صفحات ثقافية

ترويـض الفوضـى… وجثـة تسـاوي بـلاداً

null
الأرجنتيني توماس إيلوي مارتينيث يصطاد أسطورة زوجة خوان بيرون في «سانتا إيفيتا»
جينا سلطان
أمضى الروائي الأرجنتيني الكبير توماس إيلوي مارتينيث حياته متمردا على السلطات التي تمنع أو تبتر قصصا، وضد المتواطئين الذين يشوهون القصص أو يسمحون بضياعها، لكنه أيقن في النهاية أن فائدة الحرية هي في إمكان تحويل الأكاذيب إلى حقائق، ورواية حقائق يبدو كل شيء فيها كذبا.
يعتبر «مارتينيث» التاريخ جنسا من الأجناس الأدبية، ويستنكر حرمانه من المخيلة والهراء والفظاظة والمبالغة والهزيمة التي تشكل المادة الأولية للأدب، ويشدد على أن كل قصة من حيث التعريف، هي خيانة، فالواقع لا يمكن أن يروى أو يتكرر، والشيء الوحيد الذي يمكن عمله بالواقع هو اختراعه من جديد!
ولأن الحرف مضاد للزوال، وحكاية القصة مضادة للموت، لذا يكون استرداد الكائن التاريخي محملا بإمكانية اقتباس ماضيه كله، بما فيه من تمجيد أو أسرار، وبالتحديد تلك الهوامش والمناطق المظلمة، وما هو مسكوت عنه في الشخصيات الأسطورية كإيفيتا دوراتي، زوجة الرئيس الأرجنتيني المخلوع خوان بيرون.
أمضى الكاتب شهورا وشهورا في ترويض غموض الفوضى الملتصقة بإيفيتا جاعلا شخصياته الروائية تتبادل الحديث بصوتها الخاص أحيانا، وفي أحيان أخرى بصوت آخر غريب، كي يوضح فقط أن ما هو تاريخي ليس تاريخيا على الدوام، وأن الحقيقة ليست أبدا مثلما تبدو، ما جعل الرواية شبيهة بجناحي فراشة ـ قصة الموت تطفو نحو الأمام، وقصة الحياة تتقدم إلى الوراء ـ وفي الوقت نفسه شبيهة به شخصيا، ببقايا الأسطورة التي راح يتصيدها عبر الطريق، بالأنا الذي كانته هي، بمحبات وعداوات كليهما، بما كانه وطنه وما أراد أن يكونه لكنه لم يستطع، فتحول النص إلى بحث عما هو غير مرئي، عن سكون ما يطير، وظلت الحبكات تفلت منه، وكذلك ثبات وجهات النظر، وقوانين المكان والأزمنة، حتى حاصره الاختناق وحتم عليه التعرف إلى إيفيتا بكتابتها، كي يتعرف إلى نفسه.
الموت والنسيان
بدأ مارتينيث روايته من لحظات النهاية التي عكست إيفيتا في «إطار أبدية من الأسى تعوض ست سنوات من الرضا»، تُخلي مكانها لغضب متوقد عاجز يتحدى الموت والنسيان في شكل توسل ملح لبيرون بألا يدع الناس تنساها.
لم تكن تبدو أنها الشخص نفسه الذي وصل إلى بوينس آيريس في العام 1935 حين كانت قطعة كراميلا مقضومة، نحيلة إلى حد يثير الرثاء، فأخذت تكتسب الحسن مع العاطفة، مع الذاكرة، مع الموت، ما دفع مارتينيث إلى التساؤل: أين تعلمت تلك المرأة الهشة التحكم بالسلطة، وماذا تراها فعلت لتتوصل إلى كل تلك الطلاقة والسهولة في الكلام، ومن أين أتت بالقوة لتلامس أشد قلوب الناس ألما؟ ويجيب مفترضا المرض سببا!
ومن أجل تحقيق توسلها يأمر بيرون بتحنيط الجسد، فتتحول إيفيتا إلى قصة لا تنتهي قبل أن تولد أخرى، إذ لم تعد ما قالته أو ما فعلته، بل تحولت إلى ما يقولون إنها فعلته. وبينما ذكراها تتحول الى جسد، والناس ينشرون في ذلك الجسد تعرجات ذكرياتهم، كان جسد بيرون، وهو يزداد بدانة واضطرابا، ُيفرغ من التاريخ.
بعد سقوط بيرون تعرضت المراتب العسكرية للتمزيق في عملية تطهير لا ترحم، لكن بيرون لم يكن يثير قلق الجنرالات المنتصرين، لأن وجع الرأس الذي يؤرقهم هو رفات « تلك المرأة»، فاللعب ليس على جثة هذه المرأة وإنما على مصير الأرجنتين، أو على الأمرين معا، لأنهما يبدوان الشيء نفسه لأناس كثيرين. فلا أحد يدري كيف حدث أن جسد إيفا دوراتي الميت وغير المجدي قد راح ينصهر بمصير البلاد، ليس في نظر العسكريين والمثقفين، بل في نظر البائسين المهلهلين، من هم خارج التاريخ، والذين كانوا مستعدين للموت من أجل الجثة، التي حرك تحنيطها تاريخ المنطقة، وجعله متروكا داخله، فغدا من يمتلك المرأة يمتلك البلاد في قبضته.
حين فكر مارتينيث في أنه يمكن لبشر كثيرين أن يكونوا أشبه بروح واحدة، بدلا من أن يكونوا آلافا وآلافا من الأرواح المتفرقة، استوعب كيف أن جملة منسوبة لإيفيتا «سأعود وسأكون ملايين»، لم توجد قط لكنها كانت حقيقية. فإيفيتا لم تستسلم لأن تكون واحدة فقط وبدأت بالعودة أسرابا، بالملايين، الأمر الذي أسماه الوميض الأول لحريق طويل الأمد، ويمكن دعوته فعليا استشعار الورع القومي ونبضه المغلف بطبقات الارتهان السياسي والإرهاب العسكري.
رأى الأرجنتينيون الأعداء في إيفيتا انبعاثا فاحشا للبربرية، فكورتاثار يعلن في إحدى قصصه أن الرعب الذي يطفو في الهواء ليس رعبا من بيرون وإنما منها هي التي تسحب من أعماق تاريخ الأزلية أسوأ فضلات الهمجية، فهي العودة إلى القبيلة المتوحشة، البهيمية الجاهلة المندفعة بعماء، في متجر كريستال الجمال، أما بورخيس في قصة الصنم فقد هدف إلى الكشف عن بربرية الحداد وزيف الحزن من خلال تمثيل مبالغ فيه، لكن ما خرج معه، دون أن يشاء هو ذلك، كان تكريما لاتساع مهابة إيفيتا، فهي صورة الرب المرأة، ربة جميع النساء، ورجل جميع الأرباب. أما مارتينيث فبقي يتقدم، يوما إثر يوم، على الحد النحيل بين الأسطوري والحقيقي، منزلقا بين أنوار ما لم يكن وظلمات ما كان يمكن أن يكون، ضائعا بين هذه الثنايا، لتجده إيفيتا على الدوام.
إعادة بناء
صعدت إيفيتا مثل نيزك من مجهولية أدوار صغيرة في التمثيليات الإذاعية إلى عرش لم تجلس على مثله امرأة أخرى: عرش المحسنة للإنسانية والزعيمة الروحية للأمة، وشكل موتها وهي في الثالثة والثلاثين تراجيديا جماعية غذت أسطورتها بناء على ما فعلته وما كان يمكن أن تفعله. وما عزز سطوة الأسطورة أنها تابعت في يفاعتها كل خطوات بيرون وصارت تشعر بأنه لا يمكن لأحد سواه أن يحميها، فاختارته رغم فارق السن الكبير بينهما، فكان أن أحبها بيرون بجنون وأحاطته بحبها حتى التهمته، أي تجاوزته في عصر شهد كل محاولات التهمـيش والازدراء للمرأة.
في السنوات العشر التي تلت عملية اختطاف الجسد، لم ينشر أحد سطرا واحدا عن جثة إيفيتا، وقد تأخر ظهور الجسد أكثر من خمسة عشر عاما، فبقي سر جسدها المحنط الضائع في نهاية عقد الستينيات فكرة راسخة في الأرجنتين، وكان يقال إنه ما لم يظهر الجسد، فسيظل البلد يعيش منقسما إلى نصفين، وأنه أعزل وعاجز أمام نسور رأس المال الأجنبي، وسينهب ويباع لأفضل مشتر. وكان ُيكتب على جدران بوينس آيرس: ستعود وستكون ملايين. إيفيتا ستنبعث. سيأتي الموت وتكون له عيناها.
إحدى شخصيات الرواية الأساسية وهو الكولونيل موري أكد أن ما كانت عليه إيفيتا ليس تلك المواضي المتناقلة شفاها، بل هي ليست في أي ماضٍ لأنها كانت تنسج نفسها بنفسها كل يوم. إنها موجودة في المستقبل وحسب، وهذا هو ثباتها الوحيد، بينما رأى نفسه كأرجنتيني فراغا بلا امتلاء، مكانا بلا زمان لا يدري أين يذهب، لأنها من تقوده، وقد أوجز أحد رؤساء الجمهورية الموضوع لمارتينيث بقوله: «هذه الجثة هي نحن جميعنا. إنها البلاد».
يتساءل مارتينيث في عدة مواضع عن مصداقية التاريخ ومما تُصنع، وهل يمكن لأحدنا الدخول إليه والخروج منه باطمئنان، لكنه يعود ويؤكد أن التاريخ لا يبنى من حقائق واقعية وإنما من أحلام، فالبشر يحلمون بأحداث، ثم تختلق الكتابة الماضي، أي أنه لم تكن هناك حياة وإنما قصص وحسب، الأمر الذي ُيمكّن اللغة المكتوبة من بعث الحياة في المشاعر، في الزمن الضائع، في المصادفات التي تربط واقعة بأخرى، لكنه يعجزها عن إعادة بعث الواقع، لأنه لا ينبعث، بل يولد بطريقة أخرى، يتحول، يعيد إبداع نفسه في الروايات، أي أن النص الروائي «سانتا إيفيتا» (إصدار دار الحوار2010 ـ ترجمة صالح علماني) ما هو إلا إعادة بناء.
تعلن الرواية صراحة على لسان الكولونيل موري أن الإنسان ليس ما هو كائن فقط، لكنه ما هو آخذ بالتحول إليه أيضا، وهذا يعيدنا إلى موضوع إعادة البناء الذي يطال الأمم والأفراد على حد سواء، فيدخلهم الخلود أو يسلمهم إلى النسيان، وكلاهما نسبي شرطي مرهون بوقتية العبور من الآني إلى المستقبل الثابت.
استطاع بناء الرواية المميز والمدهش أن يصادر الملل من القارئ ويدفعه نحو حدود التوقعات القصوى، وأكد حيوية التصالح مع الذات القومية المشعورة، ومشاعر الفخر المتوارية تحت طبقات القمع السياسي.
(كاتبة سورية)
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى