نفسه، يسابق نفسه، ينتقد نفسه، يهاجم نفسه، الشاعر لا ينافس شاعراً آخر، وكأنهما بضاعتان، أو سلعتان، والنص الشعري لا ينافس نصاً آخر. وذلك يعود الى ان طبيعة النص غير قابلة للمنافسة، وغير هادفة الى منطق السوق، ولأن التجارب الشعرية قائمة على التعدد والاختلاف والتناقض والتناكر.. من دون مواصفات جاهزة، وكم استغرب عندما أسمع من يقول «أن فلاناً اكبر شاعر» او فلاناً «أشهر الشعراء» (كما كانت الحال في الجاهلية وفي جزء من العصور العربية القديمة. ذلك أن كسر هذه التعددية عبر اختلاق «منافسة» بين نص ونص. وبين قصيدة وقصيدة، يعني إدراج الشعر في خانة الوصفات «المعروفة» او القوانين الرائجة. وهنا بالذات تتخذ المنافسة أحياناً طابعاً إعلامياً او إعلانياً، او اجتماعياً او سياسياً او ثقافياً بالمعنى التسليعي (بعض الجوائز الشعرية مثلاً! تستغل من اجل الترويج، وهنا لابد من ان نشير الى اتباع طريقة «الأكثر رواجا» في الروايات، وكذلك بعض الجوائز لا كلها (غونغور، فميتا…) وضع الرواية في ميدان المنافسة. ولكن أي منافسة؟ هل تمكن مناقشة بين روايتين «تجريبيتين» متناقضتي اللغة؟… وكيف تقارنان. وما هي الشروط والقواعد التي يمكن أن تنطبق على نصين لا يتشابهان! ذلك أن «موضة» الأكثر رواجاً (أو البست سيلرز) يُقحم الرواية في عالم «العولمة)، من أبواب ضيقة، حيث يستخدم الإعلام والتلفزيون (أحياناً) والصفحات الثقافية والنقاد والمنابر لتسويق هذه الرواية او تلك. أي فتح بازار لا يختلف كثيراً عن منطق السوبر ماركت. ونظن أن الرواية هي النوع المهدد أكثر من غيره في الانخراط بلعبة العولمة والخضوع لشروطها، لغة وفكراً وبنية ومضموناً وأسلوباً. أي الخضوع للذائقات المعممة التي تستهلك مثل هذه الروايات. وبهذا تكتسب «خصوصية» البازارات الأدبية السائدة. أو ليس هذا ما فعله ستيفن كينغ قبل بضع سنوات عندما باع احدى رواياته من مؤسسة سايمون وشوستر لقاء عدة ملايين من الدولارات لنشرها في طبقة إلكترونية. ولا نعرف الى أي مدى أسست هذه الخطوة لصفقات أخرى او لاتفاقات شعبية.
IV
ولكن هل يعني ذلك أن على الكاتب الهامشي بنصه الهامشي، أن ينزوي، ويرفض «العولمة» بكل أدواتها وافرازاتها وظواهرها، رفضاً كلياً؟
نظن أن العولمة، كما هي اليوم، او كما نراها، ليست كلها شروراً، وليست هي «الشر المطلق»، وقد تساءلنا في بداية هذه الورقة: هل يمكن التعامل مع العولمة تعاملاً ما، يمكن عبره الاستفادة منها، من دون التحوّل الى مادتها ومضمونها وهدفها!
الواقع ان العولمة عبر الإنترنت وسواها، وفرت مجالاً كبيراً لنشر «الشعر»، هناك مئات المواقع الشعرية، وملايين النصوص، من كل زمان ومكان، موجودة على الشاشات وفي الذاكرات الالكترونية، ويكفي أن تكبس زراً ليكون أي شاعر من الشعراء الكبار (وحتى غير الكبار) في متناولك. من هوميروس الى شكسبير الى الشعر العربي القديم، الى نصوص بعض الشعراء او مختارات منهم، الى ترجمات، وسيرة، ومقالات نقدية وتحليلية… إذ لم نعرف فترة في التاريخ البشري كان الشعر فيها متوفراً ومنتشراً الى هذا الحد. إنها المكتبة الفضائية الخصبة المفتوحة لكل زائر باتت جزءاً من الذاكرة المحفوظة، تزورها من تشاء وتختار منها ما تشاء وتستخدمها وتستغلها كما تشاء. ثقافة فضائية معممة، تكاد تجعلنا نبشر «بديمقراطية» فضائية، أو الكترونية تساوي بين زبائن الإنترنت وزوارها. وكأن في هذه الديمقراطية الطارئة ما يشير الى «عدالة» ما و«مساواة» و«أخوة» في نشر الشعراء بمختلف اتجاهاتهم وازمنتهم. من جاك بريفير الى مالرمه الى رمبو الى دوبوشيه والسياب ونزار قباني وادونيس ومحمود درويش. وخصوصاً ان بعض الشعراء يتولون بأنفسهم نشر أعمالهم باستحداث مواقع لهم على الإنترنت مع عناوينهم وسيرهم للتعريف والتسويق والتعارف. وهذا رائع! أن يصير شعر كل شاعر معلقاً في الفضاء، كقمر اصطناعي او ربما كالقمر نفسه ولم لا وكالبدور! فكأن الشاعر يعولم نفسه أكثر مما يعولم شعره! وهل تؤدي هذه الظاهرة الى تسويق الشعر عبر اكسابه «خصوصية» جديدة، أو هوية جديدة لمجرد وجوده على الشاشة وفي المتناول أو ضمن دائرة القراءة المعممة او الاستخدام الاختياري؟ او المهني، او الاطلاع الفضوي؟ وهل يمكن أن يؤدي ذلك الى تخلي الشعراء عن دور النشر في اصدار أعمالهم، لينشروها على الإنترنت كما سبق أن فعل بعضهم؟ وهل يمكن ان يؤثر ذلك على طبيعة الكتابة نفسها، كما يؤثر فيها بعض الشعراء العرب بالترجمة الى لغات عالمية، على لغتهم الشعرية. فيعتمدون النص المبسط الأسهل للترجمة، او الميسر في القراءة للوقوع في «أيديولوجية» السهولة، بعيداً عن وعورة النص الشعري وفخامته وغموضه وسريته وخروجه الدائم على نفسه. وتمرده على أي خصوصية جاهزة، أو هوية محددة؟
ان مثل هذه الاسئلة المتصلة بالوسائل الالكترونية، والشبكات، تقربنا من أسئلة أخرى من علاقة الشاعر والتلفزيون. وتالياً الى أي مدى يتأثر الشاعر، اليوم، بالتلفزيون عبر إيقاعه، ونتاجه، ولحظويته، وطريقة تلقيه؟ هل نقع، (اليوم) او مستقبلاً على شعر تلفزيوني يصوغه شعراء استقبلتهم الشاشة الصغيرة، وانتزعت منهم الروح النقدية، او هاجس البحث، او حتى خلفيات العمق، في النصوص، ليكونوا في دائرة التبسيط، والتسطيح، والسلبية، والهلهلة، من الغياب، والتلقف السريع حتى في مجال الثقافة الهامشية؟ وهل يمكن، ان يقولب التلفزيون عقول الشعراء، ليس في كتابة الشعر السريع، البلا لغة، والبلا قرار، والبلا- مجاز، والبلا بنية مركبة، والبلاتجريبية ليكتسب الشعر «هوية» تلفزيونية شبيهة بالهوية الالكترونية على الإنترنت، فينخرط في طاحونة العولمة التي تدوّر الزوايا، وتملس النتوآت، وتًعبد الوعورة، وتُعوم السري، وتسطح الغامض، وتصوغ «جوهرا» شعرياً يستمد وجوده من هذه الادوات، وما خلف هذه الأدوات، وملامسة تخوم «توتاليتارية» جديدة لا تختلف كثيراً عن التوتاليتاريات التي عرفها القرن العشرون وسواه من حيث فكرة التعميم، والاحادية، والوظيفة المباشرة.
صحيح ان ظاهرة تعميم الشعر على شاشات الإنترنت باتت منتشرة بشكل كبير، ولكن لم نلمس حتى الآن، آثاراً دامغة لطبيعة الإنترنت على الشعراء، بالمعنى المعولم الذي أشرنا اليه. ولكن هذا لا يعني عدم تعرض الشعر لمثل هذه المخاطر في المستقبل. وعندها لا يفقد خصوصيته (وهو بلا خصوصية) بل يكتسب «خصوصية» الأداة التي يستخدمها. وإذا كان الثوب لا يصنع الأمير دائماً، فان الثوب يسمم أحياناً الجسم، ويشوهه، ولكن هذا لا يعني أيضاً أن الشعر يمكن ان يستبدل بشعر آخر، كما يستبدل الثوب بثوب، او الشاشة بشاشة، او التلفزيون بتلفزيون، أو المكان بمكان. فالشعر (السائر في كل الاتجاهات) أبعد من فكرة المقايضة. وقد نجا منها ايام البنى التوتاليتارية والنظم الاستبدادية والأفكار السياسية المُسلعة الاعلامية، واليوتوبيات (القاتلة)، حيث اقتصرت مهمته على تعميم الأفكار الجاهزة، وتسويقها، ليصير جزءاً من وظيفة تنسب الى آلة سلطوية عليا. نجا الشعر من الفكر الأحادي، ومن «الجواهر» القبلية وها هو اليوم، ومنذ قرابة ربع قرن يعيش، (بعد الزمن الايديولوجي) عصراً ذهبياً. تمرد فيها على «العولمة» السلطوية والايديولوجية، تمرده على العولمة «الجديدة» التي لا تختلف بمدلولاتها واهدافها، عن تلك التي سادت القرن العشرين، من حيث رؤيتها الاحادية وأدواتها المفروضة وأسواقها «المفتوحة» وبازاراتها وسوبرماركاتها وتعميماتها الواحدية، لينضم الى حريته الشاسعة (ربما الخصوصية الوحيدة للشعر تكمن في لا خصوصيته)، البلاحدود، والبلاأمكنة، والبلاطغيان، والبلاأهداف، والبلاوظائف!
وعندما نتكلم عن الشعر عموماً، لا نستثني الشعر العربي اليوم. فهو على عكس ما يقوله غربان النعي وحفارو قبره، (لا سيما من بعض الشعراء أنفسهم)، في أخصب حالاته. الشعر العربي اليوم يتعامل مع وسائل العولمة، من دون أن تستوعبه. بمعنى آخر، يحاول الشعر العربي عبر بعض شعرائه، أن يتعامل مع «العولمة» من باب العالمية أي يعود الى المناخات التي أرستها النهضة والتنوير في أوروبا، وكان لها الأثر الكبير في صوغ حداثتنا الشعرية (والمسرحية والروائية والفكرية والايديولوجية). فالنهضة التي كانت نتيجة الثورات التكنولوجية ايضاً (وليست العولمة اليوم وحدها ثمرة الثورة التكنولوجية) هي التي ضخت القيم الفكرية، والديمقراطية والتعددية، والفلسفة النقدية، والخروج على الأنماط، والتقاليد، والانضمام الى روح التغيير، والاهم بناء المجتمع المدني المتعدد. على عكس العولمة التي تفرض الاحادية، وتطمس الفردية، وتستعيد الارث لمضمون فولكلوري او تسليعي او سياحي او مجتمعي. ونظن، أن الشعر العربي الحديث مدين جداً لهذه التحديثية النهضوية الاوروبية (شئنا أم أبينا)، بل ونكاد نقول وكأن الشعر العربي الحديث شعر معولم، وان المسرح العربي الحديث مسرح معولم، وحتى النهضة العربية نهضة معولمة. قلنا نكاد نقول ذلك لو لم يكن تأثير التحديث الآخر عمّم الأفكار والأساليب والمدارس ولكن في الوقت نفسه فتح نوافذ خاصة للإبداع العربي في كل المجالات. وخصوصاً في الشعر. فعندنا، فاليرينا العربي واليوتنا العربي. وسان جون برسنا العربي. ولامرتيننا العربي. وبروتوننا العربي. وبودليرنا العربي، تماماً كما كان لدينا سورياليونا العرب، ورمزيونا العرب، ورومانطيقيونا العرب… على أن هذا التماهي لم يكن كله «قدرا» لازباً. أقصد كان هذا الارث الشعري الأوروبي على تفتح في الذاكرات والمخيلات العربية، لم يتخذ «صفة» الفرض الايديولوجي، أو المصادرة الأحادية، بقدر ما كان، والى حد كبير، اختياراً، وان كان هذا الاختيار محكوماً بواقع ثقافي (آنئذ) يحتاج الى انبعاث، والى قيامة، بعد قرون من الانحطاط.
على هذا الاساس نقول أن الشعر العربي الذي حَصَّن نفسه على امتداد القرن الماضي لا سيما بعد توالي الموجات السياسية والايديولوجية والتوتاليتارية، وأشكال الفرض والقمع والحروب والتخلف، ما زال يستطيع ان يحصن نفسه في مواجهة «العولمة» الجديدة التي تريد افراغ كل شيء من محتواه التجريبي، والنقدي، والصراعي، والاحتجاجي، أي تريد أن تحل «خصوصيتها» الاستهلاكية الطارئة والسريعة على كل تجربة. ونظن أن العولمة التي تزداد اكتساباً لهوية تسوية الفنون والآداب والانواع على مسافة متشابهة، ومتناسخة، أي على «هوية» ما مفرغة من الجدالية والجدلية وحتى التناقضية، أي «خصوصية» مفترضة ومفروضة، لن تتمكن (وهذا ما نأمله) من إلصاق هويتها على الشعر. ذلك أنها تتعامل مع «الهويات»، و«الخصوصيات» و«الجواهر» الثقافية الثابتة او التاريخية او الفنية او الاجتماعية او الاثينية، تُذيبها في طاحونتها، أي لتحولها «هويات معولمة» قابلة للتسويق والتجارة.. وتظن ان ما يحمي الشعر هو هذا الاصرار على انه بلا هوية. وبلا جوهر، وبلا وجود، وبلا ثبات. فالشعر غير الموجود أصلاً (كمفهوم جاهز) لا يمكن أن تحتويه العولمة… لأنه ربما قد يستوعبها بقوة «عدمه الخلاب»، ولا تستوعبه بقوة هوياتها العابرة!
قلنا في بداية الورقة ان العولمة صناعة الغرب ولم نشارك لا في صنعها ولا في سيرورتها، وها نحن نقاومها بالسلاح الأول «الشعر» وثقافة الهوامش والمجتمع المدني. ذلك أن الشعر مهما تمرّد على هذه الآلة الساحقة، فقد لا يتمكن وحده من المقاومة (على قوة هامشيته). وعلى هذا الاساس فإن مقاومة العولمة لا يمكن أن تتم لا بالسعي الى عولمة أخرى، ولا بالسعي الى انظمة توتاليتارية أخرى، ولا حتى الى نيوليبرالية جديدة (كالموجودة الآن) وإنما، بالسعي الى حد ترسيخ المجتمع المدني كطاقة جماعية، تحركها الديمقراطية، والتعددية، والفكر النقدي، والانفتاح على كل احتمال ثقافي او فكري او سياسي، بعيداً من أي «جماعية» أصولية، سواء كانت دينية او ايديولوجية او اثنية، ذلك أن العولمة لا تختلف في عمقها عن أي أصولية، بل هي أقصى نقطة من نقاط الأصوليات الجارية. بمعنى آخر، نظن انه اذا كان علينا أن نقاوم هذه «العولمة» الأحادية (بالشعر وبسواه) فعلينا اعادة ارتباطنا بالثورة النهضوية التنويرية التي أسست لمجتمعات حرة وثقافة متنوعة، وعقل نقدي وفلسفي يكون هو السقف لا سواه.
وعلى هذا الاساس يتخذ الشعر، في مناخات هذه التنويرية الجديدة، حيّزه «الخصوصي» المنفي باستمرار، وعبر جوهره المنفي باستمرار، وعبر طبيعته المنفية باستمرار على مساحة غير محدودة، وغير مقننة وغير مفروضة من التحولات والتغيرات.
وعندها بالذات لا يصبح الشعر هو الذي في عصر العولمة بل العولمة هي التي تصبح في عصر الشعر.
بــــول شـاؤول
مجلة نزوى ع 50

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى