رجل في رصيده.. حرية
رزان زيتونة
إلى السيدة أمية العبد الله..
يقولون أنه الثمن الذي لا بد أن يدفعه صاحب قضية أو إيمان أو مبدأ..وسبق أن قالوا، للحرية ثمنها الذي قد يصل لون القاني..والآن في مقابل حيرتي هذه، سيقولون لا بد من تضحيات قد تطال الغالي والرخيص.. ومع ذلك، لا تفارقني الدهشة أبدا لدى المقارنة بين فداحة الأثمان وبساطة وبديهية ما تدفع في سبيله في أحيان كثيرة. فالقائلين بنظرية الأثمان لا بد يعلمون أن عملية “التسعير” تخضع لمعايير عديدة يقتضي عدم الأخذ بها أن يطلق على السعر أحيانا صفة “الفحش”.
وهكذا فإن إصرار غاليليو منذ قرون على أن الأرض تدور، لم يكن بالأمر البسيط والبديهي، وكان من الطبيعي أن يدفع نقدا حسابه إلى محكمة التفتيش وبأبهظ الأثمان، لولا أن “تعقل” وتراجع. لكن الثمن كان لابد سيختلف لو أن غاليليو وقف أمام القضاء الآن بتهمة نشر الأخبار الكاذبة للسبب نفسه. ولو أنه تقدم بجميع الوثائق العلمية التي أصبحت تعتبر دوران الأرض من البديهيات منذ زمن بعيد، لكن القاضي تجهم في وجهه، وقال له، أن دوران الأرض يصيب شعبنا بالدوار وقلة التركيز وبالتالي يوهن من نفسيته.
وليس في الأمر شيء من سخرية، هذا واقع الحال وأكثر. ومعظم الاعتقالات التي تطال أصحاب الرأي في العقد الأخير، لم تأت على خلفية اكتشاف وإعلان حقيقة صادمة لم يصل إليها قبل صاحبها أحد، ولم تأت على خلفية ثورة خضراء أو برتقالية، بل هي في معظمها ثمن كلمات نطقت أو كتبت من وحي الأمل بأن نقصَ حكاية غاليليو غدا وعلى وجوهنا إمارات التعجب والاستنكار من غباء وتعنت العقل البشري – أو اللاعقل- في بعض مراحله.
ومع أنها تدور منذ الأزل، يبدو لفداحة الثمن الذي يدفعه صاحب الكلمة اليوم أنها توقفت به ومعها كل أمل أو حلم أو قبس من حياة. وبدلا من أن تتابع حركتها حول مدارها المعتاد، ترتد إلى الخلف، وليشنق غاليلو نفسه. فيعاد اعتقال الكاتب والناشط علي العبد الله بعد سنتين ونصف من الاعتقال بحجة تصريح صحفي وبضعة كلمات. ويتزامن نقل زوجته المريضة إلى العناية المشددة منذ أيام، مع صدور قرار الاتهام بحقه والقاضي باعتبار “جرمه” الكلامي جنائي الوصف. ولتبدأ رحلة جديدة من المعاناة والألم ودفع الأثمان بالجملة على صعيد العائلة بأكملها، هذا من غير أن ننسى الابن عمر العبد الله القابع في سجن صيدنايا العسكري منذ أكثر من أربع سنوات.
ويخيل إلي أن زوجة علي التي لما تفق بعد من مرضها، أدخلت نفسها في غيبوبة قسرية، لأن ما حصل مع العائلة بالمجمل خلال السنوات القليلة الماضية من اعتقال ثلاثة أفراد فيها على فترات تزامنت حينا واختلفت حينا آخر، وتوج أخيرا بإعادة اعتقال الأب عشية الإفراج عنه، لا يمكن التعامل معه إلا في عالم هو ما بين الحقيقة والخيال، ما بين الحياة والموت. ولأنه بالهذيان تحت وقع المخدر فقط، يمكن صياغة نظرية ملائمة حول الأثمان و”القضايا”. ولأن رصيد الأمل كاد ينفذ بعد استهلاك حتى الجوفي منه. لكن بالدرجة الأولى وقبل كل شيء، لأنها ربما لاحظت أن أرضنا لا تدور إلا كالمطحنة بحق الكلمات وأصحابها، وإن بقيت الكلمات وما وراءها من مواقف ومبادئ، فإنها لا تغني عن لحمها ودمها وأحلامها، عن أصحابها، حين لا يفصل بينها وبينهم إلا ممحاة عملاقة تكره الأحرف وتشكيلاتها.
وكأن كل الأثمان الممكنة دفعت مسبقا لبضاعة لم يعد يشتريها أحد إلا الحالمين والراحلين في غيبوبة. ومع ذلك علي العبد الله لا يستنفذ رصيده أبدا، وكأنه اهتدى إلى نبع سحري يغرف منه فيعيد ويزيد بعناد لم يعرفه حتى غاليليو، لكنها تدور. نعم إنها كذلك..هل أقول للأسف؟!