بين المخرج والناقد
محمد رُضا
النقد ليس عملية رأي، لكن الرأي مهم فيه. السؤال: أي رأي؟ في معظم الكتابات النقدية في عالمنا العربي وغالبية ما يُنشر غربياً على الإنترنت، هناك سرعة للخروج برأي الى الواجهة: رأي في عنوان المقالة، ورأي في السطر الأول، ورأي في كل سطر بعد ذلك، او هو تكرار للرأي ذاته في كل سطر وفقرة. التحليل، في هذه الكتابات، يأخذ دوراً مسانداً، وأحياناً لا يأخذ دوراً على الإطلاق. لكن يُفترض أن يكون التحليل هو السبب وراء عملية النقد، وليس الرأي.
نظراً الى أن الآراء كثيرة، وفي الوقت الذي لا بد من احترام كل رأي، ليس هناك من رأي يستحق أن يُعتمد مرجعاً إذا لم يكن قائماً على المعرفة. معظم الآراء المتداولة لا تقوم على معرفة، بل على حماسة عاطفية، على تفضيل شخصي، على اقتناعات منشأها البيت او الدين او المدرسة او السياسة، او عليها جميعاً، لكن قلّما قامت على المعرفة التي توفّرها الحقيقة.
“الله حاميه لهالبلد”، يقول لك البعض، لكن الحقيقة أن الله خلقه وخلقنا فيه وقال اصطفلوا. هذه ليست حماية، بل رأي نابع من حماسة في غير محلّها. “المسرحية ناجحة بكل المقاييس”، يقول لك أحدهم، بينما يمكن استخراج أكثر من مقياس يشذ على هذا الإجماع. في الغناء والرسم التشكيلي وفن المعمار كما في الموسيقى والشعر والكتابات الأدبية، يتكرر هذا النوع من النفخ في الهواء، والكل يريد أن يبدي رأياً.
في السينما، لا يختلف الوضع، لكنه أكثر ظهوراً على ما أعتقد. ذلك أن إبداء الرأي وليس التحليل او الدخول الى عمق الصورة البادية على الشاشة، قد يكون سبيلاً للتمويه عن وجود نقص معرفي في كيفية نقد الفيلم وتحليل عناصره. وقد يكون عدم إيمان بجدوى الكتابة النقدية، من الكاتب نفسه، على أنها أقل مكانة من الكتابة والتعامل مع أنواع الثقافة الأخرى. لذلك ترى عديدين يقفزون من الفيلم الى السياسة ويبدأون مقالاتهم بعبارة مثل أن الفيلم المذكور أثار نقاشاً سياسياً، كما لو أنه لو لم يثر ذلك النقاش لما كان هناك داع للحديث عن الفيلم.
الكتابة في السينما تعني الكتابة في فنون وثقافات كثيرة تحوّلت صوراً حين اشترك في صياغتها فريق عمل تحت إدارة المخرج.
أمر طبيعي أن يفهم الناقد في العملية الإنتاجية بكاملها حتى لا يكتب شيئاً مثل “وُفّق الإنتاج في اختيار بودابست (مثلاً) مكاناً للتصوير” بينما اختيار بودابست تم بعدما تبيّن أن ستديوهاتها أرخص.
كذلك أن يفهم في التصوير حتى لا يكتفي بنقل انطباعه على نحو “وكان التصوير رائعاً”، كما لو أن التصوير مجرد فتح العدسة على منظر طبيعي او أن غايته إدخال المسرّة الى النفس. وأن يفهم في السيناريو والتمثيل والمونتاج والشؤون التي تتداخل وتشكّل الفيلم الذي نراه. وبالطبع، أن يفهم قبل ذلك وبعده في الإخراج ويعرف الخيارات الكثيرة التي بيد المخرج لتأليف لغته السينمائية الخاصة وكيف نعلم إذا نجح فيها فعلاً او لا.
بعد ذلك، وسواه من الفعل المعرفي القائم على حقائق تكاد تكون علمية او هي علمية غالباً، يستطيع الكاتب أن يكوّن رأيه في ما يراه. وينتقل من صياغة “والله يا أبو خليل عجبني الفيلم كثير. موضوعو حلو”، الى صياغة “موضوع الفيلم يقوم على كذا وكذا ولهذا السبب أراه مثيراً للإعجاب”. لعله حين يعرف جوانب الفيلم بأسرها، قد ينتقل اعجابه المبدئي الى عدم إعجاب لأنه الآن أخذ يتحدّث عن علم بالأمور وليس عن الإنطباع الذي تلقّفته العين واستقبله القلب.
من ناحية موازية، فإن الناقد كونه وسيطاً ثقافياً وإعلامياً بين الفيلم والقارئ والمشاهد، يرى لينقل رؤيته، هو عصفور يغرّد وحيداً خارج السرب. هناك سربان. سرب السينمائيين أنفسهم ومعظمهم مستعد لأن يؤكد لك أنه لا يقرأ النقد، كما لو أن ذلك سيرفعه تلقائياً الى مصاف ما، وسرب الجمهور. عليه أن يختلف عن الإثنين. هو ينتظر انتهاء السينمائي من جهده وبذله ونضاله من أجل تحقيق الفيلم المبني على جهود الآخرين، لكي يأتي وهو جالس على كرسي في صالة (وربما لم يدفع ثمن التذكرة) ليكتب عنه. وهو، أي الناقد، وأتحدّث هنا عمّن يستحق حمل الصفة، يكتب للناس وليس لنفسه او لصحبه، لأن هؤلاء، على قلّتهم، يشكّلون الجمهور الموازي لجمهور الفيلم. جمهور قليل جدّاً بالمقارنة، لكنه لا يزال جمهوراً وضع ثقته في ناقده وأحب منه الكلام الذي يتولاه مع خروج كل فيلم.
حين تأسس النقد على نحو يقوم به كاتب لم يعمل في الأدب او في المسرح او في السينما، لكن تابع وتعلّم ما يكفي ليكوّن فيه وجهة نظر ومعرفة، أخذ النظر الى النقد يعرف أشكالاً متفاوتة من ردود الفعل، ومعظمها كانت سلبية حياله: من هو لكي يدخل صلب العمل ويحكم؟ كيف له أن يعرف؟ لم يحمل ريشة مسنونة كخنجر يكتب بها؟
تبلور ذلك في السينما على نحو أكثر ظهوراً واحتداماً بين الفرقاء. معظم المخرجين يقول لك إنه لا يقرأ النقد. على رغم ذلك حين يجد أن ناقداً كتب عنه ما لم يرضه، تراه ينتقده او يعاتبه (في أفضل الحالات) او يهاجمه علناً. المسألة التي كان من المفترض بها أن تكون مادة نقاش تحوّلت ردحاً من فوق الشرفات وخلافاً مستشرياً ومقاطعة دائمة.
العملية الخلاّقة ليست حكراً على المخرج. إنه قائد السفينة بلا ريب وحامل مسؤولياتها، لكنه مُحاط بمن هم، نظرياً على الأقل، خلاّقون. وإذا كان الفيلم عملاً خلاّقاً (الجيّد منه هو كذلك بلا شك) فإن نقده هو خلق مؤكد بدوره له الحق أن ينتمي إليه ولو أنه مصنوع في نطاق يخرج زمنياً ومكانياً مستقلاً عن الفيلم تماماً ¶
النهار الثقافي