صفحات ثقافية

الإيرلندي سيموس هيني يصدر ديوان “السلسلة البشرية” بالانكليزية

null
الشاعر الطفل ملكاً دخيلاً يترنّح على كرسي هزّاز
تنبسط على مدّ النظر كليشيهات الكاتب، سالب اضواء المجد في نسخة مدينة دبلن. في وسعه ان يكون مجنونا وهائلا على نسق ييتس، او غامضا على شاكلة بيكيت، او ضائعا في غمامة الخمور على غرار فلان اوبراين، او غائبا بنمط جويس، وفي وسعنا المضي في التصنيفات الى ابعد. قبل اعوام عدة، ألصق كلايف جيمس بالشاعر الايرلندي سيموس هيني صفة “سيموس الشهير”، غير ان الامر لم يتعدّ الدعابة السمجة، وفي الحد الأسخى نصف حقيقة لا ترتقي الى تغطية تصوّر هيني التام لنفسه. في قرارة ذاك الشاعر ما يفيض على الانتشار، بغض النظر عن سلطة التوزّع وفضائله.
هيني هو محطّ تمحّص وبإصرار عنيد منذ سنوات، غير انه لا يزال ما يشابه اللغز على رغم جهده ليجعل “الشهير” يتراءى عاديا. في مقدور ذاك الوجه الدائم اللباقة والانتباه والابتسامة، ان ينتقل الى ضفة الجدّية والانحباس العاطفي، وان يحترف تأمل دواخله في لعبة فطرية، لكأنه ملك يترنّح على كرسي هزّاز. انه الرجل عينه الذي نشر قصائده الاولى متدثرةً بشخصية “انسورتوس”، المرادف اللاتيني لـ”غير المؤكّد”. اراد لنا ان نتفهم تردّده في الإفصاح، ان نعود الى نشأته في احدى المزارع حيث لم تحتسب سوى الموهبة في تحريك سيف او محراث، فأي مكان يبقى للقلم؟ فضلاً عن مواجهة هيني اشكاليّة ان يكون المرء كاثوليكيا في ايرلندا الشمالية ذات الغالبية البروتستانتية. على انصراف الاعوام وقدوم الاحتفاء، تأقلمت روح هيني الخفرة مع سموّها لتبلغ حلقة الشعراء القابضين على تسبيح كان من رذاذه نوبل للآداب. لم يعِ هيني سوى الآن، في هذه السنّ المتهالكة انه قنص جائزة الآداب السامية. خلال الوقت المستقطع المنصرم، غاص تحت سقف الامتياز- المرجع متغاضياً عن وجودها حتى.
بعدما تجاوز عتبة الشيخوخة واطبق على عامه السبعين، وعى الشاعر الايرلندي استسلامه حتى الساعة لإيقاع إغلاقي جعله يقبع في مساحة علبة، فحاول المستحيل ليكسر جدرانها متمماً رزمة قصائد تنقلب على وضعه وترثيه، حتى ارتأى ان يسمّيها “السلسلة البشرية”، اصدرها لدى دار “فرار، شتراوس & جيرو”. ليس في حوزة سيموس هيني انفلات جنوني. جلّ ما تملكه قصيدته استقاء وحي سرّي من احد ألغاز الأدب الكلاسيكي، وتحديدا من شخصية ريغينالد دجيفز التخييليّة. كان ليرغب فعلاً في ان يندسّ تحت مسام ذاك الرجل مستخدم بيرتي ووستر في قصص الانكليزي بي دجي ودهاوس القصيرة ورواياته، كمحاولة لفك رموز لغز حياته شاعراً.
في المجموعة الأحدث “السلسلة البشرية”، يعود هيني طفلاً في عالم الحاجيات، تجرّ انتباهه اغراض مألوفة، من قبيل اكياس الفحم، يدلّل عليها على نحو شبه أخرس، ذلك ان القرائن على وجود العادي لا تزال تذهله تماما. تبقى عدسة هيني نظيفة ونضرة ومتمكّنة، تحجّر شخصيات ايرلندا العميقة. في القصائد الاخيرة حيطة وصفيّة ألفناها لديه، تأسر شيئية الأشياء بدقة، الى جوار مقتطفات تنعم بغنائية هائلة على نسق “أغنيات نسكيّة”. اما المجاز الجديد في شأن الثياب المستنفدة فيشدد على فكرة الجسد بوصفه غطاء اضافياً يمكن نزعه بيسر. انه ذروة التجاوز يعبر بنا الى نمط جنائزي يحاور الانفصال والذاكرة كما في نصين جميلين يوجهان الى الرسامة نانسي واين جونز ونظيرها كولين مايديلتون. يمكن عدّ “السلسلة البشرية” كتاب الموتى الخاص بهيني، لحظة يتكوّر على الحزن والفقد. يذكّر المنزل حيث يعود الحيوان في القصيدة الافتتاحية بمقبرة لاذ بها والد هيني في “شحرور غلانمور” من مجموعته “مقاطعة وحلقة” (2006) حيث “سقف من الصلصال الواطئ”، بينما يرى هيني نفسه في مرثيّة المغني ديفيد هاموند عند عتبة منزل صديقه الميت يكتب: “شعرت للمرة الأولى حينذاك وهناك/ اني غريب/ دخيل تقريبا، راغب في الطيران/ بيد اني تيقّنت ان هنا، ليس ثمة خطورة/ هناك انسحاب فحسب، خواء غير مرحِّب/ كما في حظيرة طائرات عند انتصاف الليل”. نعثر كذلك على ملاحظات عادية ومنمنمة منوطة بالتحولات الطبيعية: “ستحمل بشرتك فيما تذبل/ علامات البثرات الرمادية الكئيبة/ وحليب الهندباء الأبيض”، في حين يستوقفنا قوله في القصيدة عينها: “كان الباب مشرّعا والبيت مظلما”. والحال، ان هيني يحظّر على الغائب منّة حياة ثانية في كنف الشعر، وإن يكن برهوية. عوضا من ذلك يتأمّل الصمت اللاحق للموت، وانها لفكرة مذهلة انه ينبغي للصمت ان يطوّر أيضاً ذاتيا حركية باطنية، وان يترحّل قبل ان يتقاعد في الشارع. بينما ترنّ الغرابة فجّة في عاطفتها كردّ فعل على علاقة جديدة تقوم مع السكون، لينفلش السطر الأخير في مكان واعد في هذا السياق “في ميدان طيران متعاظم في اواخر الصيف”.
تمسك بنا ايضا ذكريات حنونة ومبجلة في قصيدة “ألبوم” حيث تأمل لصورة فوتوغرافية قديمة لوالدي هيني، يراهما بعينه الراشدة شخصين آخرين. الإيقاع الشعري ها هنا ساكن ويتملّى التفاصيل وإن فاتته شرارة الألعاب النارية. تفيد ذاكرته المضطربة من الخسارات المتلاحقة، وقد يكون اشدها بعثا للتأثر ربما، تقهقر والده الايل الى موته. تلك قصائد استدعاء لحياة صارت الآن سابقا.
تصدر “السلسة البشرية” في توقيت ملائم، بعدما تجاوز هيني شقعا من الزمن ويوشك على العبور الى سواها في مزاج على قدر من التصوّف، متأهباً لتناول مسألة تقدم الشاعر في السن. يجد في ذاك المعبر فسحة الى مزيد من وعي الذات، فيما يحتفظ بإلزام المواظبة على مفاجأة نفسه. ولأن ليس ثمة طريق مؤكدة ليوضّب المباغتات، يغرق في انفعالات وسطية بين الهجس والشعور السليقي. ليس من حل ثالث مقترح. في الآونة الاخيرة منحه العمر سببا اضافيا ليفكر في المفاجآت الاستشرافية، مدّه بتربيتة كتف، او لنصفها بالمساندة المعنوية وإن جاءت على شكل مقيت.
في آب 2006 تعرّض سيموس هيني في دونيغال لأزمة قلبية دفعها الى مرائب النسيان وتغاضى عن الاشارة اليها علنا. غير ان قصيدة المجموعة الإستهلالية “لو لم اكن يقظا”، تحيي النوبة القلبية استعاريا، وتجيء بإيقاع غير مسبوق من الشكّ والهشاشة، في حين يتم في الأنماط الاستعادية حتى، نفث نماذج سادت في عمل هيني، من مثل التوازن والثبات والمثابرة، ضمن إدراك طارىء لحال اللاثبات. بوصلة القصائد منهكمة بالتواصل والانفصال في آن واحد، ويمكن ايجاد مبررات التركيز على الأمور الختامية في النوبة القلبية- التجربة، وهناك تاليا ابراز لمعرفة مكتسبة حديثا. تتعامل قصيدتا “اعجوبة” و”أغنية المغامرة” مع تبعات المحنة الجسدية المباشرة. تعدّ “اعجوبة” وجه العملة الاول، انها تحية ورعة الى عمال الإغاثة الصحية واعتراف بدور “اولئك الذين عرفوه منذ البدء واصطحبوه معهم”، غير انها ايضا احتفاء موارب بجنود الإغاثة اليوميين المتأهبين لتدجين الوجع وتمتين “السلسلة البشرية”. ابان تلك الرحلة الى المستشفى في ظهيرة يوم احد، يقول هيني انه كان لينجرّ الى اقتباس الشاعر البريطاني جون دوني غير انه لم يكن في وضع مناسب ليقتبس ايا يكن. نبرة القصيدة الغالبة إرجاعية وهادئة لكأنها دوّنت عند نقطة مراقبة في هضبة منخفضة الارتفاع.
تحين في المجموعة عناوين عدة شفوقة ومرحّبة، بيد ان هيني لم يكن يوما من اتباع المواساة المغشوشة. تذكّرنا “شانسون دافانتور” (اي اغنية المغامرة) التي تستعين بالتعبير الفرنسي الأصلي، اشارة الى نوع من شعر القرون الوسطى، بحنان محسود روّضه هيني تكرارا ليحكي زوجته. يروي كيف احتلت “مقعد الممرضة الخاوي في الزاوية” في سيارة الإسعاف وكيف “تحرّكت نظراتهما الخاطفة كخيوط شعاع لايزر”.
هيني شاعر ريفي وتفكيري يتحرّك بلا عناء بين الانسان والتفصيل الطبيعي ليقع على الامثولة في كل حاجة بسيطة. يسخر اسلوبه من شعر متبجّح المقاربة، من طريق الراحة المتواضعة والمعبرة والرفق ايضا. شعر هيني مبهج ربما لكنه غير مُسكر. في انتيغونا، يتولّى العرّاف الضرير تيريزياس دلّ كريون الى اخطاء الطريق. لا يدعي هيني امتلاك سلطة تيريزياس، لكنه ينظر الى الحاسة السادسة فينا جميعا، الى تلك القوة الحدسية التي تتربص بنا. يمنح هيني تيريزياس مهمة التعريف عن اللاواعي والاعتراف به، فيما يطارد افعالنا، وتلك قدرة شعريّة. ألقيت سلطة تيريزياس على الشاعر تاليا، شاء ام أبى، غير انه لم يشعر بثقلها. اقرّ بها من خلال احتوائها، لكأنها حزام أمان، من غير ان يجعلها مادة للافصاح، وتلك من دون شك حجة هيني الأكثر قدرة. يحجم عن دلق الكلمات فيسمح لقصيدته بأن تفعل ما ينبغي لها من دون شطط. في مجموعة “سلسلة بشريّة” المقدامة، يتنافس كل من الاستمرار والهدف على الصدارة. وككل مجموعات هيني، وفي رتل القطع الغنائية، تضيء احداها الأخرى فيما تتضافر بهدف تنويري نهائي.
بدءا من “موت طبيعي” (1966) الى القول الشعري الراهن، تفيّأت حسابات هيني الابتكارية وطوردت وحجّمت احيانا بسبب حقبة الاضطرابات في ايرلندا الشمالية التي حلّت العنصر المحوري في منطق هيني الإيرلندي الكاثوليكي المتحدّر من الشمال. إذا كان ثمة مطرح للمعاناة الأخيرة عند هيني، فيمكن تحديدها في فسحة معينة في تروما إيرلندا الشمالية التاريخية والنفسانيّة. بيد انه اراد لقصائده ان تطوف خارج كل التزام وصلات، وحاول ان يرفع سمة الشك الى جوار الفن وان ينقلها الى غنائية الحياة اليومية، غير انه ينبغي لنا الاعتراف بأنه قصّر عن التجذيف في مياه الضفة الايرلندية الشمالية الدموية. عند انبثاق مرحلة “الاضطرابات” فيها، اقام سيموس هيني في بلفاست حيث اعتاد شراء السمك ورقاقات البطاطا من محل يقع عند طرف منطقة يقطنها الملكيون. في احدى الليالي تعرّفت إليه عاملة لم تكن التقته قبلذاك، فبادرته: “رأيتك في البرنامج التلفزيوني في الأمس. ألست الشاعر الايرلندي؟”. لم يتسنَ لهيني النطق بإجابة عن اكثر التساؤلات المشحونة حنقا في تلك الانحاء، ذلك ان صاحبة المتجر استدارت لتصحّح كلام مستخدمتها: “أنت مخطئة تماما. انه احدنا، مواطن بريطاني يقيم في اولستر”، لتواصل متوجهة الى هيني: “سئمت هذه الحال بلا ريب، ان تضطرّ الى سماع كلام مماثل، ان توصف بالشاعر الايرلندي!”.
عندما يقصّ الحكاية، لا يتناسى الإقرار بجبن أمسك بلسانه فتلكأ عن تصويب الكلام. استعان هيني بأي حيلة كتابيّة ليتفادى الإجابة عن استفهامات مشابهة، غير انه للمفارقة سيعاين ابن جلده دوما. لن تجدي طفراته الموقفيّة للمحافظة على هوية مقطوعة الجذور، ولن تفلح اساليب الهروب الى الامام ايضا.
رلى راشد
أنا المهاجر الداخلي أنفصل عن شخصي الاجتماعي لأعيش في الكينونة الداخلية
في ما يأتي شذرات من مقابلة منحها الشاعر سيموس هيني لمجلة “سيكنوس” الأكاديمية الفرنسية، العدد الخامس عشر بتاريخ آذار 1998. استبقت اسئلة جورج مورغان تأمّلات هيني في سياق مؤتمر بعنوان “ايرلندا- مناف” نظّمه مركز البحث في الكتابات بالإنكليزية في جامعة نيس صوفيا انتيبوليس، حيث حلّ هيني ضيف شرف:
• ماذا يتوارد الى ذهنك عندما تسمع تعبير “منفى”؟
– افكّر في جويس. يمنح جويس هذا الوضع سمة تكاد تكون جبرية بالنسبة الى كل كاتب عندما يتحدّث عن “الصمت والمنفى والمكر”. ثم إذا عدت الى إرثي رجلاً يتحدر من إيرلندا الشمالية، وتحديدا من ديري، فلا مفرّ من ان اتذكّر سانت كولامب الذي نفى نفسه طوعا من ديري الى ايوانا. كان شاعرا وخطّاطا، فضلاً عن كونه قديسا مات في ايوانا بنتيجة وعد مؤذ للذات. لهذا السبب ومنذ بدء التقليد الايرلندي الى نهايته، ثمة مثال مألوف على نفي الذات بهدف تشييد الروح. انه على ما افترض، نشاط موازٍ لنظم الشعر.
• تالياً، هل تعدّ الكتابة نسقاً من انساق المنفى؟
– إذا جرت الأمور خلال فعل الكتابة كما ينبغي لها، يتمّ نقلك الى مسافة بعيدة وتعزل في مكان آخر يمنحك مقاربة ابعادية للشأن العادي. يمكن المرء توسيع معنى “المنفى” ليشمل هذا الحسّ بعدم التآلف او الغرابة إبان الكتابة.
• هل من شأن ذلك ان يقدّم تفسيرا للصور الكثيرة والاحالات في أعمالك على السفر والرحلات؟ اشير على سبيل المثال وليس الحصر الى “جزر تمتطي نفسها وصولا الى خارج الضباب”.
– انا سليل التيار الرومنطيقي اكثر من سواه، لهذا السبب تتجذر فيَّ تماما فكرة القصيدة بوصفها رحلة تخييلية، اراها تأخذني الى مكان آخر. على كل حال، نجد السمة عينها في فكرة الملهمة التي تجعل الشاعر يبلغ طبقة إضافية من كينونته. تحضر في صور توماس رايمير خلال توجهه الى عالم الخرافة. اظن مفهوم الفرار من المرجعية التقليدية وشروط المقاربة المألوفة، امراً فطرياً بالنسبة إلينا جميعا. نجدها عند الشاعر ييتس في مطلع “صولات يوشين” مثلا وتظلّ بعدذاك راسخة في “الإبحار الى الأمبراطورية البيزنطية”. اعتقد انه منظور أساسي. تتورط وتنجرف عندما تخبرك تلك الكلمات بما يجري في لحظة انطلاق الانخطاف الشعري.
• أطلقتَ على نفسك نعت “المهاجر الداخلي”، وهو مصطلح أثار سيلا من النقاشات. ألا تزال تعدّ نفسك على هذا النحو؟
– يحاول المرء قدر المتاح ان يبقى لغزاً ازاء نفسه. عندما يقيم المرء في ايرلندا، اي خارج المنفى، يعيش ككائن اجتماعي ومواطن معروف، واظن ان ثمة خطراً كبيراً عندئذ في أن تسيطر شخصيته الاجتماعية على عفاريته، في حال سمحت لي بالإستعانة بتعبير بهذا الحجم. يحاول المرء تاليا الانتقال الدائم الى مكان آخر. املك لحسن طالعي منزلا صغيرا في ويكلو حيث انزح بالمعنى الحرفي بعيدا من محيط دبلن المألوف. والحال ان ويكلو هو المكان حيث صنفت نفسي للمرة الأولى “مهاجرا داخليا”. منذ العام 1988، وبفضل لطف آن ساديلماير، استطعت شراء الكوخ الصغير فصار “مكان الكتابة الخاص”. عندما تحدّثت عن “المهاجر الداخلي” رغبت في ان أشير الى حال من الكباش الشعري حيث تنفصل عن شخصك الإجتماعي العادي لتدخل على نحو اكثر ابتكارا وانسيابية، في الكينونة الداخلية. اظن من الضروري ان تتخلّص الى حد معين على الاقل، من الشخصية الاجتماعية التي تلازمك في بعض الامكنة. في العشرينات والثلاثينات من القرن المنصرم، حمّل مصطلح “المهاجر الداخلي” معنى محددا. دلّ على احدهم لم يصل الى المنفى عملياً، وانما جعل من منزله مساحة عصيان على النظام. كانت تلك حالي الى حد ما، في ما يخصّ صلتي بإيرلندا الشمالية.
• تُكرّر الحديث عن “المنزل” وعن “الوجود في الوطن”، غير انك عندما تفعل ذلك تكون في حالات كثيرة في الخارج، في مطرح ما في جوتلاند او سواها.
– نعم، هذا صحيح.
• هناك تالياً، مفارقة في جزء كبير من اعمالك. يبرز حسّ المركزية والتجذر، في حين ثمة حراك في الوقت عينه صوب المسافات والغياب والآفاق.
– اوافقك الرأي. قمت اخيرا بتحديد صيغة لهذا الوضع، تصوّرته على شكل موجة. اظن الوعي نقطة انطلاق بدءا من مركز صغير يتوسّع لاحقا. كيف نعرّف عن أنفسنا؟ هل نحن المركز حيث تبدأ الموجة او المحيط الذي يحدّ توسعها؟ أظننا مفاوضةً بين ثورة الوعي الطفولي الأولى ومداولاتنا الشخصية الأخيرة. يروقني ان اعتبر القصيدة قادرة على الوفاء لمتن وعينا الأصلي، والاعتراف في الوقت عينه بدور ما اختبرناه وتقنا اليه او حدسنا به في حياتنا البالغة.
• هذا ما تقصده عندما تتحدث عن مقاربة الأشياء “عند حافة الموت” كما في “الأرض المختفية”؟
– كنت اشير الى ما يجري إبان الأزمات السياسية عندما يعود الناس الى مصادر ورعهم المختلفة. عندما يبزغ التهديد، يصير الناس اكثر بساطة ووضوحا. يسخر التحريفيون وجميع المشككين والمعلّقين من فكرة القومية الإيرلندية مثلا، في حين يعيدون على الأرجح التفكير في موقفهم إذا تعرّضت إيرلندا للاحتلال او التهديد. عند حافة الموت، يعي الناس الأمور النفيسة بالنسبة اليهم. عندما تتراخى الظروف وتصير اكثر سخاء، ينسى الناس الأساسي. أتذكُر ما قاله وليم بلايك؟: “اللعنة تحفّز. اما البركة فتجلب الاسترخاء”.
• ماذا في شأن مسار الكتابة، هل ثمة طقوس تدين اليها؟
لا أتبع اي طقوس. ان احد افضل التعريفات لنمطي ككاتب، هو ما ذكره توم باولين واصفا نفسه بالكاتب المتخم، مثل سكران متخم. أطبّق نوبات التخمة ايضا. برزت النوبات على مرّ الأعوام على شكل مجموعات مكثفة من ثلاثة أشهر. في وسعك ان تنجز نصف كتاب خلال ثلاثة أشهر فيما تصرف العام ونصف العام اللاحقين…
… وأنتَ في حال من السبات؟
– بل في حال من اليأس. لهذا السبب اندفع صوب مهمات مختلفة. انجزت على سبيل المثال للتو ترجمة كتاب وحضرت قبلذاك محاضرات ألقيها في جامعة اوكسفورد. خلال الوقت الفاصل بين قصيدة وسواها تأتيني الانشغالات المشابهة بما يشبه اوهام الأهداف. تجعلني اواظب على التمرين الكتابي وتقنعني بأني املك بعض الحقيقة. في حال اتكّلت على وصول القصائد فحسب، ثمة احتمال بأن استسلم الى اضطراب شديد.
• هل تصل القصائد خلال احدى نويات التخمة تلك بسهولة او بصعوبة؟
– خلال تجربتي تعرّفت الى نوعين من القصائد. ثمة قصائد تجيء بسرعة على نمط انبثاق وهي المثاليّة بالنسبة إليَّ والى القارىء على حدّ سواء. هناك اخرى ادرك محوريتها غير اني اعجز عن كتابتها، اشعر اني اصطدت شيئا بيد انه ينبغي لي ان اسحبه تدريجا. يتملّكني اكتفاء عميق بنتيجة تطرقي الى الموضوع الملائم وامساكي بالنمط والهدف المناسبين. غير ان اخراج القصيدة الى الضوء يتطلّب بعض الوقت. يقترن استمراري في الكتابة بالإحساس بأن القصيدة بلغت حقها البيولوجي في الحياة. لا يسعني الشروع في كتابة موضوع معين من دون الاحساس بحماسة ازاءه، على الرغم من انه يمكن التحكّم بالحماسة من بُعد، إذا وجدت. في حين لا تظهر المناسبة في القصيدة ربما. على سبيل المثال، اوكلت بكتابة قصيدة تتناول جامعة هارفرد لمناسبة العيد الخمسين بعد الثلاثمئة لإنشاء هذا الصرح. في البدء، تساءلت لماذا تورّطت في الكتابة عن هارفرد؟ لا يربطني اي خيط عاطفي بهذا المكان. صدف اني انضممت الى جهازه التعليمي غير ان هذه الحقيقة ليست سوى رابط خارجي. لست اميركياً حتى. غير اني اكتشفت بعدذاك ان جون هارفرد الذي وهب الجامعة اسمه في العام 1636 كان ابن عامل في قطاع تجارة الماشية وجزّارا متحدرا من ستراتفورد اون ايفون، تماما على مثال والد شكسبير، على ما تفيد جميع المصادر. فكّرت ان جون هارفرد نشأ في جوار احد العاملين في قطاع تجارة الماشية. جعلني هذا التفصيل أشعر برابط يشدّني اليه، ذلك ان والدي كان تاجر ماشية هو الآخر، ونشأت في وسط حظائر البقر والغنم. قدم هارفرد لاحقا الى أميركا فأنشئت الكلية الأولى في مكان دُعي “الفناء”، الى جانب حظيرة ماشية. توصّلت على هذا النحو الى حسّ عميق بالتماثل مع هارفرد، على الرغم من خلو القصيدة من هذه الوقائع. غير انها ساهمت في بلورة حسّ الصوابية.
• تقول في “الإعتراف بالشعر”: “اقرّ بدور الشعر في ان يكون ما هو عليه وان يكون معونة”. بأي معنى تراه مساندة؟
– كلامي إحالة على ما قرأته في يوميات جورج سيفيريس واقتبسه في “تعويض الشعر”. يقرأ سيفيريس الشعر الإغريقي خلال الحرب في الأربعينات من القرن المنصرم ويحاول ان يكتب مقالا. يحوطه البؤس والشك والدمار بسبب الحرب الأهلية. يطالع الشعر ويخضعه للاختبار. هل يمكن هذا الشيء ان ينطوي على اي قيمة؟ يقول في لحظة معينة: “تيقّنت خلال قراءة القصيدة هذا الصباح ان الشعر مساندة”. أحسب انه اراد الحديث عن قدرة الشعر على تأمين ملاذ أخير للمرء، ذلك انه يحصّن فسحة في وعيه لن يأتي عليها التاريخ او العالم او الكوارث. يقول الشعر مخاطبا الروح “في وسعك المكوث هنا، انه المكان المعدّ لك!”.
(عن الانكليزية)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى