احمدي نجاد في لبنان: هل ينطبق الحافر على الحافر؟
صبحي حديدي
أن يقوم الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بزيارة رسمية إلى لبنان، أمر مشروع تماماً، وطبيعي، وبالغ الإنسجام مع حال العلاقات اللبنانية ـ الإيرانية الراهنة؛ ولا يجادل فيه، أو يساجل ضدّه، إلا أمثال الناطق باسم البيت الأبيض، وهذا أو ذاك من ساسة إسرائيل. وأن ترتدي الزيارة صفة استفزازية لهؤلاء، فهذا ردّ فعل طبيعي بدوره، ولا ينبغي لعاقل أن ينتظر سواه منهم، خاصة حين يقف أحمدي نجاد على مبعدة أمتار من حدود إسرائيل، الدولة التي يطالب الرجل بمحوها عن الخريطة. وأخيراً، كيف لا يكون طبيعياً تماماً أن تستقبله جماهير ‘حزب الله’، والغالبية الساحقة من شيعة لبنان، بأقصى الحفاوة والاحتفال؛ وكيف لعاقل، هنا أيضاً، أن ينتظر أشكال احتفاء أقلّ إعراباً عن الإمتنان، والإرتباط، أو حتى الولاء؟
طبيعي تماماً، كذلك، أن يحاذر فريق من اللبنانيين، وأن يحذّروا، من احتمالات انقلاب الزيارة إلى ما لا يُراد منها في الأصل، كأن تصبح عنصراً إضافياً في استقواء فريق على آخر؛ أو أن تسير إيران على منوال النظام السوري في جعل لبنان ساحة مواجهة عسكرية وحيدة مع إسرائيل، حين تكون المدافع خرساء تماماً على جبهة الجولان. ولا ينبغي لهذا الفريق اللبناني أن يُلام إذا اعتبر أنّ أفضل ما يمكن أن تقدّمه إيران إلى لبنان هو محاولة إقناع المقاومة اللبنانية الإسلامية بـ’الدخول في كنف الدولة’، كما جاء في الرسالة المفتوحة التي وجهها إلى أحمدي نجاد نحو 250 سياسياً وناشطاً وإعلامياً ومهنياً لبنانياً.
في المقابل، ما يجافي الطبيعة ويناقض الطبائع، كما لامرىء أن يساجل، هو هذا الإفراط الشديد في تلميع صورة أحمدي نجاد، وتضخيم سجاياه القيادية، ورفع خصاله الشخصية إلى سوية رفيعة (السند العظيم للمقاومين والمجاهدين والمظلومين)، بدا أنّ الرجل نفسه قد بوغت بها. ويصبح الأمر إشكالياً تماماً، مثيراً للعجب، أشدّ وطأة، وأبعد مغزى حين يتولى التلميع قائد المقاومة الإسلامية نفسه، السيد حسن نصر الله، الأمين العام لـ’حزب الله’، كما في قوله: ‘نشمّ بك يا سيادة الرئيس رائحة الإمام الخميني المقدس، ونتلمس فيك أنفاس قائدنا الخامنئي الحكيم، ونرى في وجهك وجوه كلّ الإيرانيين الشرفاء من أبناء شعبك العظيم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه في كلّ الساحات، ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا’.
ولا ريب أنّ العديد من الإيرانيين، وخاصة أولئك الذين لم يصوّتوا لاحمدي نجاد في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة، لا يذهبون مذهب السيد في هذا التفخيم للرجل، ثمّ في الجزم بأنّ وجهه يمثّل كلّ شرفاء إيران. وللمرء أن لا يكون واثقاً تماماً من أنّ العديد من آيات الله في إيران سوف يقبلون من السيد شمّ رائحة الخميني أو تلمّس أنفاس خامنئي في أحمدي نجاد.
هي مناسبة، إذاً، لاستذكار بعض الخصال الأخرى التي تُلصق عادة بشخص أحمدي نجاد، والتي لا تتماشى البتة مع الهالات المدهشة التي أسبغها عليه الأمين العام لـ’حزب الله’، لأنها تسير على النقيض تماماً. في رأس النقائض تأتي قيادة أحمدي نجاد لتيار عريض في السلطة الإيرانية، يمكن ـ دون كبير حذلقة، ودون كبير عناء أيضاً ـ اعتباره فريق ‘المحافظين الجدد’ الإيرانيين؛ الأمر الذي يبرر، استطراداً، مناقشة احتمالات انحطاط نفوذ ‘المحافظين القدماء’، أو انكسار شوكتهم على نحو لا علاج له إلا بولادة جيل جديد من المحافظين شاكي السلاح.
وإذا صحّ أنّ هذه الولادة سياسية، وليست عقائدية فحسب، فإنّ الخلاصة اللاحقة ينبغي أن تشير إلى اندحار (وربما محاق!) التيارات الإصلاحية، في مختلف أجهزة ومؤسسات الثورة الإسلامية بأسرها. وفي ظلّ السياقات الإقليمية والدولية الراهنة تحديداً، بصدد ملفّ المنشآت النووية الإيرانية، ومستقبل النفوذ الإيراني في العراق بعد إعادة إنتشار قوّات الإحتلال التركية، وتعاظم أدوار الدبلوماسية التركية المقترن باختلاط التحالفات الإقليمية في المنطقة… أيّ دلالات كبرى يمكن إغفالها في تحليل آثار تلك الولادة، وعواقبها المتعددة ذات الإنبساط الجغرافي العريض؟
صعود تيّار أحمدي نجاد، والمحافظين الجدد الإيرانيين إجمالاً، ليس بشرى سارّة للشعب الإيراني، ولا لأيّ من شعوب المنطقة في الواقع، لكي لا يضيف المرء أنها نذير وبال كفيل بردّ البلد عشر سنوات إلى الوراء، أي إلى ما قبل رئاسة محمد خاتمي الأولى، 1997، حين لاح أنّ التيّارات الإصلاحية توشك على إحراز تقدّم. وأكثر من هذا، تبدو هذه الولادة وكأنها ‘إصلاح معكوس’، إذا جاز القول، يرتدّ على قسط كبير مما أنجزته الثورة الإسلامية لصالح المواطن الإيراني، وكان متقدّماً تماماً بالقياس إلى العهود الشاهنشاهية.
وبصرف النظر عن مظانّ المرء إزاء الديمقراطية الإيرانية الراهنة، وفي ظلّ استمرار العمل بنظام ولاية الفقيه على وجه الخصوص، فإنّ ما يستوجب ولادة تيّار أشدّ محافظة هو هذا بالذات: أنّ الديمقراطية الإيرانية الراهنة يمكن أن تضع شرائح عريضة من الشارع الإيراني في موقع المعارضة للقسط الأعظم من ثوابت المجموعة الحاكمة، على اختلاف أجنداتها، في مسائل السياسة الداخلية والحقوق والحريات والعقيدة، كما في مسائل السياسة الخارجية وموقع إيران الدولة وإيران الثورة الإسلامية.
والمرء يتذكر أنّ استقالة علي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني ومسؤول الملف النووي، واستبداله بالدبلوماسي الشاب سعيد جليلي، نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون الأوروبية والأمريكية، كانت الجزء الظاهر من جبل الجليد الغائص عميقاً في لجة اصطراع التيارات داخل هرم السلطة في طهران. وليس المراقب للشأن الإيراني بحاجة إلى قرار دراماتيكي من أحمدي نجاد، في قطع زيارته إلى أرمينيا والعودة على عجل إلى طهران؛ أو إلى الرسالة، الدراماتيكية بدورها، التي وجهها 180 نائباً في البرلمان الايراني إلى علي خامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، للإشادة بفضائل لاريجاني وما حقّق من إنجازات في منصبه السابق… لكي يدرك طبيعة هذا الطور من الإصطراع في القمّة.
وبمعزل عن حقيقة أنّ جليلي محض استطالة سياسية وعقائدية وإدارية لسيّده الرئيس الإيراني، وأحد أبرز رجاله في أداء المهامّ الخاصة للغاية (مثل السفر إلى هافانا خصيصاً، لهداية الرئيس الكوبي فيديل كاسترو إلى الإسلام، كما نقلت وكالة أنباء ‘فاردا’ في أواخر 2005!)، فإنّ تعيين جليلي في منصب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني بدا غريباً في جانب واحد جوهري على الأقلّ، هو مخالفته للدستور! ذلك لأنّ العرف الدستوري يقتضي أن يكون الأمين عضواً سابقاً في المجلس، الذي لا يشغله سوى أصحاب المناصب التالية: رئيس أركان القوّات المسلحة ممثلاً عن المرشد الأعلى، رئيس جهاز التخطيط والموازنة، وزير الخارجية، وزير الداخلية، ووزير الأمن؛ كما يمكن لبعض قادة ‘الحرس الثوري’ وبعض الوزراء أن يشاركوا في اجتماعات محددة ذات طابع خاصّ، بناء على دعوة المجلس.
وأن يبلغ المحافظون الجدد في إيران مرحلة الضيق برجل مثل لاريجاني، واعتباره ‘ليبرالياً’ أو ‘غربياً’ أو حتى ‘إصلاحياً’، ثمّ استبداله برجل هو إمّعة الرئيس لا أكثر، أمر يؤشر على مقدار الاحتقان الذي بات يعصف بالنظام في تركيبته الراهنة. وما يزيد الطين بلّة أنّ خامنئي لا يكترث كثيراً بإجراءات تصبّ في صالح سلطاته عاجلاً وآجلاً، على قدم المساواة، ولا تمسّ خلصاء رجاله بقدر ما تتيح الفرصة لإحالتهم إلى التقاعد واستبدالهم بالأشدّ إخلاصاً! وفي الأن ذاته، ثمة بين رجالاته ـ وغير رجالاته، في الواقع ـ مَنْ لا يوفّر أحمدي نجاد، ويكيل له النقد اللاذع جهاراً، على سبيل الوعيد تارة، أو حفظ هامش المرشد الأعلى عن الرئيس طوراً (أبرز الأمثلة تصريحات اللواء محسن رضائي، أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام، الناقدة بشدّة لأسلوب أحمدي نجاد في إدارة الملفّ الإيراني؛ وكذلك مواقف حسن روحاني، كبير المفاوضين في الملفّ النووي، خلال رئاسة خاتمي؛ وحسين موسوي، الرئيس الأسبق للجنة الشؤون الخارجية في المجلس الأعلى للأمن القومي؛ فضلاً عن آية الله منتظري، أحد كبار صانعي الثورة الإسلامية؛ وعلي أكبر ولايتي، وزير الخارجية الشهير الأسبق… ومن المشروع أن يرى المرء في هؤلاء أوّل المعترضين على التقريظ الإستثنائي الذي أسبغه حسن نصر الله على أحمدي نجاد).
ومن المعروف أنّ رئاسة أحمدي نجاد الاولى شهدت هزيمة منافسه المحافظ والرئيس الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني في جولة ثانية بنسبة 62’، وأنّ نسبة المشاركة بلغت 60’، ممّا دلّ على أنّ الإصلاحيين قاطعوا الإنتخابات عملياً. وهكذا انتقل مركز القوّة من المجموعة الدينية ـ البيروقراطية المحافظة التي مثّلها آيات الله التلقيديون، ممّن خلفوا الإمام الخميني في مختلف مراكز القرار، إلى المجموعة الدينية ـ العسكرية المتشددة كما يمثلها تحالف الجيل الثاني من آيات الله (آية الله مصباح يزدي بصفة خاصة)، والحرس الجمهوري، وأجهزة الإستخبارات المعروفة باسم الـ’باسجي’.
وليس مدهشاً أن يكون الإحتلال الأمريكي للعراق، وسياسات الولايات المتحدة والدولة العبرية إجمالاً، بين أفضل العوامل المساعدة على ترسيخ جاذبية خطاب أحمدي نجاد، الشعبوي التحريضي المحافظ أو المحافظ الجديد، في ناظر الشارع الإيراني العريض. وليست بعيدة في الزمن تلك البرهة التي شهدت اندلاع تظاهرات طلابية ضخمة في شوارع طهران، تطالب باستقالة خامنئي وخاتمي معاً؛ وإعلان مجموعة مؤلفة من 248 شخصية إصلاحية بأنّ ‘وضع أشخاص في موضع السلطة المطلقة والألوهية هو هرطقة واضحة تجاه الله، وتحدّ واضح لكرامة الإنسان’، في إشارة عدائية لمبدأ ولاية الفقيه، كانت النقد الأوضح والأكثر جرأة منذ انتصار الثورة الاسلامية.
وفي هذا السياق ليس من المؤكد أنّ إعلان نصر الله الافتخار باعتناق مبدأ ولاية الفقيه، والنصّ صراحة على ‘إيماننا العميق بولاية الفقيه العادل والحكيم والشجاع’، سوف يهبط برداً وسلاماً على ضمائر الإصلاحيين الإيرانيين، أو سيكون عوناً لهم في طراز آخر من المقاومة الشريفة، يخصّ إعادة بناء الشخصية الوطنية الإيرانية، وحيازة الحدّ الأدنى من الحريات التي سبق للمواطن الإيراني أن حظي بها في السنوات الأولى للثورة الإسلامية.
وغنيّ عن القول، أخيراً، إنّ نفي نصر الله وجود أيّ ‘مشروع إيراني’ في المنطقة، لا يجافي الطبيعة وطبائع العلاقات الدولية فحسب، بل يجافي منطق السياسة الأبسط على الإطلاق. ومع الإقرار بأنّ المشاريع الإيرانية قد تتطابق، فعلاً، مرحلياً، على هذا النحو أو ذاك، مع مشاريع ‘حزب الله’ أو ‘حماس’ أو النظام السوري أو حكومة المالكي في العراق… إلا أنها لن تبلغ مستوى انطباق الحافر على الحافر في المصالح، فكيف إذا وقع التنافر بين ولاء وآخر، بين الوطن والفقيه!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –