ستة عناوين الى نهائيات “بوكر” الانكليزية
رلى راشد
هجاء مكشوف وكوميديا موقف وقهقة سوداء نائية… على المائدة
التقليد الأدبي طاغية متردّد يسهل عليه ايجاد مبرّر ليعلن التمرّد. هذا درس القائمة القصيرة لجائزة “بوكر” 2010 التي تكشّفت قبل حين. في النسخ السابقة للحدث الأدبي الابرز في العالم الانغلوسكسوني تقدّم المنحى المتشدّد في معظم الاحيان على ما عداه، غير ان القائمة الجامعة لصفوة الاعمال المختارة لهذه السنة، حيث اربعة انكليز وجنوب افريقي وايرلندية، خليط من المباغتات والتجارب الفطرية. تنعم القائمة ببعض الاغفالات الفادحة بيد انها تأتي متوازنة في المحصلة. ليس ثمة مكان في رحابها للمشاهير المطلقين المغيبّين عن عمد منذ القائمة الطويلة، وكانت ضمّت ثلاث عشرة رواية، فيما وسّع منظار الجغرافيا والاهتمام فتذكّرت قصصا فذة تجعل اللامألوف قريبا، تلفّ شريحة واسعة من الوقفات التاريخية والمشاعر الإنسانية. لا يعني ذلك ان الكتّاب المنتقين مبتدئين، نظرا الى ان في رصيد كل منهم ثلاثة اعمال سابقة في الحد الأدنى، في حين ان الكاتبة اندريا ليفي في وسطهم انبثقت بفضل نجاحها النشري والنقدي والتجاري على السواء في كتاب بعنوان “جزيرة صغيرة”. غير ان ما يعلنه الخيار النهائي في المحصلة هو ان التحديث ليس حكرا على الجديد، لتنفث القائمة من خلال فعلها هذا، نارا في النقاش المتمحور على التخييل الأدبي.
حرص محكِّمو الجائزة من خلال خياراتهم على إطلاق مواقف جدالية منوطة بطبيعة الرواية نفسها. والحال ان “في غرفة غريبة” لدايمون غالغوت، كانت اكثر العناوين إثارة للحماسة والتحدّي في هذا السياق. تتفحّص هذه السلسلة من ثلاثة نهارات، لحظة تحوّل الذاكرة تخييلاً، عندما يغدو كاتب لأدب السفر شخصيّة في مشهد طبيعي. اكتسب أدب السفر سمعة سيئة الى حدّ بات المرء يتردّد في ربطه بأيّ كاتب جدّي. غير ان رواية دايمون غالغوت الأحدث، تتضمّن بعض الأمثلة الأرقى ضمن هذه الخانة. “في غرفة غريبة”، هو كتاب سفر من طراز خاص. نجد في ثلّة من المقتطفات الرزينة حوادث تتبلور في أماكن عدة من العالم يهتم كل منها بنهارات منفصلة تتحرك في ظروف خاصة. يشار الى الراوي، ونحسبه الكاتب عينه احيانا، بضمير المتكلّم في لحظات او بضمير الغائب او بالضميرين معا في الجملة عينها، كأن يكتب: “يستغرق في النوم اخيرا سعيدا وكئيبا في آن واحد ويحتمي بالحلم، كلا، لا يسعني ان اتذكّر احلامه”. وقفة غالغوت الدرامية، وهو مخرج مسرحي ايضا، تتمثّل في جعل الرواية تكرّر الإنقلاب على نفسها وتغيير جلدها. يخلّع هذا المنحى بوابات ذهن القارئ لأن غالغوت حرّ ومتساهل في ما يخصّ نظام علامات الوقف المعهودة، ولا يتراءى انه يملك الوقت لوضع علامات الاستفهام حتى.
تجاوز جنوب الإفريقي غالغوت اسماء من مثل روز تريماين عن “انتهاك”، وآلن وارنر عن “نجوم السماء الصافية”، ادرجت في اللائحة الطويلة، غير انه تآلف مع أسماء اخرى من مثل توم ماكارثي الذي صار لولب هذا الشهر الأدبي بفضل روايته المبتكرة بثراء “سي”. غير ان الجماعة الانغلوسكسونية القارئة، ركّزت على شيء من الاخفاق في بنية “سي” واستفهمت عن جواز تصنيف عمل توم ماكارثي “سي” روائية تجريبية. برز ماكارثي عبر مؤلف شكّل بطل الشرائط المصورة تان تان بوصلته، في حين اطل برأسه في اواخر التسعينات من القرن المنصرم من موقعه امينا عاما لمجموعة تقدمية بإسم “نيكروناويتكال سوسايتي”، ساهم الفيلسوف سايمون كريتشلي في بلورة افكارها. والحال ان روايته الواصلة الى نهائيات “بوكر”، يمكن اعتبارها رواية مضادة على نمط الستينات من القرن العشرين، او لنقل نوعا عدائيا في العمق لمفهوم الشخصية التخييلية، يعمد الى مسرحة كمّ من الأفكار في خصوص الذاتية. “سي” نص طموح وجدّي ومتورط بما يثيره من موضوعات، غير انه لا يدنو من الاعمال الأدبية الخالدة بلا ريب.
من اللافت ان يحرص اصحاب القرار الفصل بإسم الجائزة، على ان يركّزوا على فكاهة عناوين القائمة القصيرة. الثابت أنها حسنة مشتركة بين نصوص عدة بدءا من عمل هاورد جايكبسون الهجائي المكشوف، مرورا بكوميديا الموقف الحيوية للإنكليزي بيتر كاري ووصولا الى قهقة الإيرلندية إيما دونوهيو القاتمة النائية في الظلمة. يمكن تبويب إحدى الروايات الواطئة ملكوت النهائيات، بعنوان “مسألة فينكلير” بالتخييل الكوميدي، وهو نوع قاصر لم يكن ليعدّ من مرتبة “بوكر” في أعوامها الاولى. في حين تعوز “في غرفة غريبة” مقومات الفكاهة والجوانب المسلية من دون شك. لن تكون مهمّة اللجنة هذه السنة تاليا، امتحان مثابرة في ظل لائحة قصيرة لافتة بالمقارنة مع صنواتها منذ انطلاق هذه المنافسة في نهاية الستينات من القرن الماضي، ولا ينبغي لمنحى “بوكر” 2010 ان يفيد ان الفكاهة صارت تسود التخييل الأدبي. ان اي بحث متأنّ عن تقاطعات إضافية بين الروايات، سيجدها على الأرجح في المناخات المألوفة. ذلك ان “سي” بفضل قبضة حديديّة على آلة الزمن في اوائل القرن المنصرم، ناهيك بفانتازيا كاري في شأن بدايات القرن التاسع عشر في اميركا بعيون أوروبية، تسائل على اختلاف التوقيت أصل العالم الحديث الثوري.
ليس ثمة ضرورة في رواية “الحجرة” للإيرلندية إيما دونوهيو الضاغطة لمحاولة تخيّل الوحشية الفائقة التصور. اياً يكن مستوى الانحلال التصوّري، يمكن الاتكال على ما اقترفه الآدميون ليتجاوز اي شطحات تخييلية. برز الخطف والاغتصاب والاحتجاز في فسحة تفتقر الى ادنى وسائل العيش، عملةً سائدة في العام المنصرم عندما طفقت اخبار من كاليفورنيا تزفّ نبأ اخراج جايسي لي دوغارد من الاحتجاز بعد ثمانية عشر عاما. بدت تلك الانباء بعد شهور فحسب على ادانة النمسوي جوزف فريتزل بسجن ابنته في زنزانة لسنوات.
يدخل عالم دونوهيو الروائي الوثائقي سقيفة حديقة، تشكّل منزل الراوي جاك ابن الخامسة ووالدته المسمّاة ما، التي لن يتسنى لنا معرفة اسمها الكامل، والمخطوفة منذ الثامنة عشرة. اما الزائر الموسمي العجوز نيك فمدخل الاثنين الى الطعام والنور والدفء بل الحياة عينها. تغدو الحجرة في وقت وجيز عالما جهنميا كحاله بالنسبة الى جاك والوالدة ما. يدور المعيش حول ايجاد سبل لإمرار الايام بغية منح جاك نشأة تقرب من المنحى الطبيعي في مكان خارج على كل عرف امتثالي. ينصرف السجينان الى التسلية والى ألعاب الكلمات خصوصا. تملأ دروس الطهو نهارهما الإمتثالي في “الحجرة”، نطاقهما الممتد بطول اثنتي عشرة قدما وبعرض مماثل، ليقفا ليلاً تحت وميض السماء المسائية يستغيثان. لا يعي جاك حدوث اي شيء خارج “الحجرة”، هناك اليوم وغدا، ثم غدا مجددا كالأمس، فيما الشمس والقمر وجها الله. “الحجرة” نص مروي بعيني طفل يعوز الانتظارات، يحاور الكسندر سولجنتسين في “يوم في حياة ايفان دينيزوفيتش” الملقاة في معتقل في سيبيريا الخميسنات من القرن العشرين، او نصوص بيكيت، ربما بجرعات مخفّفة.
“مسألة فينكلير” ضمن القائمة القصيرة ايضا، رواية ممتعة وانسانية غير انها لا تقدم صاحبها هاورد جايكبسون في تألقه. لا تتطور الشخصيات في كنفها على نحو مُرضٍ كما هي الحال في عمله الرائع “ليالي كالوكي” (2006) بينما يتبدى اسلوبه اقل دقة ونبرته اقل سطوة ولؤما وطزاجة. نعثر في وسطها على منتج سابق في “هيئة الإذاعة البريطانية” في منتصف العمر بهوية جوليان تريسلوفي مدّته صفات التلوّن بفرصة العمل في احدى الوكالات الشهيرة. يثير اصدقاؤه اليهود فضوله كأفراد ونماذج ثقافية، ويجد قلقهم رائعا في عمقه. تريسلوفي شخصية من صميم اهتمامات الكاتب، ذلك انه كسواه يهجس بمفهوم اليهودية، ويروقه ما يظهره الطقس الديني من رصد للخصومة والخبرة.
ستركّز العناوين الصحافية في العالم الناطق بالانكليزية على الكتّاب الذين قصّروا عن تجاوز عتبة الاستحقاق النصفيّة ناهيك بانعطافها صوب أرجحية تحقيق بيتر كاري ثلاثية “بوكر” من طريق الفوز بالجائزة الأدبية للمرة الثالثة. والحال ان ناشر بيتر كاري “فايبر & فايبر”، قدّم رواية الكاتب الحادية عشرة بوصفها “ارتجالاً على حياة توكفيل”، وتلك شخصية تتراءى شديدة العقلانية ازاء فهرست الكاتب التخييلية وهو محترف المحاكاة التهكميّة في الأدب والتاريخ. غير ان روايته “باروت واوليفيه يقصدان اميركا” تحكم السطوة على الموضوع وتدفع بالقارئ الى التصفيق، فيما يحرّكه شيء من الغيظ ايضا، وتلك لازمة شبه عامة عند الاحتكاك بهذا الروائي الحيوي. في السادسة والستين يقف الأوسترالي كاري في ضوء التجريب فيجيء برواية مغامرات مسليّة تصلح رواية افكار من حيث وحدتها وضوضائها. العمل الجديد الملحق بالقائمة القصيرة، تنويع على عمل توكفيل بمجلدين، “الديموقراطية في اميركا”. غير ان هدف كاري ليس اعادة كتابة توكفيل وانما التعامل مع الحوادث المحيطة بالحبكة كمادة لرواية. العمل متخم بالمشاعر المحكية وإن تكن متكلّفة في سياق الشغف الحقيقي. تسرد الحكاية من طريق صوتي الشخصيتين الرئيسيتين البديلتين، ويصعب تاليا تحديد مكان تركّز العاطفة في المحصلة. هناك توكفيل اوليفيه جان باتيست دو كلاريل دو بارفلور دو غارمون، ورفيقه وحاميه جون “باروت” لاريت الرسام الانكليزي المهتم بالطيور والموهوب لمحاكاة الآخرين. يتناوب رب العمل والخادم على الدفع بالسرد قدما، فيما يلقى القارئ بين الارتقاء والتواضع، وهو روتين تخريبي عظيم دأب عليه كاري.
تبيّن اندريا ليفي موهبة في تحريك الجماهير وكمش العمل على عمود فقري واضح واختيار التوقيت الفكاهي. يروقها ان تشرف على الفوضى، وتضمّن روايتها “الاغنية المديدة” السائرة الى ذروة “بوكر” 2010 ايضا، مشاهد عدة من صفوة الكوميديا في جامايكا. لأنها تدرك ان ليس ثمة أسلوب اكثر كشفا للجديّة من الفكاهة، حيّدت ليفي “الأغنية المديدة” من الشواطئ البريطانية وألقتها في مطلع القرن التاسع عشر في جامايكا في مزرعة لقصب السكر، في الاعوام المضطربة السابقة والتالية مباشرةً لإبطال العبودية. تتّخذ الرواية شكل مذكرات كتبتها عجوز تتحدر من جامايكا تدعى جولاي كانت من الرق في ما مضى، تخلّت عن ابنها عند عتبة منزل احد القساوسة. صار ولدها توماس عامل طباعة، تعلّم حرفته في بريطانيا، ولم يلبث ان أعلن نيته اصدار عمل والدته الذاتي المكتمل من طريق صورة قصب السكر على الغلاف. غير انه ووالدته لن يلتقيا، وهنا المفارقة. تؤتمن جولاي على افكار الخاصة في ما يخص الأسلوب الكتابي وتتحفظ عن المساومة على وصفها للشجر والعشب. تؤكّد ان مذكّراتها لن تجاور المجلدات المزنّرة بالخيوط الذهبية والمحشوة بـ”وسادات سيدة من العرق الأبيض ولغو ذهنها”. العبودية موضوع كئيب بلا ريب، غير ان عجب كتابة ليفي في قدرتها على التصدي لأمور مماثلة واستنباط ترفيه يثابر على الرغبة في الحياة.
من شأن موعد الثاني عشر من تشرين الاول 2010 اللندني، ان يكون كفيلا فصل قمح عناوين قائمة “بوكر” القصيرة عن الزؤان، والى ذاك الحين فإن الترقب مؤتمن على شحذ صبرنا وفضولنا الأدبي.
مقتطفات: الحجرة
بتُّ اليوم خمسة. كنت اربعة فحسب عندما استسلمت للنعاس مرتديا ثياب النوم، غير اني تبدّلت الى خمسة في لحظة استيقظت ووجدت نفسي في السرير. ابراكادابرا… قبلذاك كنت ثلاثة وفي السابق اثنين وواحداً فصفراً. “فهل كنت في الماضي ارقاما سلبية ايضا؟”.
– تساءلت والدتي: “عذرا ماذا تقول؟”.
“عندما سكنتُ السماء، هل كنت رقما ناقصا، اي اقل من صفر، او كنت ناقصاً اثنين او ناقصأ ثلاثة؟”.
– “كلا، لم تبدأ الارقام سوى عندما رأيت النور”.
– “عبر وميض السماء. كنت مغرقة في الكآبة الى حين حللت في بطنك”.
– “انت محقّ تماما”.
تتسلل الوالدة خارج السرير لإضاءة النور، فيشرق كل شيء حولنا الاثنين.
أسدلت عينيّ في الوقت المناسب، ثم فتحت احداهما ثم الاثنتين معا.
راحت تخبرني: “بكيتُ الى حين نبضت دموعي”، لتردف: “استلقيت هنا احصي الثواني”.
– “كم ثانية تحديدا؟”.
– “ملايين وملايين الثواني”.
– “أرغب في معرفة عددها الدقيق”.
اجابت والدتي: “تهت في الحساب”.
– “بعدذاك رحتِ تتمنين وتتمنين وانت تغمرين بيضتك الى حين زاد وزنك”.
علّقت ابتسامة عريضة على وجهها وأجابت: “كان في وسعي ان أحسّ بك وانت تركل”.
– “ماذا كنت اركل؟”.
– “كنت تركلني بلا ريب”.
ينتابني الضحك عندما استعيد هذا الجزء.
اخبرتني: “كنت اسمع قرعا يصدر من الجوف”، قبل ان ترفع والدتي قميص النوم وتجعل بطنها يثب: “فكرت، ان جاك في طريقه الى هنا. في الصباح المبكر، خرجت من احشائي الى السجادة وكانت عيناك مشرعتين”.
•••
في غرفة غريبة
جرى الأمر على هذا النحو. خرج في الظهيرة سالكا دربا دلّه احدهم اليه ولم يلبث ان غادر البلدة الصغيرة. وجد نفسه خلال ما يناهز الساعة في وسط التلال الخفيضة المكسوّة بشجر الزيتون والصخور الرمادية، حيث يمكن لحظ الطبيعة تنحدر الى مستوى البحر. شعر في برهة بسعادة تغمره، وهذا امر اعتاده خلال انصرافه للتنزه وحيدا.
ترتفع الطريق وتنخفض وثمة لحظات حيث يمكنك ان ترى الطبيعة امامك والى مسافة بعيدة في حين ولا يسعك في اخرى ان ترى اي شيء. يواظب على البحث عن آخرين، غير ان المشهد العام الشاسع يتراءى مقفرا تماما. ذلك ان الاشارة الوحيدة على وجود كائنات حية يتلخص بمنزل صغير وناء، ناهيك بوجود الطريق عينها.
ثم وعند نقطة محددة، وفيما يدنو من قمة احدى التلال، يعي حضور وجه في مكان بعيد جدا. يمكن ان يكون لامرأة او لرجل، يمكن ان يكون صاحبه من جميع الاعمار يسافر في وجهة محددة او في جميع الوجهات، صوبه او بعيدا منه. ظل يركّز نظره الى حين تلاشت الطريق من امامه، وعندما وصل الى ذروة التلة التالية صار الوجه اكثر وضوحا، رآه يقترب منه. الان صار الواحد يراقب الاخر في حين يتظاهران بالعكس.
•••
سي
يشبه الثابت صوت التفكير. ليس صوت تفكير فرد او مجموعة اشخاص. انه أمر يتخطى هذا حتى، انه اوسع وأكثر مباشرة، يشابه صوت الفكرة عينها. انه همهمة وجريان ايضا. في كل ليلة، عندما يزورها على نحو مفاجئ، تتقلص محدثة جلبة، ثم تتدحرج متراجعة على شاكلة امواج تصدر خشخشة. تأخذه بعيدا الى حين تحظى اصبعه التي يوخزها تكرار الضغط على قرص الهاتف، ببعض الحرية. التمددات البكر حانقة وشاكية وكئيبة وخرساء دوما. لا تصله اولى امارات تكوّن الكلمات سوى عندما يتنشق تمدّد ذبذبة الهواء وهو مقوّس فوق جهاز قياس فرق الجهد. يدوّن اولاً وبالرصاص الاسود العلامات من قبيل السطور المستقيمة اي السطور المديدة والمختزلة، ثم يبدأ نسخ الحروف المجعدة والباهتة والخشنة. ثم يركّز ساريتين. هناك شجرة صنوبر بطول اثنتين وعشرين قدما تعلوها خمس عشرة قدما من الخيزران، وضّبت فوق قاعدة من السنديان في الحديقة الفيسفسائية.
•••
الأغنية المديدة
ولد الكتاب بين يديكم من توق. كان في حوزة أمي قصة اثقلت صدرها الى حين شعرت بأنها مجبرة على ان تُمِرّها اليَّ، انا ابنها، مدفوعة بقوة اعظم من ارادتها الذاتية. كانت نيّتها انذاك ان أُمِرّها في وقت معين الى بناتي في دوري، عندما أطّلع عليها. على هذا النحو تستمر القصة في الحياة من طريق الوراثة. لن تندثر الحكاية تاليا، وربما استطاعت من خلال تكرار تلاوتها ان تكسب سطوة تجعلها تنافس الأساطير التي تحكى خلال الاشارة الى البورتريهات او التماثيل النصفية التي ضمّها كل منزل راق في جزيرة جامايكا.
كان هذا طموحاً ليلائم عجوزاً نبيلة عاشت اعواماً عدة في ظروف عصيبة. تستحق هذه الأمنية الإحترام.
لسوء طالع والدتي، مررت قصتها لي في فترة انهماك شديد. في الواقع، لم تكلّ هذه السيدة الرقيقة عن البحث عني في الصباح المبكر، وفي عزّ قيظ الظهيرة وفي المساء المتأخر حتى. راحت تلاحقني في ارجاء المنزل وانا ارتدي ثيابي او أغسلها وانا انتظر تسليم وجبة طعام وعندما كنت اقذف الطبق بعيدا بعدما فرغت من التهام محتواه، وخلال انشغالي بتبادل اطراف الحديث مع زوجتي، وفي مكان العمل حتى في حين كان ينتظرني رجال عدة، يتحرّقون لأمدّهم بالتعليمات.
•••
مسألة فينكلير
كان عليه ان يترقّب حدوث ذلك. انطوت حياته الى اللحظة على مأساة تلو أخرى، كان عليه اذاً ان يستعد لواحدة اضافية.
كان من صنف رجال استطاعوا استشراف الآتي. لم ينحصر اهتمامه في التوقّعات الضبابية التي انبثقت قبل الإخلاد الى النوم وبعده، وانما شملت وفي وضح النهار الأخطار الحقيقية والراهنة. ظهرت أعمدة الإنارة والشجر فجأة وباغتته، في حين فقد سائقو السيارات المستعجلة السيطرة لتبلغ المركبات الأرصفة وتتركه ملقى في وسط كومة من القماش الممزق والعظام المهشمة. كانت الاغراض القاسية تسقط من السقالات وتخدش جمجمته، في حين بانت النساء اسوأ الكائنات. عندما اجتازت سيدة جميلة طريق جوليان تريسلوفي، لم تستحوذ على قوته الجسدية وانما العقلية. ذلك انها سحقت هدوءه. من الصائب انه لم يكن يتمتع بالسكون، غير ان المرأة بددت اي احتمال لهدوء مستقبلي. كانت هي المستقبل.
والحال ان الناس الذين يستشرفون المستقبل يعانون اضطرابا في التراتبية الزمنية، علماً انها الاهم. كانت ساعات تريسلوفي خاطئة تماما. ما إن رأى تلك السيدة حتى شعر بتبعات ظهورها. شاهد نفسه يطلبها للزواج وهي توافق. رأى المنزل الذي يحتمل ان يشيّداه ناهيك بالستائر الحرير البنفسجية الفاتحة والملاءات المنتفخة كالغيوم والدخان المنبعث من المدفأة. رأى سعادته ومستقبله يُسحقان فوق رأسه في لحظة تتجاوزه. لم تهجره بسبب رجل آخر او تخبره انها سئمت منه او من حياتهما المشتركة، غابت في حلم الحب التراجيدي المثالي، بعدما ملأت الدموع خديها ولم تتريث في وداعه مستخدمة جملا استدانتها من الاعمال الاوبرالية الايطالية الشعبية.
•••
باروت وأوليفيه يقصدان اميركا
لم اشكك في حدوث امر فظيع وكارثي قبل ولادتي. غير ان والديَّ الكونت والكونتيسة لم يطلعاني عليه. بنتيجة ذلك كان العضو المسؤول عن الحشرية في جسمي سريع التأثر. كنت شاحباً اواظب التسلّق فأجوب كل عليّة وقبّة في قصر بارفلور. نشأت على هذا النحو لأصير اكثر الكائنات مرضيّة. لكن اتمنى عليكم ان تنتبهوا الى امر محدد: نظرا الى عمق بحوثي، ألم يكن من الغريب الا اكون وجدت درّاجة عمي الهوائية؟
ربما علم الجميع من افراد أسرتي بوجود الدراجة، غير انها شكّلت بالنسبة إليَّ لغزا تاما على نسق اي شيء آخر. لم تظهر الدراجة الخرقاء الخشبية التي صمّمها عمي اسلتولف دو بارفلور، إلاّ عندما لمحها احد بنّائي السقوف مربوطة بعارضة خشبية. لماذا كان عليهم ان يتركوها موثقة؟ لا أدري، ولا يسعني ان أتصور لماذا استخدم عمي، واظنّه هو الفاعل، طوقين جلديين مخصصين للكلاب لإنجاز المهمة. اتصوّر حدوث المآسي على نحو فطري، فلم ألبث ان تصورت نفق حيوانين أليفين قبل فترة، في حين بيّنت الحقيقة ان الطوقين الجلديين كانا الوحيدين المتوافرين آنذاك.
ترجمة ر. ر.
(عن الانكليزية)
النهار